أحلام الكوخ
هدم الليل ما بناه النهارُ = واستكانت للظلمة الأنوارُ
ومضى الكونُ يشرب الليل كأساً = عبقريًّا حبابُه الأقمارُ
واستحال الضجيجُ صَمتا رهيباً = زحمته الأشباُ والأسرارُ
أين راح النهار كيف أتى اللّيْـ = ـل وفيم الإشراق فيم السرار
هي حرب البقاء تنتظم الخلْـ = ـق سواءً صغارهم والكبارُ
****
وتداعت في الخافقين قلوب = حين طارت في الخافقين قلوب
عالم جامح وحظٌّ مُشِتٌّ = وصراعٌ يشيبُ منه المشيب
فهنا قلبُ عابد الخبز والما = ء جراحٌ أحلامه وندوب
يتنزّى دما فلا يجد الدمْـ = ـع يعزّي به الغريبَ الغريب
فإذا اشتاق ما يعافُ سواه = فالرياض المنظّراتُ جُدُوب
****
وهناك المعربدُ النشوانُ = قد تولّى تربيبه الشيطانُ
مستحيلات غيره ممكناتٌ = في يديه وقولهُ الفرقان
ولديه الحياةُ كأسٌ وحورا = ءُ وبحرٌ أمواجه ألحانُ
وله الأمر كلّما شاءَ أمراً = وإراداتُ عَقْلِه سلطان
فإذا شاء فالحياة اضطراب = وإذا شاءَ فالحياة أمانُ
****
قلت يا نفسُ إن هذا قضاء = قدّرته قبل الوجود السماءُ
ما أردت الوجود قبل وجودي = وبرغمي بعد الوجود الفناءُ
وأرى القصر توأمَ الكوخِ لولا = أنَّ هذا فقرٌ وذاك ثراءُ
وأراني لصاحب القصر نورا = ولو أني في عينهِ ظلماءُ
أنا إن متُّ مات فنٌّ رفيعُ = وهو إن ماتَ مات طينٌ وماءُ
****
قالت النفس إنَّ دنيا الأماني = هي دُنيا الخلود للإنسانِ
عشْ بها تنسَ أنَّ عُمركَ ولَّى = في جحيمٍ من الهوى والهوانِ
وتُريكَ الكوخَ المحطَّمَ قصرًا = شائع الظِّلِّ سامقَ البنيانِ
والكساءَ الرديم يُمسي حريرًا = كِسرويَّ الظلال والألوانِ
قلتُ: والواقع المريرُ فقالت: = ذاك داءٌ يُطبُّ بالنسيانِ
****
فطويتُ الأعوام والأياما = حلمًا رائع السنا بسَّاما
وجهلت الزمانَ فهو هباءٌ = ونسيتُ المكان والأحجاما
حين شفَّت روحي فشاهدتٌ قصرًا = يتحدَّى جماله الأحلاما
ورياضًا تُغرِّدُ الطير فيها = وتريق الألحان تندى غراما
وعبيدًا يشدون لحونٍ = في حمى القصر سُجَّدًا وقياما
****
وتَبعتُ الحادي وكان خيالا = عاش في عالم المنى أجيالا
أيُّ فنٍّ سامٍ وأي ابتداعٍ = جملَّ من صاغ حسنه وتعالى
التماثيل كالأناسيّ كادت = تتهادى رشاقةً ودلالا
والرسوم الخرساء تهتف بالرا = ئي فيجثو أمامهن جلالا
نفخ الفن روحه في حلاها = وكساها جلالةً وجمالا
****
عشت في الفقر كالأمير المطاع = شاعريَّ الرغاب والأطماعِ
كلُّ دنياي لذةٌ وجمالٌ = وانبعاثٌ إلى الهوى والمتاعِ
بين حورٍ عينٍ وأكواب خمرٍ = وأغانٍ علوية الإيقاعِ
وندامى كالزهر يرجون صفوي = ويخافون ثورتي واندفاعي
قاسموني مجدي وظنوا نعيمي = خالدًا غير مؤذنٍ بضياعِ
****
يا نداماي والليالي تجور = بي حنينٌ إلى البُكا وشعورُ
أفرغوا أكؤسَ المُدامِ فإنِّي = كاد قلبي مما يخاف يطيرُ
أنا أخشى انهيارَ مجدي وأرجو = أن يقينا أحداثه المقدورُ
يا نداماي يا لقلبي وعقلي = هاهي الأرضُ بالبناءِ تدورُ
يالقصري إذ عربد الريحُ في الجوّ = وشقَّتْ لساكنيه القبورُ
****
هبَّت الريح عاصفًا مكفهرًّا = فأحال القصرَ الممرَّدَ ذِكرى
ربِّ ما كان ذاك القصر إلا = حُلمًا لم يطل نعيمًا وعمرا
خدعتني نفسي بما قد تمنَّيْـ = ـتُ فهل كان ما تمنيت شرَّا
أم تراني جبلت من طينة البؤ = سِ فروحي ترى الفراديس قفرا
أم تراني نهبت أحلام غيري = ولنفسي مُنًى على الدهر أخرى
****
وإذا هاتفٌ يهزُّ سكوني : = أنت أخطأت في التمني ظنوني
قلتُ يا نفس قالت النفس: دعني = ما تمنيت غير ماءٍ وطينِ
