الصيفُ ذو الوطء
هُنَا حَبْلٌ طويلٌ مُلَّونٌ بألوانٍ تطيب لي،
وممشاةٌ تلتوي في اتجاهٍ أمامي، وتنثالُ.
تعالوا يا جذوعي ، قفوا تحت أقدامي:
أفسدتموني،
وأقعدتم عصافيري عن فُجرها الأصيل.
أيها المفسدون اهجروني
دعوا بهائي وخيبتي يذهبان بي
إلي الجرائم المبتكرة والإثم.
سَمّيتُموني باسمكم وسمَّيتُكم باسمي،
وهبتُكم شكلي ووهبتموني شكلكم بليلٍ،
ولكنني غيرُ لابثٍ في شكلٍ،
وغيرُ منسوبٍ إلي مُسَمَّي.
أنا ما خنتُ ، أنتِ يا جذوعي التي تخونين
تطمعين أن أصير تابوتاً، وأنا العشَّاقُ للمنحدرات
فلا صفاتي تدوم لي،
ولا المنازلُ قابضةٌ علي جسمي.
لكم كمائني،
ولي المُحالُ.
(اشتبكتْ موسيقي الجرحِ بموسيقي الكونِ،
وحطَّ الطائرُ رحلته في عنقي،
استيقظَ عمرٌ يمتدُّ من الصرخةِ للخطواتْ
الطفلُ الشيخُ اختلطتْ في قدميه الطرقاتْ
فابتسمَ،
وراحَ يرتّبُ في سقطته سلسلةَ الآهاتْ)
هم فاجعون.
يرقبون العطنَ القديمَ يعابث بحري
فينتشون باقتناص الغزالات من مرعاي،
هم لا طالعون.
قال لي: الكلامُ حقلٌ وحقلان وحقول
فهاكَ محراثاً وترعةًَ صغيرةًَ وأفقاً.
وَعيتُ بعد احتراق نخلتي أنني لم أعجن الحقولَ بالحقول.
هل يندم السفهاءُ؟
استيقظوا يا عيالي،
ضَيقوا الخِناقَ حول عمري وافرحوا بجهلي.
أي شجرٍ في الكراريسِ ترسمون؟
أي شجنٍ علي الوسادات سَكَبتم عندما دقّ الجرس؟
وَيحي من الإفصاح عما لا يبينُ لي.
(يلعب بالحَرْبِة والياقوتْ
من ثقب الكون يفوتْ
يلعب بالملكوتْ
ويموتْ)
أنتَ ترسمني ولا تَعرفُ ناري،
وقعتَ في السفائن التي أبحرتْ بالقلوبِ،
فازحف علي البطن حتى تبلغَ الفاتحين،
إنني في ناظريكَ فانظرني لتلتئم.
عليمٌ أنت أن للأشجار قدرةً علي الصعود
ولكنكَ لا تعانق الخلاءَ الذي مُنح لأصابعكَ منذ عشرين عاماً.
لستَ جذراً،
ولستَ خَيلاً،
ولستَ طائرةً ورقْيةً.
جئني لكي أعلمَكَ الرمايةَ في الشّغافِ،
واسمعْ صراخ المدى:
قفوا في الحَلْقِ يا واقفين في الانسجام.
هم يمسكون الخريطةَ ويقطّعون كروكّياَ يشبه البلاد
هل الجبل يعلم؟
وأنتَ ضحكةٌ شاذةٌ علي سياقٍ مأساوي،
فاصررْ ثيابكَ في صُرّةٍ،
وعندما يتأهب الخَلْقُ للدموعِ
أطلقِ الزعقةَ التي شرَحْتُها لكَ في مساء الويلِ:
هذه المرآةُ
ناقصةٌ.
(كان الطريقُ طريقَةُ
فمضي يحاول أن يرجرجَ كأسَه في عمرِهِ
ويريقَةُ.
أقعى يفتّشُ في المياهِ عن الصّبا.
كان الغريقُ
غريقَةُ)
هل شَرَّدَتْني الفيافي؟
مرحي إذن بالخلاءِ السليبِ.
اقتسموا عند سجادتي الأغنية وشاهدوا رؤياي:
الحريقُ في ثيابي
وسنبلةُ العشيرةِ ما تزال في عشائي.
أودعتُكم حزناً وجهلاً،
فاذهبوا الآن:
زُمُرآَ
وفرادى.
وَي، أيها الفؤادُ خَبّرْني:
هل هذه الطريق صالحةٌ للخُطي المُخَفّفَةِ كاللمسة؟
هذه الخيالاتُ التي تهجم علي،
البوارجُ التي تمخرُ العظام،
الولائمُ في فناء أبي،
السواداتُ الهائمةُ: كأن كلَّ هذا الطقس لي.
