الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أخلاق الفرسان:

 اشتهر عنترة بقصة حبه لابنة عمه عبلة، بنت مالك، وكانت من أجمل نساء قومها في نضارة الصبا وشرف الأرومة، بينما كان عنترة بن عمرو بن شداد العبسي ابن جارية فلحاء، أسود البشرة، وقد ولد في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، وذاق في صباه ذل العبودية، والحرمان وشظف العيش والمهانة، لأن أباه لم يستلحقه بنسبه، فتاقت روحه إلى الحرية والانعتاق. غير أن ابن الفلحاء، عرف كيف يكون من صناديد الحرب والهيجاء، يذود عن الأرض، ويحمي العرض، ويعف عن المغنم. يقول عنترة:

 

ينبئك من شهد الوقيعة أنني  أغشى الوغى وأعف عند المغنم

 

وعنترة (كمثال لأخلاقية الحرب والنبل والشهامة والحميّة)، استحق تنويه النبي محمد عندما تُلي أمامه قول عنترة:

 

ولقد أبيت على الطوى وأظلّه حتى أنال به كريم المأكلِ

 

يقول صاحب الأغاني: «قال عمر بن الخطاب للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: كيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس بن زهير فينا، وكان حازمًا فكنا لا نعصيه. وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم. وكان فينا الربيع بن زياد وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره... إلخ». ولعل في هذا المثل السالف آية وعلامة على «فن الحرب» الذي كان يعتمد في العصور القديمة على الرأي والاستراتيجية والقيادة الحكيمة، والشعر (التعبئة) والقوة القائمة على العنف والغلبة.

 

وهذه الآراء تؤكد اقتران الحيلة والحنكة في فن الحرب عند عنترة وأقرانه في عصر السيف والرمح والفروسية. لا مراء في أن عنترة كان أشهر فرسان العرب في الجاهلية، وأبعدهم صيتًا، وأسيرهم ذكرًا وشيمة، وعزة نفس، ووفاء للعهد، وإنجازًا للوعد وهي الأخلاقية المثلى في قديم الزمان وحديثه.

 

بالرغم من هذا، فقد خرج عنترة في كنف أب من أشراف القوم وأعلاهم نسبًا، ولكن محنته جاءته من ناحية أمه «الأَمَة» ولم يكن ابن الأمة يلحقه بنسب أبيه إلا إذا برز وأظهر جدارته واستحقاقه للحرية والعتق، والشرف الرفيع، وهذا ما حصل في حال عنترة الذي اشترى حريته بسيفه وترسه ويراعه (لسانه) الشعري، وأثبت أن الإنسان صانع نفسه، وصاحب مصيره، بغض النظر عن أصله وفصله، وجنسه، ولونه وشكله.

 

يقول عنترة:

 

لا تسقني ماءَ الحياة بذلةٍ *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظَلِ

ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنم *** وجهنم بالعزِّ أطيب منزل

 

وقد كانت عبلة وظلت الأثيرة في حياته وحتى مماته. وقد انتهت حياة البطل عنترة بعد أن بلغ من العمر عتيًا، ويشبه مماته ميتة أخيل، كفارس يقاتل في التسعين من عمره، في كبره، ومات مقتولاً إثر رمية سهم، وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص من قبيلة طيء. وكان لامارتين الشاعر الفرنسي معجبًا بميتة عنترة الذي ما إن أصيب بالسهم المسموم وأحسّ أنه ميت لا محالة، حتى اتخذ خطة المناضل - حتى بعد مماته - فظل ممتطيًا صهوة جواده، مرتكزًا على رمحه السمهري، وأمر الجيش بأن يتراجع القهقرى وينجو من بأس الأعداء، وظل في وقفته تلك حاميًا ظهر الجيش والعدو يبصر الجيش الهارب، ولكنه لا يستطيع اللحاق به لاستبسال قائده البطل في الذود عنه ووقوفه دونه، حتى نجا الجيش وأسلم عنترة الروح، باقيًا في مكانه، متكئًا على الرمح فوق جواده الأبجر.