ذلك القصر والندامى هباءٌ = حين تصحو على صُراخِ المنونِ
فاسمُ عن بهرج الدُّنَى وتطَّهرْ = بألوهيَّةِ الهوى والفتونِ
إن في الفنِّ قوّتي وخلودي = ويقيني إذا افتقدتُ يقيني
****
وكما يحلم الصبا بالغرامِ = وتهيم الزهور بالأنسامِ
رحتُ أبني في عالم الوهمِ مجدي = فوق ما خلَّف الهوى من حُطامي
وسرت بي الأوهام تخترق الحجْـ = ـبَ إلى عالمٍ من النور سامِ
حيث قام الأُولَمب تمرحُ فيه = آلِهَاتُ الأقداس والآثامِ
والقرابينُ من بني الفنِّ تُزجى = من بنات الأفكار والأحلامِ
****
يا مُناي اخلُدي ويا نفس طيبي = أصبح الفنُّ كله من نصيبي
أين لي بالإلهِ ربِّ الأغاريْـ = ـدِ أبولّو يملأ من الخلد كوبي
ويتوِّج رأسي بما ضفَّرته = يده من أزاهرٍ وطيوبِ
فتناهى إليَّ من جانبِ الأُفْـ = ـقِ نداءٌ كوسوساتِ الحبيبِ
يا غريبَ الفؤادِ لا قيتَ أهلاً = إنَّ ضيف الأولمبِ غير غريبِ
****
ردَّ هذا النداءُ في أُذُنيَّا = وسرى كاللهيب في أصغريَّا
فكأني مزقتُ ثوبَ تُرابي = وطويتُ السماءَ روحًا عليَّا
وكأني أصبحتُ في خاطرِ التَّا = ريخِ معنى مُجَنَّحا قُدُسيَّا
حين ألفيتني أنادم أحلا = مي رحيق الخلود طُهرًا نديَّا
وعذارى فينوي يرقصنَ حولي = ويُمجَّدنَ فنِّيَ الأبديَّا
****
ثمَّ يَمَّمنَ معبد الأربابِ = حيث توَّجنَ بالخلودِ شبابي
وتَغنَّيْنَ للإلهِ أبولُّو = آيةً خلَّدت على الأحقابِ
كلُّ ما في الوجودِ آياتُ فنٍّ = سوف تفنى والملكُ للوَّهابِ
غير أنَّ الحياةَ بالفكرِ ربَّا = نيَّةٌ طَلْقةٌ بغير حجابِ
كلُّ عبدٍ فيها إلهٌ صغيرٌ = يتسامى ما جدَّ في الأسبابِ
****
لتمنَّيتُ أن أعيش حياتي = بين تلك الفرادس الوارفاتِ
بيد أنَّ القيدَ الترابيَّ أضنا = ني فخلَّفتُ عالمَ الآلهاتِ
وهبطتُ الأرضَ الشَّقيةَ كالنَّا = سكِ يَغشى مواطنَ الشهواتِ
وبدأت الصراع في زحمةِ الأحْـ = ـياءِ سعيًا وراء هذا الفُتاتِ
وعبادي خواطرٌ عبقريَّا = تٌ ووحيٌ من السماواتِ آتِ
****
لم يكن يخطر الشقاءُ ببالي = لا ولا الخوف من صروفِ الليالي
كنت كالطفل رقةً وحياءً = ونزوعا إلى سماء الخيالِ
أحسب الأرض جنَّتي أنا وحدي = ليَ فيها ما شئتُ من آمالِ
فإذا جنَّتي سرابٌ وآما = لِيَ بيدٌ تضجُّ بالأهوالِ
وإذا بي أُجابِهُ الدهرَ فردًا = أرهقته الأيام بالأثقالِ
****
هذه الأرض لم تزد بوجودي = غير طيرٍ يسمو على التقييدِ
همُّه الحَبُّ والينابيعُ والوَكْـ = ـرُ ونجوى رفيقه الغِرِّيدِ
وأنا طائرُ الفنون فَمَا ذَنْـ = ـبيَ حتى أحيا حياة الطريدِ
اَلأَنِّي أعيشُ لِلفنِّ أعرى = وأخو الطين ناعمٌ في البرودِ
ما أذلَّ الحياةَ إن كان ذنبي = هو وزُهدي في الجوهرِ المعبودِ
****
روَّعَتْ هذه التهاويلُ حسِّي = فاستوى عندها عندها رجائي ويأسِي
وانتبهنا أنا ونفسي من الحُلْـ = ـمِ وكم ضاع فيه يومي وأمْسِي
ليت يا نفسُ والحقائقُ تبْكيْـ = ـنا وجدنا في الحلم ما كان يُنسى
ليت يا خاطري ودنياي بحرٌ = كنتَ تُرسي حيث الحقائقُ تُرسي
رُبَّ حلمٍ وَدِدْتُ لو عاشَ دهرًا = ثم ولَّى فكان ميلاد بُؤس
****
أنتِ يا نفسُ سرُّ هذا الشقاءِ = شدتَ مجدي على أساسٍ هباءِ
من سماء الخيال عُدْتُ لأَقْتَا = تَ تُرابَ الحقيقةِ النكراءِ
وهنا الكوخ فانعمي بحماه = بجمال الطبيعةِ العذراءِ
إنَّ هذا الوجود قصرٌ بناه اللَّـ = ـهُ ما بين أرضهِ والسماءِ
فدعيني أعشْ كما شاءتْ الأقـ = ـدارُ حيًّا بقاؤُهُ للفناءِ
شعر: صالح الشرنوبي