الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

وهذا الفارس النبيل صاحب المبادئ ، يخوض غمار الفيافي والجى غير هياب ، سواء كان معه من يناصره أو كان مفردا ، فهاهو يسير في في الصحراء المقفرة لا أنيس له إلا البد ، والنسر ، والغول الخائف المضطرب ، والثريا والسحاب ، كل هذا وسيف عنترة حين يبزغ يرتعد الجن والغول خوفا من حد سيفه ، ولنسمعه يرسم صورة كلية لمسافر في الصحراء على فرسه ، الليل يحيط به ، والنجوم تؤنسه ، والغول والجن يتربص به ، ما أجمل هذه اللوحة ذات الألوان والظلال ، والحركة والسكون ، والهمس والضجيج ، والرعب والوحشة ، وكل ما يمكن أن تطلبه صورة رائعة موحية من صوت ولون و إيحاء ، فإذا استطعت اليوم شيئا فافعل ، هكذا قال عنترة:

 

دع ما مَضى لكَ في الزَّمان الأَوَّل وعلى الحقيقة إنْ عزمت فعوِّل

إنْ كنتَ أنتَ قطعتَ برَّا مقفراً وسلكْتهُ تحتَ الدُّجى في جَحْفل

فأَنا سريتُ معَ الثُّريَّا مُفرداً لا مؤنسٌ لي غيرَ جدّ المنصل

والبدرُ منْ فوق السحاب يسوقه فيسير سيرَ الراكب المستعجل

والنَّسْرُ نحْو الغَربِ يرْمي نفسَه فيكاد يعْثر بالسِّماكِ الأَعزل

والغُولُ بينَ يديَّ يخفى تارة ويعودَ يَظْهَرُ مثْلَ ضَوْءِ المَشْعَلِ

بنواظر زرقٍ ووجهٍ أسودٍ وأظافر يشبهنَ حدَّ المنجل

والجن تفرقُ حول غاباتِ الفلاَ بهماهمٍ ودمادمٍ لمَ تغْفَلِ

وإذا رأْتْ سيفي تضِجُّ مخافة ً كضَجيجِ نُوقِ الحيِّ حَوْلَ المنزل

تلكَ الليالى لو يمرُّ حديثها بوليدِ قومٍ شاب قبلَ المحمل

فاكففْ ودعْ عنكَ الإطالة َ واقتصرْ وإذا اسْتَطعْتَ اليَوْمَ شيئاً فافْعل

 

وحينما يمر البطل المغوار الذي تهابه الجن ويخافه الغول عندما يمر على ديار الأبطال ، يرحل عنها وقد تحول أبطالها إلى جماجم وعظام ، فأي صورة أروع للقوة والبسالة ممكن أن يرسمها شاعر كقول عنترة:

 