أمشي فألمحُ الدارَ المثقوبةَ بالجرح المسقوفةَ بالطيوب،
وألمح الفمَ والحوتَ وكائناً يقول لي:
كُنْ مرةً منقذي،
أنت من ضِلع النجوم، والقوافي قواقعُ،
فخُذ عَوْرَتي وامرُقْ بها أيها المشاكسُ الخَذُولُ.
أسلمتُ عندها قمحي وقلتُ:
فاخبزي رغيفاً للخُلصاء.
إن ذلكَ الراقصَ الوحيدَ سيرقصُ
عندما تسكنين منوالي.
(نَحُطُّ مطرْحَ الكَمَانْ
ملاءةً،
ومطرحَ البلادِ بلدَةْ
نحطُْ في النوافذِ القميصَ فوقَه يدانْ
وتحته الجموعُ يمسكون شمعدانْ
والفتي علي النسيج مثخنٌ بطعنةِ المَوَدَّةْ.
تقول وردةٌ لوردةْ:
نحطُّ مطرحَ الزمانْ
قصيدةً،
ومطرحَ المكانْ
مخدَّةْ)
هذه طيورٌ تلعبُ في ركن غرفتي
يفوح من ريشها أرقٌ حديثٌ، وهي تغيبُ عني.
يا تيجاني،
يا ملبوسةً غصْباً،
سأعطيكِ محبرةً لترسمي وجهي
وترسمي دمامةً تفيض علي الجدْبِ في نصاعة الحروب.
يا تيجاني
يا مخلوعةُ.
الختامُ موشكٌ،
فاعلموا أن وجودي مُعَلَّقٌ علي نخلةٍ ليستْ قُرْبَ جسري.
هل فزعتِ يا صغيرةُ؟
هذا البيان كاذبٌ
إنني أُخفي بكذبتي سِرقتي للكلأ،
فأجيروني
إن هزائمي تتراكب حوالي فأحاول الغناء
ليس يسعفُ الغناءُ مثواي
لأن هذه الطيورَ تورث الشجون.
وهو موغِلٌ:
يهزمني ويمضي صموتاً كملاكٍ مشغولٍ بخليقةٍ
وأنا واقعٌ
في أموري.
النابيةُ عن موسيقاي خطفَتْني من سمائي إلي الملاءة،
صنعنا شيئاً يخصُّ البدنَ البشري،
وأفلتنا هادئَينْ.
بذا يصير الضوءُ بيتاً خشبياً،
ويقبل علي خَصاصنا سربٌ.
فأهتف: أسرابَ الخَبَلِ المُفَضَّض لك المرحي.
(كان علي قلبي
أن يتبدَّدَ في الأرغولْ
وينامَ علي الشطّ وحيداً
يتأملَ في سكتتهِ
دمَهُ المنغولْ)
جمعُكُمُ الجليلُ في داري
وأنا أقذفُ في صدوركم مساميرَ غامضةً،
وأُطلقُكم في الفيافي مشرذَمين.
أُنثاي لي،
وقد وهبتُكم قلق الجنازاتِ،
فاقلقوا تتكوَّمْ في فخذكم أرضٌ بها أهلون.
حنانيك يا جٌموحُ،
أريتني ما لم تَر العيونُ
وأسلمتَ رأسي للشطوط،
مهلاً علي عَظْمي يا فاجرُ ارحمْ،
هنا الشُّطُوطُ والشَّطَطُ.
سأكون مذعناً وخارجاً عن النسيجِ،
وساقاي سوف تصبحان إبرتين ترتقانِ
رقعةَ الأقاليمِ.
طفولاتٌ مخبوءاتٌ تحت الرمادِ،
محاريثُ تحرثُ الأحداقَ،
طوابيرُ،
نواقيسُ،
أزياءٌ،
جَمْرةٌ.
حنانَيكَ فليكن لي رقمٌ في طوابير الضحايا
قبل أن أذهبَ إلي ندّاهةٍ.
حانَ وقتُ الدَّقِ علي دورنا،
ووقتُ صدورِ الموسيقي عني.
واها لدواليب الخلاءِ التي باعت ثيابي إلي المجهول،
ومازلتُ لا أُتِقنُ مقارعةَ القرين.