 

لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ  ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ

ومن يكنْ عبد قومٍ لا يخالفهمْ  إذا جفوهُ ويسترضى إذا عتبوا

قدْ كُنْتُ فِيما مَضَى أَرْعَى جِمَالَهُمُ  واليَوْمَ أَحْمي حِمَاهُمْ كلَّما نُكِبُوا

لله دَرُّ بَني عَبْسٍ لَقَدْ نَسَلُوا  منَ الأكارمِ ما قد تنسلُ الـعربُ

لئنْ يعيبوا سوادي فهوَ لي نسبٌ  يَوْمَ النِّزَالِ إذا مَا فَاتَني النَسبُ

إن كنت تعلمُ يا نعمانُ أن يدي  قصيرةٌ عنك فالأيام تنقلب

أليوم تعلم, يانعمان, اي فتىً  يلقى أخاك ألذي غرّه ألعصبُ

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها  عند التقلب في أنيابها الــعطبُ

فَتًى يَخُوضُ غِمَارَ الحرْبِ مُبْتَسِماً  وَيَنْثَنِي وَسِنَانُ الـرُّمْحِ مُخْتَضِبُ

إنْ سلَّ صارمهُ سالتَ مضاربهُ  وأَشْرَقَ الجَوُّ وانْشَقَّتْ لَهُ الحُجُـبُ

والخَيْلُ تَشْهَدُ لي أَنِّي أُكَفْكِفُهَا  والطّعن مثلُ شرارِ النَّار يلتهبُ

إذا التقيتُ الأعادي يومَ معركة  تَركْتُ جَمْعَهُمُ المَغْرُور يُنْتَهَبُ

لي النفوسُ وللطّيرِاللحومُ ولل  ـوحْشِ العِظَامُ وَلِلخَيَّالَة ِالسَّـلَبُ

لا أبعدَ الله عن عيني غطارفة  إنْساً إذَا نَزَلُوا جِنَّا إذَا رَكِبُوا

أسودُ غابٍ ولكنْ لا نيوبَ لهم  إلاَّ الأَسِنَّة ُ والهِنْدِيَّة ُالقُضْبُ

تعدو بهمْ أعوجيِّاتٌ مضَّمرة  ٌمِثْلُ السَّرَاحِينِ في أعناقها القَببُ

ما زلْتُ ألقى صُدُورَ الخَيْلِ منْدَفِقاً  بالطَّعن حتى يضجَّ السَّرجُ واللَّببُ

فا لعميْ لو كانَ في أجفانهمْ نظروا  والخُرْسُ لوْ كَانَ في أَفْوَاهِهمْ خَطَبُوا

والنَّقْعُ يَوْمَ طِرَادِ الخَيْل يشْهَدُ لي  والضَّرْبُ والطَّعْنُ والأَقْلامُ والكُتُـبُ

 

لقد كان عنترة منذ صباه يطمح إلى أن يصبح فارس الشعر أو شاعر الفرسان فقد قال وهو مما أنشده في صباه:

 

ما ساءني لوني و اسم زبيبة             إن قصرت همتي أعدائي

فلئن بقيت لأصنعن عجائبا                 ولأبكمن بلاغة الفصحاءِ

 

وزبيبة هي أمه الأمة السوداء التي أنجبته من شداد بن قراد العبسي ، وقد ورث عنترة عن أمه سواد بشرته فلذا أنكره والده ، وجعله عبدا له ، ومن هنا بدأت معارك عنترة ، وكانت معركته الأولى من أجل التحرر من نير العبودية والثورة على التفرقة العنصرية القائمة على اللون ، إن جاز لنا استخدام هذا المصطلح في ذلك العصر – ويعبر عنترة عن ذلك بقوله:

 

لئن أكُ أسوداً فالمسكُ لوني ومَا لِسوادِ جِلدي منْ دواء

وَلَكِنْ  تَبْعُدُ الفَحْشاءُ  عَني  كَبُعْدِ الأَرْضِ عَنْ جوِّ السَّماء

 

فهو لا ينكر سواد لونه ولا يخجل منه ، ولكنه وإن كان أسود اللون فإن أخلاقه كريمة ، فهو لا يقبل الفحشاء وإنما هي بعيدة كل البعد عنه ، بعد الأرض عن جو السماء ، ونراه يكرر ذلك في أكثر من قصيدة ، كلما عيّر بسواد لونه ، وهو هنا يدعو عدم اتخاذ لون البشرة كمقياس للبشر ، فالعنصرية القائمة على اللون غير طبيعية ومرفوضة في معتقد عنترة الفارس النيل فالنبل عنده في الأخلاق ، وليس في اللون ، فها هو يقول ، وهو مما قاله في صباه:

 

ما زِلتُ مُرتَقِياً إِلى العَلياءِ حَتّى بَلَغتُ إِلى ذُرى الجَوزاءِ

فَهُنَاكَ لا أَلْوِي عَلى مَنْ لاَمَنِي خوْفَ المَمَاتِ وَفُرْقَة ِ الأَحْياءِ

فلأغضبنَّ عواذلي وحواسدي ولأَصْبِرَنَّ عَلى قِلًى وَجَوَاءِ

ولأَجهَدَنَّ عَلى اللِّقَاءِ لِكَيْ أَرَى ما أرتجيهِ أو يحينَ قضائيِ

ولأَحْمِيَنَّ النَّفْسَ عَنْ شهَوَاتِهَا حَتَّى أَرَى ذَا ذِمَّة ٍ وَوَفاءِ

منْ كانَ يجحدني فقدْ برحَ الخفا ما كنتُ أكتمهُ عن الرُّقباءِ

ما ساءني لوني وإسمُ زبيبة ٍ إنْ قَصَّرَتْ عَنْ هِمَّتي أعدَائي

فَلِئنْ بَقيتُ لأَصْنَعَنَّ عَجَائِباً ولأُبْكمنَنَّ بَلاَغَة َ الفُصحَاءِ

 

ويشكو عنترة من قسوة الدهر له ، وظلم البشر وعنصريتهم التي تسلبه حقه وحريته ، وهو في شكواه يخبرنا بعدده ومعداته ، وكذا وسائله للتخلص من هذه العنصرية ، وعناصر الحرب هي دائما الأخلاق الكريمة ، والنبل والشجاعة ، مستخدما الخيل والسيف والرمح فها هو يقول:

 

أُعادي  صَرْفَ  دَهْرٍ  لا  يُعادى  وأحتملُ  القطيعة والبعادا

و أظهرُ  نُصْحَ  قَوْمٍ  ضَيَّعُوني  و إنْ  خانَت قُلُوبُهُمُ الودَادا

أعللُ  بالمنى  قلبا  عليلا  و بالصبر  الجميلِ   و ان  تمادى

تُعيّرني العِدى بِسوادِ جلْدي وبيض خصائلي تمحو السَّوادا

سلي يا عبلَ قومك عنْ فعالي ومَنْ حضَرَ الوقيعَة َ والطّرادا

وردتُ  الحربَ  والأبطالُ  حولي  تَهُزُّ أكُفُّها السُّمْرَ الصّعادا

و خُضْتُ  بمهْجتي  بحْرَ  المَنايا  ونارُ  الحربِ  تتقدُ  اتقادا

وعدتُّ مخضباً بدَم الأعادي وكَربُ الرَّكض قد خضَبَ الجودا

و كمْ  خلفتُ  منْ  بكرٍ  رداحٍ  بصَوْتِ نُواحِها تُشْجي الفُؤَادا

وسَيفي  مُرْهَفُ  الحدَّين ِ ماضٍ  تَقُدُّ شِفارُهُ الصَّخْرَ الجَمادا

و رُمحي  ما  طعنْتُ  به  طَعيناً  فعادَ  بعينيهِ  نظرَ الرشادا

ولولا  صارمي  وسنانُ  رمحي لما رَفَعَتْ بنُو عَبْسٍ عمادا

 

ومما كان يزيد من آلامه تنكر قومه له ، ورفضهم لنسبه ، واستعباده ، وهو واحد منهم بل هو من فرسانهم الذي بنى كرامتهم وبنى عزهم ، فكان يشكو من جور قومه فيقول:

 

أُعاتِبُ دَهراً لاَ يلِينُ لعاتبِ وأطْلُبُ أَمْناً من صُرُوفِ النَّوائِبِ

وتُوعِدُني الأَيَّامُ وعْداً تَغُرُّني وأعلمُ حقاً أنهُ وعدُ كاذبِ

خَدَمْتُ أُناساً وَاتَّخَذْتُ أقارباً لِعَوْنِي وَلَكِنْ أصْبَحُوا كالعَقارِبِ

يُنادُونني في السِّلم يا بْنَ زَبيبة ٍ وعندَ صدامِ الخيلِ يا ابنَ الأطايبِ

 