لا تَقْتضِ الدَّيْنَ إلاّ بالقَنا الذُّبُلِ ولاتحكمْ سوى الأسياف في القلل

ولاَ تُجاورْ لئاماً ذَلَّ جارُهُمُ وخلِّهمْ في عِرَاصِ الدَّارِ وارْتَحلِ

وَلاَ تَفِرَّ إذا ما خُضْتَ معركة ً فما يَزيدُ فِرارُ المرْءِ في الأَجل

يا عبلَ أنتِ سَوادُ القلْبِ فاحْتكِمي في مُهْجَتي واعدِلي يا غايَة َ الأَملِ

وإن ترحلتِ منْ عبس فلاّ تقفي في دارِ ذُلٍّ ولا تُصْغي إلى العَذَلِ

لأَنَّ أرْضهُمُ منْ بعدِ رِحْلتِنا تبقى بلاَ فارس يُدْعَى ولا بَطَلِ

سلي فزَارَة َ عنْ فِعْلي وقد نفَرتْ في جحفل حافل كالعارض الهطل

تَهُزُّ سُمْرَ القَنَا حِقْداً عَليَّ وقد رأَتْ لَهيبَ حُسامي ساطعَ الشُّعَلِ

يخبرْكِ بدرُ بنُ عمْروٍ أَنني بَطلٌ ألقى الجيوش بقلبٍ قدَّ منْ جبل

قاتلتُ فرسانَهم حتى مضَوْا فرقاً والطعنُ في إثرهمْ أمضى منَ الأجل

وعادَ بي فرَسي يمشي فتعثرهُ جماجمٌ نثرتْ بالبيض والأسل

وقد أسرتُ سَراة َ القومِ مقتدراً وعدت من فرحي كالشَّارب الثَّمل

يا بينُ رَوَّعْتَ قلبي بالفِراق وما أبكي لِفُرْقة ِ أصْحابٍ ولا طَلل

بل منْ فراق التي في جفنها سقمٌ قد زادني عللاً منه على عللي

أُمسي على وَجلٍ خَوْفَ الفِرَاقِ كما تمسي الأَعاديُّ من سيفي على وَجل

منْ لي برد الصَبا واللَّهووالغَزل هيهاتَ ما فاتَ منْ أَيَّامِكَ الأَوَّل

طوى الجَديدانِ ما قد كنْتُ أنْشُرُهُ وأنكرتني ذواتُ الأعينِ النجُل

وما ثنى الدَّهْرُ عزْمي عنْ مُهاجمة ٍ وخَوْضِ مَعْمَعة ٍ في السَّهْل والجبل

في الخيل والخافِقاتِ السُّودِ لي شُغُلٌ ليْس الصَّبابة ُ والصهباء من شُغُلي

لقد ثناني النهى عنها وأدبي فلسْتُ أبكي على رسْمٍ ولا طَلل

سلوا جوادي عني يوْمَ يحْملني هل فاتني بطلٌ أو حلتُ عن بطل

وكم جُيوشٍ لقد فرَّقتُها فِرْقاً وعارضُ الحتفِ مثلُ العارضِ الهطل

وموكبٍ خضتُ أعلاهُ وأسفله بالضَّرْبِ والطَّعنِ بينَ البيضِ والأَسل

ماذا أُريدُ بقوْمٍ يَهْدِرُونَ دمي ألستُ أولاهمُ بالقولِ والعمل

لا يشربُ الخمرإلا منْ له ذممٌ ولا يبيت لهُ جارٌ على وَجل

 

وكأي شهم نبيل يدافع عنترة عن نفسه ، ويخبر حبيبته أن سواد اللون ، غير بياض القلب ، والمرء أفعال ، وأفعال عنترة كلها خصال حميدة ، ونراه يدعو نفسه للصبر والاحتمال على ظلم من ظلموه حتى يبين الحق ، ويدخل معهم في جدال حول ماهية الشرف والنبل ، فيقول:

 

أُعادي صَرْفَ دَهْرٍ لا يُعادى وأحتملُ القطيعة والبعادا

وأظهرُ نُصْحَ قَوْمٍ ضَيَّعُوني وإنْ خانَت قُلُوبُهُمُ الودَادا

أعللُ بالمنى قلبا عليلا وبالصبر الجميلِ وان تمادى

تُعيّرني العِدى بِسوادِ جلْدي وبيض خصائلي تمحو السَّوادا

سلي يا عبلَ قومك عنْ فعالي ومَنْ حضَرَ الوقيعَة َ والطّرادا

وردتُ الحربَ والأبطالُ حولي تَهُزُّ أكُفُّها السُّمْرَ الصّعادا

وخُضْتُ بمهْجتي بحْرَ المَنايا ونارُ الحربِ تتقدُ اتقادا

وعدتُّ مخضباً بدَم الأعادي وكَربُ الرَّكض قد خضَبَ الجودا

وكمْ خلفتُ منْ بكرٍ رداحٍ بصَوْتِ نُواحِها تُشْجي الفُؤَادا

وسَيفي مُرْهَفُ الحدَّينِ ماضٍ تَقُدُّ شِفارُهُ الصَّخْرَ الجَمادا

ورُمحي ما طعنْتُ به طَعيناً فعادَ بعينيهِ نظرَ الرشادا

ولولا صارمي وسنانُ رمحي لما رَفَعَتْ بنُو عَبْسٍ عمادا

 

وكعادة الفرسان لا يحصلون على مجدهم إلا بالجد والاجتهاد ، ويقول عنترة حامدا من ينال مجده بالجد وبحد السيف ، فلا مجد بلا تعب أو اجتهاد فيقول:

 

