في وادي النسيان
(أنشدت في مهرجان ذكرى شاعر النيل حافظ إبراهيم)
جَدَثٌ بمدرجة الرياح مُعفّرُ = البُومُ ضَيفُ تُرابِه والقُبَّرُ
ذَاوِي الرُّسومِ مِنَ الْبلى فكأنَّهُ = أَثُرُ النّمال مشتْ عليه الأعْصُرُ
أو خطّ رملٍ أنشأتهُ بنانةٌ = "لسطيح" من ماضي الدّهور مُسَطّرُ
أو حكمةٌ مرقومةٌ في معبدٍ = مُتهدّم شابتْ عليه الأسطرُ
أو نقشةُ في حانةٍ مَهجورةٍ = ألجامُ صُفّاحٌ بها مُتبعثرُ
عبرتْ عليه الريحُ كاسفةَ الخُطا = موهونةً فوق الثرى تتعثّرُ
والليلُ أطرقَ واجماً فكأنّهُ الزّنجيُّ = في حلكِ الأثير يُفكّرُ
والنجمُ يخفقُ رحمةً فتخالهُ = عيناً من الغيب المسَتّرِ تنظرُ
والنيل حين جرى بجانبهِ سرتْ = في موجهِ البلوى وكادَ يزمجرُ
والعبقريّةُ أعولتْ مشدوهةً = ثكلى تَفجّعُ صوبَهُ وتحسّرُ
قالتْ وقد شهدته منبوذ الحمى = وحفيرُه في البيدِ أشأمُ أغبرُ
والسافياتُ شددنَ من أوصاله = قصبا تزفُّ بجانبيه فيضفرُ
ونشرن من أكفانه رغم البلى = طاراً عليهِ يدُ النسيم تُنقّرُ
وهزجن والبؤس المخلّد مائلٌ = كالأمس في حرم الردى يتبخترُ
وأقمن عرسًا ماج فوق ترابهِ = يلهو به جنُّ الفلاة ويسمرُ
يا قبرُ لي تحت الصفائح شاعرٌ = تاريخه من نحسهِ متفجّرُ
عبر الحياة فما صغت لنشيدهِ = أُذُنٌ ولا واستْه عينٌ تبصرُ
فكأنما ألحانهُ تأويهةٌ = في الليل ردّدها شجٍ متحيّرُ
أو دمعةٌ محنوقة وقفت على = شط الجفون سجينةً لا تعبرُ
أو دعوةٌ محبوسةٌ في مهجةٍ = جلّى هُداها في الدُّجى مستغفرُ
أو همسةٌ في الغاب تائهةُ الصدى = أبلى نُفاثتها الظلامُ المصحرُ
دنيا من النسيان أُلْقِيَ مهدُه = فيها وسوّيَ لحدُهُ المتهجّرُ
ونصيبهُ بعدَ الفناءِ مصفّقٌ = يهذي لراثٍ في المنابرِ يَهترُ
ومهلّلونَ لشاعرٍ مُترنّمٍ = يلغو بأسجاع البيان ويهذِرُ
يا قبرُ هدّ بِناكَ عن جنباتهِ = مَنْ قال نسلُ العبقرية يقبرُ
فا هتزّ مُرتاعًا وغمغم جاثياً = ومضى يهلّلُ نحوها ويكبّرُ
لا تجزعي فهُنا الخلودُ وسرّهُ = خافٍ على كلّ العقول مستّرُ
لا تحسبي قبب الرخام أظلّها = بالسّرو ريّانُ الفروع منضّرُ
نفضت بساحتها العطارُ جيوبُها = فالمسكُ يسطع تحتها والعنبرُ
وأحالها فنُّ المصوّر آيةً = سرتِ الحياةُ بها فكادت تطفرُ
ومضت بها التيجانُ تلمع في الدّجى = كسرى نزيلُ رحابها أو قيصرُ
أزكى ثرًى من حُفرةٍ مطموسةٍ = دفنت بها ميْتاً لديها عبقرُ
تذرى ويذرى العظم في هبواتها = والخلد من ذرّ التراب منوّرُ
هذا ربيبكِ أعظمٌ منسيّةٌ = رجفت لها في الخافقين الأدهرُ
في مهرجان الخالدين حديثه = نغمٌ على شفةِ الخلود معطّرُ
حشدت له الأهرام ذكراً لو عدا = فيها البِلى لصبا إليهِ المحشرُ
في كلّ محرابٍ بها وبنيّةٍ = شادٍ يرتّل لحنه ويكرّرُ
شعرٌ إذا ما القيد صلّ حديده = في ظلّها يُضرى لظاهُ فيصهرُ
هزّ الجنوب بثورةٍ صخابةٍ = يغلي بها صمت القصيد ويسعرُ
تسري فيرهبها الطغاة فتبري = كالموت لا تبطي ولا تتأخرُ
من راح ينكرُ حاسدًا أصداءها = هذا دمُ الشهداء منها يقطرُ