ولكن لماذا صبر عنترة على كل هذه الإهانات ن والتجاهل ، والنكران له ممن هم أعلم الناس به؟. السبب ولا شك هو شرف الانتماء إلى القبيلة ، الشرف الذي دافع عنه فرسان الجاهلية ، باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر نبل الفرسان ، وشهامتهم، فنرى عنترة يتعالى على آلامه ، ويعتز بنسبه ، ويقول:

 

ولولا الهوى ما ذلَّ مثلي لمثلهم ولا خَضعتْ أُسدُ الفَلا للثَّعالبِ

ستذكرني قومي إذا الخيلُ أصبحتْ تجولُ بها الفرسانُ بينَ المضاربِ

فإنْ هُمْ نَسَوْني فالصَّوَارمُ والقَنا تذكرهمْ فعلي ووقعَ مضاربيِ

فيَا لَيْتَ أَنَّ الدَّهْرَ يُدني أَحبَّتي إليَّ كما يدني إليَّ مصائبيِ

ولَيْتَ خيالاً مِنكِ يا عبلَ طارقاً يرى فيضَ جفني بالدموعِ السواكبِ

سأَصْبِرُ حَتَّى تَطَّرِحْني عَواذِلي وحتى يضجَّ الصبرُ بين جوانبيِ

مقامكِ في جوِّ السماء مكانهُ وَباعِي قَصيرٌ عَنْ نوالِ الكَواكِبِ

 

فهو لن يسكت عن حقوق الأهل ، ولن يتكاسل عن نجدتهم فيقول:

 

سكتُّ فَغَرَّ أعْدَائي السُّكوتُ وَظنُّوني لأَهلي قَدْ نسِيتُ

وكيفَ أنامُ عنْ ساداتِ قومٍ أنا في فَضْلِ نِعْمتِهمْ رُبيت

وإنْ دارْتْ بِهِمْ خَيْلُ الأَعادي ونَادوني أجَبْتُ متى دُعِيتُ

بسيفٍ حدهُ يزجي المنايا وَرُمحٍ صَدْرُهُ الحَتْفُ المُميتُ

خلقتُ من الحديدِ أشدَّ قلباً وقد بليَ الحديدُ ومابليتُ

وفي الحَرْبِ العَوانِ وُلِدْتُ طِفْلا ومِنْ لبَنِ المَعامِعِ قَدْ سُقِيتُ

وَإني قَدْ شَربْتُ دَمَ الأَعادي بأقحافِ الرُّؤوس وَما رَويتُ

فما للرمحِ في جسمي نصيبٌ ولا للسيفِ في أعضاي َقوتُ

ولي بيتٌ علا فلكَ الثريَّا تَخِرُّ لِعُظْمِ هَيْبَتِهِ البُيوتُ

 

والشيء الآخر هو حب عنترة لابنة عمه مالك فيصبر ويكافح من أجل الحصول على رضا عبلة فيقول:

 

دَعني أَجِدُّ إلى العَلْيَاءِ في الطَّلبِ وأبلغُ الغاية َ القصوى منَ الرتبِ

لعلَّ عبلة َ تضحى وهيَ راضية ٌ على سوادي وتمحوصورة َ الغضبِ

إذا رَأتْ سائرَ الساداتِ سائرة ً تَزورُ شِعْري برُكْنِ البَيْتِ في رَجبِ

يا عبْلَ قُومي انظُري فِعْلي وَلا تسَلي عني الحسودَ الذي ينبيكِ بالكذبِ

إن  أقبلتْ  حدقُ  الفرسانِ  ترمقني  و كلُّ  مقدام  حربٍ مالَ للهربِ

فَما  ترَكْتُ  لهُمْ  وجْهاً  لِمُنْهَزمِ  و لاّ  طريقاً  ينجيهم  من   العطبِ

فبادري وانظري طعناً إذا نظرتْ عينُ الوليدِ إليه شابَ وهو صبيِ

خُلِقْتُ للْحَرْبِ أحميها إذا بَردَتْ وأصطلي نارها في شدَّة اللهبِ

بصَارِمٍ  حَيثُما  جرَّدْتُهُ  سَجَدَتْ  له  جبابرة ُ  الأعجام ِ و العربِ

وقدْ طَلَبْتُ منَ العَلْياءِ منزلة ً بصارمي لا بأُمِّي لا ولا بأَبي

فمنْ أجابَ نجا ممَّا يحاذره ومَنْ أَبى طَعمَ الْحَربِ والحَرَبِ

 