لأَيِّ حَبيبٍ يَحْسُنُ الرَّأْيُ والوُدُّ وأكثرُ هذا الناسِ ليس لهم عهدُ

أريدُ منَ الأَيَّامِ ما لا يَضُرُّها فهل دافعٌ عنيَّ نوائبها الجهد

وما هذهِ الدنيا لَنا بمطيعة ٍ وليسَ لخلقٍ من مداراتها بدُ

تَكونُ المَواليَ والعبيدُ لعاجزٍ ويخدم فيها نفسهُ البطلُ الفردُ

وكل قريبٍ لي بعيدُ مودة ٍ وكلّ صديقٍ بين أضلعهِ حقدُ

فللهَ قلبٌ لا يبلُّ عليلهُ وِصالٌ ولا يُلْهِيهِ من حَلّهِ عَقْدُ

يكلّفني أن أطْلُبَ العِزِّ بالقنا وأيْنَ العُلا إنْ لم يُسَاعِدنيَ الجدُّ

أُحِبُّ كما يَهْواهُ رُمحي وَصارمي وَسابغة ٌ زغْفٌ وسابغة ٌ نَهْدُ

فيالكَ منْ قلبٍ توقدَ في الحشا ويالكَ منْ دمعٍ غزيرٍ له مدُّ

وإنْ تظهرِ الأيامُ كلَّ عظيمة ٍ فلي بين أضلاعي لها أسدٌ وردُ

إذا كان لا يمضي الحسامُ ينفسهِ فللضاربِ الماضي بقائمهِ حدُ

وحَوْلي منْ دُونِ الأَنامِ عِصابة ٌ توددها يخفي وأضغانها تبدو

يَسُرُّ الفتى دهْرٌ وقد كانَ ساءَهُ وتَخْدُمُهُ الأَيَّامُ وهو لها عَبْدُ

ولا مالَ إلاّ ما أَفادكَ نَيْلُهُ ثناءٌ ولا مالٌ لمنْ لاله مجدُ

ولا عاشَ إلا منْ يصاحبُ فتية ٌ غَطاريفَ لا يَعْنيهمُ النَّحْسُ والسَّعد

إذا طلبوا إلى الغزو شمروا وإن نُدِبُوا يوْماً إلى غَارَة ٍ جَدّوا

ألاليت شعري هل تبلغني المنى وتلقى بي الأعداء سابحة ٌ تعدو

جوادٌ اذا شقَّ المحافلَ صدرهُ يَرُوحُ إلى ظُعْنِ القَبائلِ أو يغْدو

خفيت على إثر الطريدة ِ في الفلا إذا هاجَتِ الرَّمْضاءُ واختَلَفَ الطَّرْدُ

وَيَصْحُبني من آلِ عَبْسٍ عِصابة ٌ لها شرفٌ بين القبائل يمتد

بَهاليلُ مثلُ الأُسدِ في كلِّ مَوْطِنٍ كأنَّ دمَ الأعداءِ في فمهمْ شهدُ

 

والفارس النبيل عندما يرى الطلول يأخذ منها العبرة والعظة فيقول:

 

