الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

 
حلمي سالم  

 

"هنا كتبت في الصبا,
أول سطر عن حبيبة مزروعة في دماء الأرض,
متخيلا جنية النبر والشهوات.
وهنا سأكتب في الخريف
أخر سطر عن حبيبة مشبوكة
في الريشة التي في الفص
وذراعي في ذراع جنية النبر والشهوات
وحين يفوح زهر البرتقال في سكة البحر,
وتصحو تخثرات الدم الذي يمشي وئيدا
(أجندلا يحملن أم حديدا؟)
سأترجم دعاء الكروان هكذا:
جرحك لي لي لي
وجرحي لك لك لك".

هذا هو جزء من قصيدة لي بعنوان "الراهب"  في ديوان "مدائح جلطة المخ" الصادر عام 2006, عن سلسلة "كتاب الهلال", بمبادرة جريئة غير مسبوقة من مجدي الدقاق, رئيس تحرير "الهلال" حينها.
مقام الشيخ "علي الراهبي" معلم أساسي من معالم قرية "الراهب" ولذلك سميت القرية باسم "الراهب", كما يقال, لأن هذا المقام  كان من أوائل الموجودات في المكان.
في قرية "الراهب" (مركز شبين الكوم – محافظة المنوفية) ولدت, في 16-6-1951, لأب يعمل تاجر موالح, وأم ربة بيت (سيأتي حديث مفصل عنهما في كتابات قادمة). كنت الثاني من سبعة أبناء أشقاء من أمي (زاهية السيد نصار) هم: ملك, ثم أنا, وأحلام, ويسري, وبيومي, ويسرية, وغادة.
 وكانت أمي هي الزوجة الثانية لأبي, الذي أنجب من زوجته الأولى (أمي مبروكة) خمسة أبناء, هم إخوتي غير الأشقاء: عطيات, عبد الله, أفراج, عبد العزيز, أفراح (سكرة), عدا من مات من أبناء الزوجتين: أكابر من أمي مبروكة, وأحمد وعفاف وسوسن من أمي.
أبعد مشهد في ذهني من أيام الطفولة بالراهب هو كتاب الشيخة أمينة, وهو "الكتاب" الوحيد في القرية الذي كنا نذهب إليه قبل دخول المدرسة الابتدائية, لنتعلم القرآن واللغة العربية ومبادئ الحساب. كانت الشيخة أمينة كفيفة, لكنها كانت تستطيع أن تميز الولد المخطئ منا في قراءة القرآن بحاسة السمع الاستثنائية عندها, وتحدد مكانه بين الأولاد الجالسين أمامها على الحصيرة (وهم يزيدون عن ثلاثين ولدا) فتنقره على أم رأسه بخيزرانه طويلة مرنة في يدها, أو تستدعيه أمامها لتفرك أذنه بحصوة خشنة بين أصابعها. لكن كتاب الشيخة أمينة كان تأسيسا متينا لي في القرآن الكريم وفي اللغة العربية وفي النطق السليم لمخارج الألفاظ, ولم يكن كذلك في الحساب, فقد ظللت من أبلد التلاميذ في الحساب (والرياضة) طوال سنوات الدراسة الابتدائية والإعدادية, إلى أن فرجها الله بدخولي القسم الأدبي في الثانوية العامة.
وقد ظلت "الشيخة أمينة" في خيالي وذاكرتي, وذكرتها في شعري بعد ذلك أكثر من مرة, وبعد وفاتها لم يعد "الكتاب" موجودا.


المدارس الثلاث التي تعلمت فيها الابتدائية والإعدادية والثانوية كان لها أسماء ذات طابع وطني, الابتدائية في "الراهب" كان اسمها :مدرسة الشهيد صبحي يوسف الابتدائية" وصبحي يوسف ابن من أبناء القرية, استشهد في حرب 1956, والمدرسة الإعدادية  التي كانت بقرية كفر المصيلحة المجاورة لقريتنا (وهي قرية الرئيس حسني مبارك), لأن قريتنا لم يكن قد صار بها مدرسة إعدادية بعد, كان اسمها مدرسة عبد العزيز فهمي الإعدادية, وعبد العزيز باشا فهمي هو أحد قادة ثورة 1919, ورفيق سعد زغلول في المنفى, ووزير الحقانية (العدل) في ذلك الوقت, وكان له فضل بناء المدارس في كفر المصيلحة, حتى قيل بعد ذلك – بحق – أن كفر المصيلحة هي القرية التي لم يكن بها أمي واحد, والمدرسة الثانوية بشبين الكوم, عاصمة المحافظة, كان اسمها "مدرسة عبد المنعم رياض الثانوية الجديدة", وعبد المنعم رياض هو الفريق قائد أركان الجيش المصري,الذي استشهد بقذيفة اسرائيلية غادرة عام 1969, أثناء تفقده قواته عند المعدية رقم 6 بالإسماعيلية, وصار عند الحركة الوطنية المصرية (و الطلابية خصوصا), بعد ذلك, رمزا للمحارب الشجاع, حتى أن الشاعر زين العابدين فؤاد ( صديقي الذي سيجئ عنه حديث مفصل في كتابة قادمة), وأحد قادة الحركة الطلابية المصرية (أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) كتب عنه قصيدة شهيرة عنوانها "رياض ما متش" كما كتب في رثائه فؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم ونزار قباني الذي قال:

"لو يقتلون مثلما قلت
لو يعرفون أن يموتوا مثلما فعلت
لو مدمنو الكلام في بلادنا
قد بذلوا نصف الذي بذلت
لم يسقط المسيح مذبوحا في تراب الناصرة".

ووصف "الجديدة" لمدرسة عبد المنعم رياض الثانوية كان تمييزا لها عن, المدرسة القديمة العريقة بشبين الكوم "مدرسة المساعي المشكورة الثانوية", وهي المدرسة التي تعلم فيها الرئيس محمد حسني مبارك, والتي ألقى فيها بعد سنوات طويلة (ربيع 2005) الخطاب الشهير الذي أعلن فيه تعديل المادة 76 من الدستور, وهي المادة الخاصة بالترشح لرئاسة الجمهورية, وهو التعديل الذي انقسم حوله الرأي العام انقساما حادا: أنصار السلطة رأوا فيه قفزة ديمقراطية هائلة, لأنه يفتح الباب لأن يترشح للرئاسة أكثر من شخص, منهيا بذلك آلية الاستفتاء العام على الرئيس القائم الحاكم وحده, وهي الآلية التي سادت في عصر عبد الناصر وفي عصر السادات, وأنصار الديمقراطية الحقة, و آمل أن أكون من بينهم, تغييرا شكليا لا جديد فيه, لأن الباب الذي فتحه للترشح بين أكثر من شخص, اشترط لذلك شروطا تعجيزية عديدة تجعل النتيجة دائما في صالح الحزب الحاكم الأوحد, وفي صالح الرئيس الحاكم الأوحد.

كنت في كتاب الشيخة أمينة (قبل دخول المدرسة الابتدائية) حينما بدأ أبي (المعلم عبد الغني سالم) يبني بيتا جديدا, لكي ينتقل إليه هو وزوجته الثانية (أمي), تاركا البيت القديم الذي كانت تقيم فيه الزوجتان والأولاد.
وأذكر أن بناء هذا البيت الجديد كان بالنسبة لي "دراما" كاملة, فهو تقريبا أول بيت يبنى في القرية بالطوب الأحمر والأسمنت المسلح, لا بالطوب اللبن والسقوف الخشبية, وكانت قطعة الأرض التي بني عليها في الأصل بركة ضحلة يخب فيها النخل الصغير والحشائش والحلفاء والماء الراكد.
وقد استأجر أبي إلى جوار اللوري الذي كان يملكه (لينقل به الموالح من الجنائن إلى الوكالات في المدن المختلفة) لوريات أخرى تنقل ترابا كثيرا اشتراه من حواف حقول القرية والقرى المجاورة, ليردم هذه البركة, ثم يقيم عليها البيت.أحفظ منظر السقالات والعمال والبنائين والأسمنت المخلوط بالزلط وهو طالع نازل بين السقالات في "قصعات" عديدة تحملها الصبايا من بنات القرية.

كان هذا المشهد يستهويني كثيرا (وقد ذكرته في الشعر غير مرة بعد ذلك). وكان الكتاب يقع في المسافة بين بيتنا القديم والبيت الجديد الذي يبنى, وفي كثير من الأيام, أخرج من بيتي القديم إلى "الكتاب" في الصباح, لكنني لا أذهب إلى "الكتاب", بل إلى موقع بناء البيت الجديد, أشاهد هذه الدراما المثيرة, وأشارك فيها بما أستطيع من عمل, وحينما أسمع صياح الأولاد (زملائي) وهم خارجون من "الكتاب" (فقد كانت لحظة الخروج من "الكتاب" لحظة إفراج وحرية), أصيح مثلهم وأجري عائدا إلى البيت القديم.