ويعاني عنترة من عبلة حبيبته ومن ظلم قبيتله ، فيعود لعتاب الدهر بشعر أرق من الصبح ، من شاعر فارس نبيل خبر الحروب وعايشها قيقول:

 

أُعاتبُ دَهراً لا يَلينُ لناصِح وأخفي الجوى في القلب والدَّمعُ فاضحى

وَقَومي معَ الأَيَّام عَوْنٌ على دَمي وَقَدْ طلَبوني بالقَنا والصَّفائِحِ

وقد أبعدوني عن حبيبٍ احبُّه فأصبحتُ في قفرٍ عن الانس نازح

وقد هانَ عندي بذلُ نفسٍ عزيزة ٍ ولو فارقتني ما بكتها جوارحي

وأَيسَرُ منْ كَفِّي إذَا ما مَددْتُها لَنَيْل عَطَاءٍ مَدُّ عُنْقي لذَابح

فيا رَبُّ لا تجْعلْ حَياتي مَذَمَّة ً ولا مَوْتتي بين النِّساءِ النَّوائِحِ

ولكن قَتيلاً يَدْرُجُ الطَّيرُ حوْلَهُ وتشربُ غربانُ الفلا من جوانحي

 

ورغم المعاناة ، فإن عنترة لم يستسلم بل حاول وحاول ، فيقول:

 

إذا قنعَ الفتى بذميمِ عيشِ وَكانَ وَراءَ سَجْفٍ كالبَنات

وَلمْ يَهْجُمْ على أُسْدِ المنَايا وَلمْ يَطْعَنْ صُدُورَ الصَّافِنات

ولم يقرِ الضيوفَ إذا أتوهُ وَلَمْ يُرْوِ السُّيُوفَ منَ الكُماة ِ

ولمْ يبلغْ بضربِ الهامِ مجداً ولمْ يكُ صابراً في النائباتِ

فَقُلْ للنَّاعياتِ إذا بكَتهُ أَلا فاقْصِرْنَ نَدْبَ النَّادِباتِ

ولا تندبنَ إلاَّ ليثَ غابٍ شُجاعاً في الحُروبِ الثَّائِراتِ

دَعوني في القتال أمُت عزيزاً فَموْتُ العِزِّ خَيرٌ من حَياتي

لعمري ما الفخارُ بكسْب مالٍ ولا يُدْعى الغَنيُّ منَ السُّرَاة ِ

ستذكُرني المعامعُ كلَّ وقتٍ على طُولِ الحياة ِ إلى المَمات

فذاكَ الذِّكْرُ يبْقى لَيْسَ يَفْنى مَدى الأَيَّام في ماضٍ وآت

وإني اليومَ أَحمي عِرْضَ قومي وأَنْصُرُ آلَ عَبْسَ على العُدَاة ِ

وآخذُ مَالنا منْهُمُ بحَرْبٍ تَخِرُّ لها مُتُونُ الرَّاسيَاتِ

وأَتْرُكُ كلَّ نائِحَة ٍ تُنادي عليهم بالتفرقِ والشتاتِ

 

كانت الحرية والتحرر من العبودية ، هي أول آمال ومطالب عنترة ولقد واتته الفرصة عندما أغار بنو طيء على مضارب بني عبس ، فأصابوا منهم وقتلوا وأسروا ما شاءوا ، وتقاعس عنترة عن الخروج إليهم ، فمر به شداد وهو جالس على فرسه بعيدا عن المعركة ، فقال له: ويلك عنترة ، كر. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر ، و إنما يحسن الحلب والضر. فقال شداد: كر و أنت حر ، فكر عنترة وحده ، وهبت في إثره رجال عبس، فهزم السرية المغيرة واستنقذ ما بين أيديهم من غنائم ، ونال حريته التي كان يرجوها فقال في ذلك:

 