جازتْ ملماتُ الزَّمانِ حدودها واسْتَفْرغَتْ أيَّامُها مجهُودَها

وقضت علينا بالمنونِ فعوَّضتْ بالكرهِ منْ بيضِ الليالي سُودها

بالله ما بالُ الأَحبَّة ِ أعْرضَتْ عنَّا ورامتْ بالفراقِ صُدودها

رضيتُ مصاحبة َ البلى واستوطنتْ بَعْد البُيُوتِ قُبُورَها ولحُودها

حرصتْ على طولِ البقاءِ وإنما مبدي النفوس أبادها ليعيدَها

عبثتْ بها الأيامُ حتى أوثقت أيدي البِلى تحْتَ التُّرابِ قيودها

فكأنما تلكُ الجسومُ صوارمٌ نحت الحمامِ من اللحودِ غمودها

نَسَجَتْ يَدُ الأَيّامِ منْ أكْفانَها حللاً وألقتْ بينهنّ عقودها

وكسا الرّبيعُ رُبُوعَهَا أَنْوَارَهُ لما سقتها الغادياتُ عهودها

وسرى بها نشرُ النسيم فعطرتْ نفحاتُ أرواحِ الشَّمالِ صَعيدَها

هل عيشة ٌ طابَتْ لنا إلاّ وقد أبْلى الزَّمانُ قديمَها وجديدَها

أو مقلة ٌ ذاقت كراها ليلة ً إلاّ وأعقبتِ الخطوبُ هُجُودَها

أو بنية ٌ للمجدِ شيدَ أساسها إلاّ وقد هَدَمَ القضاءُ وطيدَها

شقّتْ على العَليا وفاة ُ كريمة ٍ شقّتْ عليها المكْرماتُ بُرُودها

وعزيزَة ٍ مفْقودة ٍ قد هوَّنتْ مُهَجُ النّوافلِ بعدها مفقُودَها

ماتتْ ووُسِّدَتِ الفَلاَة َ قتيلة ً يا لهْفَ نفسِي إذْ رأتْ توْسيدَها

يا قيْسُ إنّ صدُورَنا وَقَدتْ بها نارٌ بأَضْلُعنا تَشُبُّ وقودَها

فانهضْ لأخذِ الثاّر غير مقصِّر حتى تُبيد من العداة ِ عديدها

 

ومن مكرمات النبلاء والشرفاء عشق الأوطان ، وإن اختلف معنى الوطن في تلك الأزمان عما نعنيه نحن بالوطن في هذه العصور ، ورغم التفرقة العنصرية التي كان يعاني منها ، إلا أن مكرماته كانت دائما ما تطغى على ظلم الأهل ، وكم من مرة سامحهم وغفر لهم ، فهم الأهل والولد ، وفيهم العشيقة وحبة روحه "عبلة" ، وعندما يرحل عنهم يحن إليهم ويقول:

 

إذا فاضَ دمعي واستهلّ على خدِّي وجاذبني شوقي إلى العلم السّعدي

أذكر قومي ظلمهم لي وبغيهم وقلة َ إنصافي على القربِ والبعدِ

بَنَيْتُ لهمْ بالسَّيفِ مجْداً مُشيّداً فلّما تناهى مجدهمْ هدموا مجدي

يعيبونَ لوني بالسواد وإنما فعالهم بالخبث أسودُ من جلدي

فواذلّ جيراني إذا غبتُ عنهمُ وطالَ المدَى ماذا يلاقونَ من بَعدي

أَتحْسبُ قَيْسٌ أنَّني بعد طردِهمْ أخافُ الأعادي أو أذلَُ من الطَّردِ

وكيفَ يحلَ الذُلّ قلبي وصارمي إذا اهتزَّ قَلْبُ الضَّدِّ يخْفِقُ كالرَّعْد

متى سلّ في كفِّي بيوم كريهة فلا فَرْقَ ما بيْنَ المشايخ والمُرْدِ

وما الفخرٌ إلاّ أنْ تكونَ عمامتي مكوّرة َ الأطرافِ بالصّارم الهندي

نديميّ إمّا غبتما بعد سكرة ٍ فلا تذكرا أطلالَ سلمى ولاهندِ

ولا تَذْكرا لي غيرَ خَيلٍ مُغيرة ٍ ونقعْ غبارٍ حالك اللّون مسودّ

فإنّ غبارَ الصّافِنات إذا علا نشقتُ لهُ ريحاً ألذَّ منَ النّدّ

وريحانتي رمحي وكاساتُ مجلسي جماجمُ ساداتِ حراصٍ على المجد

ولي منْ حسامي كلّ يوْمٍ على الثَرى نقوشُ دمٍ تغني النَّدامى عن الوردِ

وليْسَ يَعيبُ السَّيفَ إخلاقُ غِمْدِه إذا كانَ في يوم الوغى قاطع الحدّ

فلِلَّهِ دَرِّي كمْ غُبارٍ قطَعْتُهُ على ضامر الجنبين معتدلِ القدّ

وطاعنتُ عنه الخيل حتى تبّددت هزاماً كأسرابِ القطاءِ إلى الوردِ

فزَارة ُ قد هيَجتُم لَيثَ غابة ٍ ولم تفرقوا بين الضلالة ِ والرُّشدِ

فقولوا لِحصْنٍ إنْ تَعانَى عدَاوَتي يبيتُ على نارٍ من الحزنِ والوجدِ

 

ويشكو عنترة الفارس الذي لم تهمد له همه ، في شيخوخته من شيبته وبعد عن الأهل والولد ، الذين مات منهم من مات ، ورحل منهم من رحل ، فقال:

 