في إحدى مرات مشاهدتي ومشاركتي في هذه الدراما الكبيرة, استمعت لأول مرة إلى أغنية عبد الحليم حافظ "قولولو الحقيقة". كان هناك راديو "ترانزستور" علقه أحد البنائين بين السقالات, وفجأة انطلق مطلع اللحن : السقفة باليد ثم تدخل الآلات. كان حدثا جليلا, لحن جميل وكلام جميل:

"طال شوقي وطال تعذيبي
ولأمتى حا داري لهيبي
حا أوصف غرامي دا كله
وف أول مقابلة حاقوله
يا يصحيني قلبه
يا ينسيني حبه
لعيونه الجريئة
أبو عيون جريئه" 


 كان الجميع (وأنا في قلبهم) ينتشون بالأغنية التي تنطلق من بين خشب السقالات المتقاطعة, فيمزجون العمل ببهجة الغناء, ولم يكن يدور بخلد واحد منهم أن زمانا سيأتي, بعد ثلاثة عقود, فإذا بشيخ يدعى يوسف القرضاوي يفتي بأن "أبو عيون جريئة" حرام, لأنها أغنية تعارض مبدأ غض البصر الذي أمر به الإسلام, حتى لا تكون شهوة وفتنة!.

محمد فراج أبو النور, هو صديق الطفولة والشباب والرجولة والكهولة, هو ابن قريتي "الراهب". أنا أسبقه بعام واحد. كان أبوه هو ناظر المدرسة الابتدائية بالراهب, لذا فمكتبة المدرسة ميسرة لنا, فضلا عن مكتبة بيته العامرة بكتب التراث القديم, كنا نقضي معظم الوقت في بيت محمد أو في بيتي, وكونا شلة تضم معنا: سعيد فراج أبو النور (ابن عم محمد) ومرسي نويشي وكان يلتحق بها بعد ذلك بفترة: عادل الشرقاوي وعادل سلامة وصلاح أبو نار وصلاح بيصار.

استمر محمد فراج أبو النور خلفي بعام في كل مراحل الدراسة: الابتدائية (صبحي يوسف) الإعدادية (عبد العزيز فهمي) والثانوية (عبد المنعم رياض) ثم قسم الصحافة بآداب القاهرة, حيث كان واحدا من قادة الحركة الطلابية بجامعة القاهرة في أوائل السبعينيات, وبعد ذلك تفرقت بنا بعض السبل: ذهب إلى الاتحاد السوفيتي وحصل على درجة الدكتوراه هناك برسالة عن "صحف أحزاب المعارضة المصرية". وبعد عودته عمل للآن محللا سياسيا في جريدة :العالم اليوم".

سعيد فراج أبو النور كان أكثرنا وسامة ولطفا. دخل المدرسة الصناعية. كان واعدا بقصاص مبدع, إذ كتب بعض القصص القصيرة الجميلة. ثم دخل الجيش, وظل به إلى أن قامت حرب 1973, واستشهد في هذه الحرب. كان موت سعيد فاجعة هذه الشلة.

وقد كتبت قصيدة آنذاك, يناير 1974, عن استشهاد سعيد فراج بعنوان "مرثية إلى صديق عزيز مات في حرب السادس من أكتوبر 1973" ونشرت في صدر ديوان "سكندريا يكون الألم" يقول مقطع منها:

"أحمل جثتك على صدري العريان
وأحاول أن ازرعها في رئتي
تتمدد/ تتمدد
تفرش أرض الدلتا الأسيانة
وتسد النيل وتطفح فوف الشطين
أحذية, وصديدا, وإدانة,
مكتمل أنت الليلة في الميدان
شاهد إثبات لجريمة وأد
خلف حقول الليمون
فلتشهر جثتك المثقوبة في الحلبة:
ثاقبة, دامغة كالحربة,
هامش:
دمك الآن على كتف الجنرال النشوان رتبة".

عادل الشرقاوي, فنان تشكيلي ونحات بوهيمي وتكوين وجودي عدمي ساخر رائع. كان من قرية "المصيلحة" المجاورة لقريتنا "الراهب" وبين يوم وآخر يأتي إلينا في قريتنا, راكبا حماره الشهير. بعد ذلك بسنوات عشنا جميعا في القاهرة. وتزوج من الكاتبة سحر توفيق, وعاشا في شارع الهرم في بيت ملئ بالتماثيل والدكك الخشبية اليدوية والأكلمة الريفية والقلل والسلال الخوص وسجاجيد الحرانية. وفجأة مات تاركا جرحا آخر بعد جرح سعيد فراج أبو النور.

عادل سلامة, ابن مدير مديرية الزراعة بشبين الكوم. التحق بعد ذلك بكلية الإعلام حينما تحول قسم الصحافة بآداب القاهرة إلى كلية الإعلام عام 1974. شاعر عامية جيد, أصدر ديوانين, لكن العمل في شركات الإعلان أكل -  وما زال – وقته وجهده.