عقابُ الهجرِ أعقبَ لي الوصالاَ وصِدْقُ الصَّبْرِ أظْهَرَ لي المحالا

ولولا حبُّ عبلة َ في فؤادي مقيمٌ ما رعيتُ لهم جمالا

عتبتُ الدَّهر كيفَ يذلُّ مثلي ولي عزمٌ أقدُّ به الجبالا

أَنا الرجلُ الذي خُبِّرْتِ عنه وقد عاينْتَ مَعْ خبري الفِعالا

غداة َ أتتْ بنو طيِّ وكلبٍ تهزُّ بكَفّها السُّمرَ الطّوالا

بجيشٍ كلما لاحظت فيه حسبتُ الأرضَ قد ملئتْ رجالا

ودَاسوا أَرْضَنا بمُضَمَّراتٍ فكان صَهيلُها قِيلاً وقالا

تولوا جفَّلاَ منَّا حيارى وفاتوا الظغن منهم والرِّحالا

وما حملتْ ذَوُو الأَنسابِ ضَيْماً ولا سمعتْ لداعيها مقالا

وما رَدَّ الأَعِنَّة َ غيرُ عبْدٍ ونارُ الحربِ تشتعلُ اشتعالاً

بطعن ترعدُ الأبطالُ منهُ لشدته فتجنبُ القتالا

صدمتُ الجَيْشَ حتى كَلَّ مُهري وعدتُ فما وجدتُ لهم ظلالاَ

وراحتْ خيلهمْ من وجه سيفي خِفافاً بعْد ما كانتْ ثقالا

تدوسُ على الفوارس وهْيَ تعدو وقد أخذَتْ جماجمَهُمْ نعالا

وكمَ بطل تركتُ بها طريحاً يحركُ بعد يمناهُ الشّمالا

وخلصتُ العذارى والغواني وما أبقيتُ معْ أحدٍ عقالا

 

وها هو أخيرا يحقق حريته لا منّة ولا صدقة ، و إنما حصل عليها بسن رمحه وعلى حد سيفه.

 

تُعَنِّفني زَبيبة ُ في الملاَمِ على الإقدام في يومِ الزّحام

تخافُ عليَّ أن ألقى حمامي بطعن الرُّمح أو ضربِ الحسام

مقالٌ ليسَ يَقْبَلُهُ كِرامٌ ولا يرضى به غيرُ اللّئام

يخوضُ الشَّيْخُ في بَحْر المنايا ويرْجعُ سالماً والبَحْرُ طامِ

ويأْتي الموْتُ طِفلاً في مُهودٍ ويلقى حتفهُ قبلَ الفطام

فلا ترْضى بمنقَصَة ٍ وَذُلٍّ وتقنعْ بالقليل منَ الحطام

فَعيْشُكَ تحْتَ ظلّ العزّ يوْماً ولا تحت المذلَّة ِ ألفَ عام

 

ولقد كان عنترة شأنه شأن فوارس عصره مثل عمرو بن كلثوم ، إلى تأبط شرا ، وامروء القيس ، معتزا بفتوته ورمحه وسيفه وفرسه الذين ساهموا في تحريره من ربقة الذل والعبودية ، وكانت تلك رمزا من رموز القوة التي اعتز بها شعراء وفرسان ذلك العصر ، ولذا نرى عنترة دائم الحديث عنهم في أشعاره ، راويا قصص مشاركاتهم إياه في كره وفره، وفي هذا يقول:

 

أنا في الحربِ العوان غيرُ مجهول المكان

أينما نادَى المنادي في دُجى النَّقْع يرَاني

وحسامي مع قناتي لفعالي شاهدان

أنني أطعنُ خصمي وَهْو يَقْظانُ الجَنانِ

أسقِهِ كاسَ المنايا وقِراها منهُ دَاني

أشعلُ النَّار ببأسي وأطاها بجناني

إنني ليثٌ عبُوسٌ ليسَ لي في الخلْق ثاني

خلق الرِّمحُ لكفي والحسامُ الهندواني

ومعي في المَهْدِ كانا فوْق صدْري يُؤْنِساني

فإذا ما الأَرضُ صارتْ وردة َ مثل الدّهان

والدّما تجري عليها لونها أحمرُ قاني

ورأيتُ الخيلَ تهوي في نَوَاحي الصَّحْصحان

فاسْقياني لا بكأْسٍ من دمٍ كالأرجوان

واسمعاني نغمة َ الأس ـيافِ حتى تُطرباني

أطيبُ الأصواتِ عندي حُسْنُ صوْت الهنْدواني

وصريرُ الرُّمحِ جهراً في الوغى يومَ الطَّعان

وصِياحُ القوْمِ فيه وهْو للأَبْطال داني

 