أَحْرَقَتْني نارُ الجَوى والبعادِ بَعد فَقْدِ الأَوْطانِ والأَولاد

شابَ رأسي فصارَ أبيض لوناً بعد ما كان حالكاً بالسواد

وتذكرتُ عبلة َ يومَ جاءت لوداعي والهمُّ والوجد باد

وَهي تُذْري من خيفَة ِ البُعْدِ دمْعاً مُستهِلاًّ بلَوْعة ٍ وَسُهاد

قلْتُ كِفِّي الدُّمُوعَ عنْكِ فقلبي ذاب حزناً ولوعتي في ازديادِ

ويحَ هذا الزَّمانِ كيفَ رَماني بسهامٍ صابتْ صميمَ فؤادي

غيرَ أني مثْلُ الحُسام إذا ما زادَ صقلاً جادّ يوم جلادِ

حنكتني نوائبُ الدهر حتى أوقفتني على طريقِ الرشادِ

ولقيتُ الأبطالَ في كل حربٍ وهزمتُ الرجال في كلِّ وادي

وتركتُ الفرسانَ صرعى بطعنٍ منْ سِنانٍ يحْكي رُؤُوس المزاد

وحسامٍ قد كنتُ من عهد شدَّا دٍ قديماً وكانَ منْ عهدِ عادِ

وقهرتُ الملوكَ شرقاً وغرباً وأَبَدْتُ الأَقْرانَ يوْم الطِّراد

قلَّ صبري على فراق غصوبٍ وهْو قد كان عُدَّتي واعتِمادي

وكذا عروة ٌ وميسرة ٌ حا مي حمانَا عِند اصْطدام الجياد

لأَفُكَّنّ أَسْرَهُمْ عن قريبٍ منْ أيادِي الأَعداءِ والحُسَّاد

 

ومن شيم الفرسان النبلاء حفظ العهد والتمسك به فيقول عنترة في ذلك:

 

إذا الريحُ هبَّتْ منْ ربى العلم السعدي طفا بردها حرَّ الصبابة ِ والوجدِ

وذكرني قوماً حفظتُ عهودهمْ فما عرفوا قدري ولا حفظوا عهدي

ولولاَ فتاة ٌ في الخيامِ مُقيمَة ٌ لما اختَرْتُ قربَ الدَّار يوماً على البعدِ

مُهفْهَفة ٌ والسِّحرُ من لَحظاتها إذا كلمتْ ميتاً يقوم منْ اللحدِ

أشارتْ إليها الشمسُ عند غروبها تقُول: إذا اسودَّ الدُّجى فاطْلعي بعدي

وقال لها البدرُ المنيرُ ألا اسفري فإنَّك مثْلي في الكَمال وفي السَّعْدِ

فولتْ حياءً ثم أرختْ لثامها وقد نثرتْ من خدِّها رطبَ الورد

وسلتْ حساماً من سواجي جفونها كسيْفِ أبيها القاطع المرهفِ الحدّ

تُقاتلُ عيناها به وَهْوَ مُغمدٌ ومنْ عجبٍ أن يقطع السيفُ في الغمدِ

مُرنِّحة ُ الأَعطاف مَهْضومة ُ الحَشا منعمة الأطرافِ مائسة القدِّ

يبيتُ فتاتُ المسكِ تحتَ لثامها فيزدادُ منْ أنفاسها أرج الندّ

ويطلعُ ضوء الصبح تحتَ جبينها فيغْشاهُ ليلٌ منْ دجى شَعرها الجَعد

وبين ثناياها إذا ما تبسَّمتْ مديرُ مدامٍ يمزجُ الراحَ بالشَّهد

شكا نَحْرُها منْ عِقدها متظلِّماً فَواحَربا منْ ذلكَ النَّحْر والعقْدِ

فهل تسمح الأيامُ يا ابنة َ مالكٍ بوصلٍ يداوي القلبَ من ألم الصدِّ

سأَحْلُم عنْ قومي ولو سَفكوا دمي وأجرعُ فيكِ الصَّبرَ دونَ الملا وحدي

وحقّكِ أشجاني التباعدُ بعدكم فها أنتمُ أشجاكم البعدُ من بعدي

حَذِرْتُ من البيْن المفرِّق بيْننا وقد كانَ ظنِّي لا أُفارقكمْ جَهدي

فإن عانيت عيني المطايا وركبها فرشتُ لدَى أخْفافها صَفحة َ الخدّ

 