(طَعَنَ الفتي نَفْسَهْ
مسَّتْهُ عابرةُ الليالي بالمحبَّةِ،
أثقلتْهُ مَسَّةٌ
ورَمَتْ خُطاه إلي الدجى مَسَّةْ
فاختار مصرعَه النقي
يجسُّه في كلّ وقتٍ من مواقيت البُكا
جَسَّةْ
خَلَقَ الفتي نَفْسَهْ)
هذه الدواليبُ قَسَّمَتْني بسيفٍ شعبي،
فقولي لمن يطرقُ نافذَتي:
عند التلولِ المصرعُ المأمولُ
وفوقَ الشواهدِ الخنجرُ.
وقولي لأمي:
أرداه كعبُه المفضوحُ.
لماذا ينساق قلبٌ وراء بُطَينِهِ؟
سيروا نحو الجنازاتِ واستيقظوا يا عيالي
من شجرة الغِناء.
كأنني ظلُّه، يطارد خطوتي حلمٌ بطئ.
افتحْ لي كهفَكَ الآن يا حلمُ
ودُلّني علي معني الرسوم التي تربّصتْ بي
في كُوي الجدران.
سَدَّتْ علي لؤمي صيحةُ الغريب،
ومَشَّتْني إلي الحافة الأخيرةِ.
الهاجسُ الذي اعتراني وعَرَّاني جري بي إلي السفوح:
كانت الماعزُ تركضُ
قلتُ: فلأتحدْ بماعزي
وأدرّبْ جريها علي حنكةِ القفز فوق المسافات.
أعلاني أزرقٌ فتي علي الرمادِ
فاختبأتُ في قناعي،
تكاثرتُ أولاداً يضربون في البيداءِ،
يثقبون خرقةَ السيدِ الصوفي.
كانوا يدبُّون في سراويلَ بيضاءَ
ويشهرون متراساً في وجه صخرةٍ مَيتَةٍ.
أدركتُ أن فنائي ورجائي متقاطعان.
الماعزُ اشتعلت في قراريط القمح،
فمن يمَيزُ لي موقعي بين الحقولِ والحريقِ؟
جريتُ صارخاً:
يا رائينَ رؤيةَ الغياهبِ هل أتاكم نبأ بي؟
نحن لن نبوحْ
فالماعزُ التي في السفوحْ
محروقةٌ.
(الوردةُ حَمّالةُ أَوْجُهْ.
لمستْ عاشقتي البحرَ بكفين مدرَّبتَينِ
علي اللمسِ الصافي،
وأنا أغرقني مَوْجُهْ.
قلتُ لصاحبتي: ما تختارينَ؟
أجابت: لكَ صحراءُ الوردِ،
ولي مَرْجُهْ.
الوردةُ حَّمالةُ أوجُهْ:
فهي أجيجُ الكونِ
وغُنْحُهْ)
لمحناه في البراري مجزَّءاً إلي بحيراتٍ،
وكنا علي البراري صفوفاً
نشعِلُ الذرةَ والفولَ ونرسمُ:
كوني أيتها البراري حليمةً.
راوغوني يا خيالةَ المدى حَيروا بصائري يا خلصاءُ
هنا شموسٌ ندّابةٌ ومحبرةٌ وبقولٌ
وبناةٌ يبنون دكاكينَ قيامتي.
إن هذه المرأةَ لها مقامٌ بجلدي
غير أنني مازلتُ في حُمَّاي وحدي،
وفي نهرٍ.
لماذا تدلق المرأةُ هذه الأسماكَ اللَّماحةَ
بين جِلدي وبيني؟
تقولين: أنا فاتحةٌ قوسي فادلفْ خلفَ رتاجي.
وبيني وبين جلدي خصومةٌ دفينةٌ
وقوسٌ يغني فريداً:
واهاً لأعوامي.
اندهي الشهودَ كي يشهدوا زاري
ويرفعوا عني غلالةً.
(نبتتْ في بئر القلبِ المتقيحِ وردةْ
ماتتْ في بئر القلبِ المتقيح وردةْ
وأنا بين النبت وبين الموتِ
بقايا لحظاتٍ
مُنْهدَّةْ)
نحن لن نبوحْ
فالجروحْ
تفوح في البراري
والختامُ موشكٌ أن يخرطني،
وأنا ما خُنتُ، أنت يا جذوعي التي تخونين،
تطمعين أن أصيرَ تابوتاً،
أنا العَشَّاقُ للمنحدراتِ،
فلا صفاتي تدوم لي
ولا المنازلُ قابضةٌ علي جسمي.
الوداعَ يا جذوعي
أنا أخلع اللحاءَ عن فؤادي،
فلا تحزنوا علي إن نزعتُ قمصاني بليلٍ.
وزُلتُ.
(مايو 1978)
(طبعة محدودة بمصر 1977
طبعة رياض الريّس 1990 )