وقال أيضا:

 

سلي يا ابنة َ العبسيِّ رمحي وصارمي وما فَعلاَ في يوم حَرْبِ الأَعاجمِ

سقيتهما والخيلُ تعثرُ بالقنا دماءَ العدَا ممزوجة ًبالعلاقم

وفرَّقتُ جيشاً كانَ في جنباتهِ دمادمُ رعد تحتَ برقِ الصَّوارم

على مُهرة ٍ منْسوبة ٍ عربيَّة ٍ تطيرُ إذا اشتَدَّ الوغَى بالقَوائم

وتصهلُ خوفاً والرِّماحُ قواصدٌ إليها وتنْسَلُّ انسلاَلَ الأَراقم

قَحمْتُ بها بحرَ المنايا فحَمحَمتْ وقد غَرِقتْ في موْجِهِ المتلاطَم

وكم فارسٍ يا عَبلَ غادَرْتُ ثاوياً يَعَضُّ على كَفَّيْهِ عضَّة َ نادِمِ

تقلّبهُ وحشُ الفلاَ وتنوشهُ منَ الجوِّ أسْرابُ النُّسور القشاعِم

أحبُّ بني عبس ولو هدروا دَمي وأُظهرُ أني ظالمٌ وابْن ظالم

 

وكان دور الفرس في المعركة الجاهلية  دورا كبيرا ، وكانت العلاقة بين الفارس وفرسه علاقة حميمة ولنسمع حوار عنترة مع فرسه:

 

في حومة ِ الحربِ التى لا تشتكي غَمَرَاتِها الأَبطالُ غيْرَ تَغَمْغُمِ

إذْ يتقُون بي الأسَّنة لم أخمْ عنها ولكني تضايق مُقدَمي

لما رأيتُ القومَ أقبلَ جمعهُم يتذَامرونَ كَرَرْتُ غَيْرَ مذَمّم

يدعون عنترَ والرِّماحُ كأنها أشطانُ بئرٍ في لبانِ الأدهم

ما زلتُ أرميهمْ بثغرة ِ نحره ولِبانِهِ حتى تَسَرْبلَ بالدّم

فازورّ من وقع القنا بلبانهِ وشكا إليّ بعَبْرة ٍ وَتَحَمْحُمِ

 

ورغم بساطة الصورة الشعرية ، إلا أن قوتها وتمكن عنترة الشاعر من الوصف ، نقلنا ببراعة إلى أرض المعركة ، حيث رسم صورة كلية لما يدور في أرض المعركة ، وهي صورة متحركة ، كأنها شاشة السينما ، وعناصر الصورة من صوت ولون واضحان ، والبعد الثالث ، يبين بوضوح في خلفية الصورة ، حيث نشعر قوة المعركة ، وبسالة الفارس ، وشكوى الفرس وألمه ، وما أروع هذا الشاعر الفارس حين يقول في معلقته:

 

لَو كانَ يَدري ما المُحاوَرَةُ اِشتَكى وَلَكانَ لَو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمي

ولقد شفى نفسي وأبرأ سُقمها قيلُ الفوارس ويكَ عنتر أقدم

والخيلُ تقْتَحِمُ الخَبَارَ عوابساً ما بين شيْظمة ِ وآخر شيْظم

 

والصورة الشعرية عند عنترة – كعادة الصورة عند رشعراء الجاهلية – صورة بسيطة وقوية خالية من التعقيد والغموض ، مع لفظ واضح ومعبر وموسيقي ، فكأننا نرى بأعيننا ساحة المعركة ، وصورة الفرس والفارس شاخصة أمامنا ، في روعة وجمال ، وإذا كان هذا حال الفرس فما بالك بالفارس ، وكيف كانت شجاعته ، وهذه التساؤلات يجيب عنها عنترة في ثنايا شعره حيث يقول:

 