ويصف نفس الفارس النبيل وخصاله فيقول:

 

لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ

ومن يكنْ عبد قومٍ لا يخالفهمْ إذا جفوهُ ويسترضى إذا عتبوا

قدْ كُنْتُ فِيما مَضَى أَرْعَى جِمَالَهُمُ واليَوْمَ أَحْمي حِمَاهُمْ كلَّما نُكِبُوا

لله دَرُّ بَني عَبْسٍ لَقَدْ نَسَلُوا منَ الأكارمِ ما قد تنسلُ العربُ

لئنْ يعيبوا سوادي فهوَ لي نسبٌ يَوْمَ النِّزَالِ إذا مَا فَاتَني النَسبُ

إِن كُنتَ تَعلَمُ يا نُعمانُ أَنَّ يَدي قَصيرَةٌ عَنكَ فَالأَيّامُ تَنقَلِبُ

اليَومَ تَعلَمُ يا نُعمانُ أَيَّ فَتىً يَلقى أَخاكَ الَّذي قَد غَرَّهُ العُصَبُ

إِنَّ الأَفاعي وَإِن لانَت مَلامِسُها عِندَ التَقَلُّبِ في أَنيابِها العَطَبُ

 

ويصف نفسه أثناء المعارك فيقول:

 

فَتًى يَخُوضُ غِمَارَ الحرْبِ مُبْتَسِماً وَيَنْثَنِي وَسِنَانُ الرُّمْحِ مُخْتَضِبُ

إنْ سلَّ صارمهُ سالتَ مضاربهُ وأَشْرَقَ الجَوُّ وانْشَقَّتْ لَهُ الحُجُبُ

والخَيْلُ تَشْهَدُ لي أَنِّي أُكَفْكِفُهَا والطّعن مثلُ شرارِ النَّار يلتهبُ

إذا التقيتُ الأعادي يومَ معركة ٍ تَركْتُ جَمْعَهُمُ المَغْرُور يُنْتَهَبُ

لي النفوسُ وللطّيرِاللحومُ ولل ـوحْشِ العِظَامُ وَلِلخَيَّالَة ِ السَّلَبُ

لا أبعدَ الله عن عيني غطارفة ً إنْساً إذَا نَزَلُوا جِنَّا إذَا رَكِبُوا

أسودُ غابٍ ولكنْ لا نيوبَ لهم إلاَّ الأَسِنَّة ُ والهِنْدِيَّة ُ القُضْبُ

تعدو بهمْ أعوجيِّاتٌ مضَّمرة ٌ مِثْلُ السَّرَاحِينِ في أعناقها القَببُ

ما زلْتُ ألقى صُدُورَ الخَيْلِ منْدَفِقاً بالطَّعن حتى يضجَّ السَّرجُ واللَّببُ

فا لعميْ لو كانَ في أجفانهمْ نظروا والخُرْسُ لوْ كَانَ في أَفْوَاهِهمْ خَطَبُوا

والنَّقْعُ يَوْمَ طِرَادِ الخَيْل يشْهَدُ لي والضَّرْبُ والطَّعْنُ والأَقْلامُ والكُتُبُ

 

وفي المقطوعة التالية ، نرى عنترة يوجز حال الفارس الشجاع الذي لا يهاب الموت ، فالموت في معارك الشرف والكرامة أعز من الحياة التي يكتنفها الجبن والذل:

 