في دنشوايَ لها رنينٌ خالدٌ = زعجَ الزمانُ دويّهُ المتسعّرُ
سجدت لصرخته المشانق رهبةً = وارتاعَ من خفقانها المتجبّرُ
وأناملُ الجلاد ودّت رحمةً = لو كلّ أنملةٍ عليها خنجرُ
ترتدّ في عنق الذي يهوي بها = قدرا يذودُ عن البريءِ ويثأرُ
تخذوا الحمامَ إلى الحمامِ وسيلةً = شنعاءَ واهتاجوا هناك وزمجروا
نصبوا مشانقهم لنا فكأنّنا = قطعانُ شاءٍ في المجازر تُنحرُ
ولو انّها نطقت لصاحت في الورى = كيدٌ لمصر وحويةٌ لا تغفرُ
إن كان بطشهم تكبّر عاتياً = فالله والوطن المفدى أكبرُ
قمْ عاشقَ النيلِ استفقْ فصباحهُ = حيرانُ في الشّطينِ أغينُ أصفرُ
صديانُ ما نقع الندى لغليلهِ = شوقاً ولا روّاهُ موجٌ يزخرُ
لهفانُ ينتظر الذي غنى له = ويصيح في نور الخميل ويزأرُ
أينَ الندى والسلسل المسكوب من = نغمٌ صداُ بلا آثامٍ يُسكرُ
أين البلابل في الضحى مسحورةً = بالشدو أنطقها الربيع المزهرُ
من شاعرٍ نهب الضحى وأذاعهُ = لحناً يغردُ في الربى ويصَفّرُ
ما شدّ أوتارًا له أو أرغناً = بل كان شطّي في يديه المزهرُ
ولهٌ بمصر وهزةٌ في قلبهِ = بغرامها كاللجّ راحت تهدرُ
وهوًى أحال الشرق قلباً ثانياً = في صدرهِ بِأسَى النوازل يشعرُ
سلْ غادة اليابان كيفَ أهاجها = في الروع عن ضافي الثياب تُشمّرُ
تمضي بمشتعلِ السّنان فإن قسا = تأسو جراحات السنان وتجبرُ
واسمع نشيد الأرز في لبنانِهِ = بردى يكاد بسحرهِ يتخدّرُ
والحور منتفض الغدائر راقصٌ = نشوانُ من رجع الغِناء مُطيّرُ
شادٍ بأظلالِ الجزيرةِ ساجلتْ = ألحانَهُ تحت الصنوبر دمّرُ
أسرى إلى الدنيا الجديدة صوتُهُ = فاهتزّ من طربٍ لديها المهجرُ
واسَى النزيل بها فكاد غريبها = يعييهِ للوطن الحبيب تذكّرُ
سل عنه في يوم الإمام خريدةً = وضحُ الهدى من صفحتيها مُسفرُ
فزعت إلى القبر الطهور وقلبها = جزعاً عليه من المحاجرِ يقطرُ
بالأمسِ علّمها التصبّرَ في الأسى = وطحت بها البلوى فكيف تصبّرُ
هتفت به يا موقظ الإسلام قُمْ = فالشرق بعدك واهنٌ متعثّرُ
كادت مآذنهُ تميد قبابها = وأَذانُها يَرثي ويهوي المنبرُ
يا ومضةً من كاملٍ قد أشرقتْ = فيضاً مِنَ النعش الطهور يُحدّرُ
هاجت على أوتار شاعره لظًى = متخشّعاً يخفي اللهيب ويسترُ
تذكو فيرهبها الجلال فتستحي = فتدسّ أنفاس الضرام وتضمرُ
الشعلة الأولى بوادٍ مظلمٍ = هالاتها من أصغريهِ تنوّرُ
قلبٌ كأنّ النيل أرضعهُ الندى = في المهد قدسيُّ الشغاف مطهّرُ
فإذا يجنّ لمصر تحسبه الصبا = في فجرها فوق الخمائل تخطرُ
وإذا يثور لها تخالُ مروجها = غيلاً يهيج على ثراه القسورُ
مجنون بالأوطان تحت لسانهِ = وجنانهِ نبعٌ لها متفجّرُ
إن الجنون بمصر أروعُ حكمةٍ = يوحى بها شرع الوفاء ويأمرُ
قم عاتب الأوطان حافظُ هاتفاً = بهواه إن جنانها متحجّرُ
شعرٌ إذا ينساهُ شعبُكَ جاحداً = فالنيل في يوم الفخار سيذكرُ
خبلَ الحزانى حين رنّ لبُؤسهم = غرباءَ بالعَوْدِ المفاجيء بشّروا
يأسو وأجراحُ الزمان دفينةٌ = كسرائرٍ في قلبه لا تنشرُ
أذكى أسايَ ولم أر الشادي به = لكنّهُ نسبُ الجحود مؤصّرُ
شعر: محمود حسن إسماعيل