خلقتُ من الحديدِ أشدَّ قلباً وقد بليَ الحديدُ ومابليتُ

وفي الحَرْبِ العَوانِ وُلِدْتُ طِفْلا ومِنْ لبَنِ المَعامِعِ قَدْ سُقِيتُ

وَإني قَدْ شَربْتُ دَمَ الأَعادي بأقحافِ الرُّؤوس وَما رَويتُ

فما للرمحِ في جسمي نصيبٌ ولا للسيفِ في أعضاي َقوتُ

ولي بيتٌ علا فلكَ الثريَّا تَخِرُّ لِعُظْمِ هَيْبَتِهِ البُيوتُ

 

ولشرف الفروسية ونبلها عند عنترة بن شداد عناصر كثيرة غير التي سبقناها من الشجاعة والإقدام ، ونيل الحق والرتب العليا بحد السيف ، وفخر بالسيف والرمح والفرس ، وقد أجمل عنترة هذه العناصر حيث يقول:

 

حكّمْ سيُوفَكَ في رقابِ العُذَّل واذا نزلتْ بدار ذلَّ فارحل

وإذا بُليتَ بظالمٍ كُنْ ظالماً واذا لقيت ذوي الجهالة ِ فاجهل

وإذا الجبانُ نهاكَ يوْمَ كريهة ٍ خوفاً عليكَ من ازدحام الجحفل

فاعْصِ مقالَتهُ ولا تَحْفلْ بها واقْدِمْ إذا حَقَّ اللِّقا في الأَوَّل

واختَرْ لِنَفْسِكَ منْزلاً تعْلو به أَوْ مُتْ كريماً تَحْتَ ظلِّ القَسْطَل

فالموتُ لا يُنْجيكَ منْ آفاتِهِ حصنٌ ولو شيدتهُ بالجندل

موتُ الفتى في عزهِ خيرٌ له منْ أنْ يبيتَ أسير طرفٍ أكحل

إنْ كُنْتُ في عددِ العبيدِ فَهمَّتي فوق الثريا والسماكِ الأعزل

أو أنكرتْ فرسانُ عبس نسبتي فسنان رمحي والحسام يقرُّ لي

وبذابلي ومهندي نلتُ العلاَ لا بالقرابة ِ والعديدِ الأَجزل

ورميتُ مهري في العجاجِ فخاضهُ والنَّارُ تقْدحُ منْ شفار الأَنْصُل

خاضَ العجاجَ محجلاً حتى إذا شهدَ الوقعية َ عاد غير محجل

ولقد نكبت بني حريقة َ نكبة ً لما طعنتُ صميم قلب الأخيل

وقتلْتُ فارسَهُمْ ربيعة َ عَنْوَة ً والهيْذُبانَ وجابرَ بْنَ مُهلهل

وابنى ربيعة َ والحريسَ ومالكا والزّبْرِقانُ غدا طريحَ الجَنْدل

وأَنا ابْنُ سوْداءِ الجبين كأَنَّها ضَبُعٌ تَرعْرَع في رُسومِ المنْزل

الساق منها مثلُ ساق نعامة ٍ والشَّعرُ منها مثْلُ حَبِّ الفُلْفُل

والثغر من تحتِ اللثام كأنه برْقٌ تلأْلأْ في الظّلامَ المُسدَل

يا نازلين على الحِمَى ودِيارِهِ هَلاَّ رأيتُمْ في الدِّيار تَقَلْقُلي

قد طال عزُّكُم وذُلِّي في الهوَى ومن العَجائبِ عزُّكم وتذَلُّلي

لا تسقيني ماءَ الحياة ِ بذلة ٍ بل فاسقني بالعزَّ كاس الحنظل

ماءُ الحياة ِ بذلة ٍ كجهنم وجهنم بالعزَّ أطيبُ منزل

 

وبعد أن كلمنا عن كرامة العربي الفارس التي يحصلها بحد السيف ويدافع عنها بسن الرمح ، ويذكر لنا أن الحياة لا تستقيم مع الذل ، وخير منها الموت ، إذا كانت الحياة تحت وطأة الاستعباد ، نراه يعدد مناقبا أخرى لشرف الفروسية ، فهو ليس بالظالم أبدا ولكنه المدافع عن المظلوم ، ولا يرضى الظلم لنفسه ولا غيره ، أما ما عدا ذلك فهو سمح كريم، ويقول:

 

أثني عليَّ بما علِمْتِ فإنني سمحٌ مخالقتي إذا لم أظلم

text-alig

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 756 مشاهدة
نشرت فى 24 أكتوبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

111,488