إذا قنعَ الفتى بذميمِ عيشِ وَكانَ وَراءَ سَجْفٍ كالبَنات

وَلمْ يَهْجُمْ على أُسْدِ المنَايا وَلمْ يَطْعَنْ صُدُورَ الصَّافِنات

ولم يقرِ الضيوفَ إذا أتوهُ وَلَمْ يُرْوِ السُّيُوفَ منَ الكُماة ِ

ولمْ يبلغْ بضربِ الهامِ مجداً ولمْ يكُ صابراً في النائباتِ

فَقُلْ للنَّاعياتِ إذا بكَتهُ أَلا فاقْصِرْنَ نَدْبَ النَّادِباتِ

ولا تندبنَ إلاَّ ليثَ غابٍ شُجاعاً في الحُروبِ الثَّائِراتِ

دَعوني في القتال أمُت عزيزاً فَموْتُ العِزِّ خَيرٌ من حَياتي

لعمري ما الفخارُ بكسْب مالٍ ولا يُدْعى الغَنيُّ منَ السُّرَاة ِ

ستذكُرني المعامعُ كلَّ وقتٍ على طُولِ الحياة ِ إلى المَمات

فذاكَ الذِّكْرُ يبْقى لَيْسَ يَفْنى مَدى الأَيَّام في ماضٍ وآت

وإني اليومَ أَحمي عِرْضَ قومي وأَنْصُرُ آلَ عَبْسَ على العُدَاة ِ

وآخذُ مَالنا منْهُمُ بحَرْبٍ تَخِرُّ لها مُتُونُ الرَّاسيَاتِ

وأَتْرُكُ كلَّ نائِحَة ٍ تُنادي عليهم بالتفرقِ والشتاتِ

 

والفرسان النبلاء يعتبرون حفظ الجميل شيمة من شيم العظماء ، وهي مكرمة عربية يعتز بها الجاهلي ، فكان من الطبيعي أن يتمسك بها فارس نبيل مثل عنترة بن شداد ، ويذم من لا يتمسك بها فنراه يقول:

 

إذا جحدَ الجميلَ بنو قرادٍ وجازَى بالقَبيح بَنو زيادِ

فَهُمْ ساداتُ عَبْسٍ أيْنَ حَلُّوا كما زعمُوا وفَرْسانُ البلادِ

وَلا عَيْبٌ عليَّ ولا مَلامٌ إذا أصلحتُ حالي بالفسادِ

فإنَّ النارَ تضرمُ في جمادٍ إذا ما الصخرُ كرَّ على الزنادِ

ويُرْجَى الوصْلُ بعدَ الهَجْر حيناً كما يرجى الدنوُّ منَ البعادِ

حَلُمْتُ فما عَرَفتُمْ حقَّ حِلمي ولا ذكرَتْ عشيرَتكُمْ ودادي

سأَجْهلُ بعدَ هذا الحلم حتى أُريقَ دَمَ الحواضِر والبَوادي

ويشكوا السيفُ منْ كفي ملالاً ويسأمُ عاتقي حملَ النجادِ

وقد شاهدتمُ في يومْ طيَّ فعالي بالمهندة ِ الحدادِ

رَدَدتُ الخَيْلَ خاليَة ً حَيارَى وسُقْتُ جيادَها والسَّيفُ حادِي

ولو أنّ السنانَ لهُ لسانُ حكَى كَمْ شكَّ دِرْعاً بالفُؤَاد

وكم داع ِدعا في الحرب باسمي وناداني فَخُضتُ حَشا المنادي

يردُ جوابهُ قولاً وفعلاً ببيضِ الهند والسُّمرِ الصعادِ

فكن ياعمرو منه على حذارِ ولا تملأْ جفُونَكَ بالرُّقاد

ولولا سيدٌ فينا مطاعٌ عظيم القدر مرتفعُ العمادِ

أقمتُ الحقَّ في الهنديَّ رغماً وأظهَرْتُ الضَّلال منَ الرَّشاد

 

ويتحدث عن شجاعته كفارس نبيل ، يحارب من أجل الحق والحرية فيقول:

 

ألا مَنْ مُبْلغٌ أهلَ الجُحُود مَقالَ فتى ً وَفيٍّ بالعُهُود

سأخرجُ للبرازِ خلى َّ بالِ بقَلبٍ قُدَّ منْ زُبَرِ الحديدِ

وأطعنُ بالقنا حتى يراني عَدوي كالشرارة ِ من بعيد

إذا ما الحربُ دارتْ لي رَحاها وطاب المَوْتُ للرَّجُلِ الشَّدِيد

تَرَى بيضاً تَشَعْشَعُ في لَظاها قد التصقت بأعضادِ الزنود

فأقحمُها ولكن معْ رجالٍ كأَنَّ قلوبها حَجَرُ الصَّعيد

وَخَيْلٍ عُوِّدتْ خَوْضَ المنايا تُشَيِّبُ مَفْرِقَ الطفْلِ الوليدِ

سأَحمِلُ بالأُسودِ على أسودٍ وأخْضِبُ ساعدي بدمِ الأُسود

بمَمْلكَة ٍ عليها تَاج عِزٍّ وَقَوْمٍ من بني عَبْسٍ شُهود

فأَما القائلونَ هزبرُ قومٍ فَذَاكَ الفَخرُ لا شَرَفُ الجدود

وأمَّا القائِلونَ قَتيلُ طَعْنٍ فذلك مصرع البطل الجليد

 

وهذا الفارس النبيل يحفظ عورات النساء وشرفهم بحد السيف ، وهو الفارس الذي دافع عن حياض وشرف بنات عبس ، فيقول:

 

ألاّ قاتل الله الطلولَ البواليا وقاتل ذِكراكَ السنين الخَواليا

وقولك للشيء الذي لا تنالهُ إذا ما حَلاَ في العين: يا ليتَ ذا ليا

ونحن منعنا بالفروق نساءَنا نطرفُ عنها مشعلات غواشيا

حلَفنا لهمْ والخيلُ تَردي بنا معاً نزايلُهُمْ حتى يَهِّروا العواليا

عواليَ زُرْقاً من رماحٍ رُدينَة ٍ هرير الكلاب يتقين الأفاعيا

تَفاديتُم أَسْتاهَ نيبٍ تجَمَّعتْ على رِمَّة ٍ من ذي العِظام تفاديا

ألم تعلموا أنَّ الأسنة أحرزتْ بقيتنا لو أن للدهر باقياً

ونحْفظ عورَاتِ النِّساءِ ونتَّقي عليْهنَّ أنْ يلْقينَ يوْماً مخازيا

أبينا أبينا أن تضبَّ لثاتكمْ على مرشِفاتٍ كالظّباء عوَاطيا

وقلت لمن قد أحضرَ الموتَ نفسه ألاَ من لأَمر حازمٍ قد بدا ليا

وقلت لهم ردوا المغيرة عن هوَى سوابقها وأقبلوها النواصيا

وإنا نقودُ الخيل تحكي رؤوسها رؤوس نساءٍ لا يجدن فواليا

فما وَجدُونا بالفَرُوق أُشابة ً ولا كشفاً ولا دعُينا مواليا

تعالوا إلى ما تعلمون فإنني أرى الدَّهْر لا يُنْجي من المَوتِ ناجيا

 

ورغم المصائب التي أصابت عنترة في حياته ، وماواجهه من عند الأهل وظلمهم ، وتجني الأحبة وغدرهم ، وحرب الأعداء ونحرهم ، إلا أن الفارس النبيل لا يستسلم ، بل يقاتل في كل الأصعدة ، تحقيقا لأحلامه الكبيرة ، فيقول:

 

دهتْني صروفُ الدّهر وانْتَشب الغَدْرُ ومنْ ذا الذي في الناس يصفو له الدهر

وكم طرقتني نكبة ٌ بعد نكبة ٍ ففَرّجتُها عنِّي ومَا مسَّني ضرُّ

ولولا سناني والحسامُ وهمتي لما ذكرتْ عبسٌ ولاَ نالها فخرُ

بَنَيْتُ لهم بيْتاً رفيعاً منَ العلى تخرُّ له الجوْزاءُ والفرغ والغَفْرُ

وها قد رَحَلْتُ اليَوْمَ عنهمْ وأمرُنا إلى منْ له في خلقهِ النهى والأمر

سيذْكُرني قَومي إذا الخيْلُ أقْبلت وفي الليلة ِ الظلماءِ يفتقدُ البدر

يعيبون لوني بالسواد جهالة ولولا سواد الليل ما طلع الفجر

وانْ كانَ لوني أسوداً فخصائلي بياضٌ ومن كَفيَّ يُستنزل القطْر

محوتُ بذكري في الورى ذكر من مضى وسدتُ فلا زيدٌ يقالُ ولا عمرو

 

ومن شيم الفرسان النبلاء ، عشقهم الفطري لحياة الحرية ، والفطرة البدوية ، التي هي أغلى عنده من اللآلي والمال ، ويؤكد على هذه المعاني الجميلة شعرا فيقول:

 

بَرْدُ نَسيم الحجاز في السَّحَرِ إذا أتاني بريحهِ العطِرِ

ألذُ عندي مما حوت�

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 405 مشاهدة
نشرت فى 24 أكتوبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

131,784