أما مرسي نويشي (كان يكبرني بثلاثة أعوام) فهو قصة طويلة سأتحدث عنها تفصيليا في كتابة قادمة.
كانت هذه الشلة تجتمع في بيت احدنا, نسمر أو نتناقش في الثقافة والأدب, وكنا نقرأ أعمالا أدبية كاملة في الجلسة الواحدة, أذكر أننا قرأنا في هذه الأمسيات: مسرحية "مأساة الحلاج" لصلاح عبد الصبور, ومسرحية "ياسين وبهية" لنجيب سرور, وديوان "مدينة بلا قلب" لأحمد عبد المعطي حجازي, ثم بعد ذلك بقليل مسرحية عبد الصبور "ليلى والمجنون".

وقد غرقنا في شعر المدرسة الرومانتيكية السابقة على ثورة الشعر الحر, بفروعها الثلاثة "الديوان" و"المهجر" و"آبوللو", فكانت قصائد إبراهيم ناجي وعبد الرحمن شكري وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة و جبران خليل جبران ومحمود حسن إسماعيل زادا يوميا للعقل والروح والوجدان.

كنا – محمد فراج أبو النور وأنا – مغرمين بالأدب الروسي, لاسيما الروايات. وقد التهمنا في فترة الصبا تلك بالقرية (سنوات الإعدادية والثانوية) معظم روايات: جوجول وتورجنيف وتولوستوي وديستويفسكي وتشيخوف وجوركي. وبعض أشعار: بوشكين ويفتو شنكو. ويبدو أن غرامنا بالأدب الروسي كان إحدى البذور اللأولى التي شكلت ميلنا إلى الفكر الاشتراكي واليساري.

كما شكل ديوان "الحماسة" لأبي تمام و"مختارات البارودي" و"المنتخب في أدب العرب" وغيرها من كتب التراث التي كنا نستعيرها من مكتبة المدرسة الابتدائية حتى بعد أن تركناها, بمساعدة ناظرها الأستاذ فراج أبو النور, أرضية أساسية في تعريفنا بأجمل أشعار التراث العربي القديم.

أنجبت "الراهب" للحياة العامة شخصيتين, كان أهلها يفخرون بهما: الشخصية الأولى هي المغنية شهر زاد, صاحبة "إديني من وقتك ساعة" و "عسل وسكر" وغيرهما.
والشخصية الثانية هي الفريق محمد الليثي ناصف, قائد الحرس الجمهوري أيام السادات والذي قام بدور بارز إلى جوار السادات في نجاح انقلاب 15 مايو 1972,  الذي قام به ضد المجموعة الناصرية في الحكم, التي اسماها "مراكز القوى", وبعد ذلك بسنوات قليلة قيل إن الليثي ناصف انتحر في لندن بالقفز من طابق شاهق, وهي طريقة الانتحار التي تكررت بعد ذلك مع سعاد حسني التي قيل أنها انتحرت بالقفز من طابق شاهق في لندن. ثم تكررت مؤخرا مع أشرف مروان..سكرتير السادات للمعلومات. الذي قيل أنه كان عميلا مزدوجا لمصر وإسرائيل. والغموض الذي أحاط بهذه "الانتحارات" الثلاثة, جعل الكثيرين يعتقدون أنها لا يمكن إلا أن تكون "بفعل فاعل"!.

عبد الرحمن عبد ربه سالم, ابن عمي عبد ربه, شقيق أبي, كان يكبرني بحوالي عشرة أعوام (في عمر أخي الكبير عبد العزيز) خريج المدرسة الثانوية الصناعية, قسم الزخرفة, وكان ينقش "الصواني" الزجاج التي تقدم عليها المشروبات بنقوش ملونة بديعة للأسرة ولأهل القرية. وحين صار "مدرس أول" في إحدى مدارس القرى المجاورة, كان يمدنا كل يوم بكتاب من مكتبة المدرسة التي يعمل بها شريطة أن نعيده له في اليوم التالي ليرجعه إلى مكانه في المكتبة. وكنا – محمد فراج وأنا – نلتهم الكتاب الذي كان رواية في الأغلب, في نفس الليلة, أو الليلة التالية, ليعيده عبد الرحمن إلى مكانه.

هذه الفترة هي التي قرأنا فيها معظم روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي. كان النزع الرومانسي متغلغلا فينا في تلك المرحلة, حتى أننا كنا نبكي مع يوسف السباعي في "فديتك يا ليلى" و "بين الأطلال" و "نادية" و " رد قلبي".
بعد ذلك بسنوات, عام 1978, مات عبد الرحمن فجأة, شعر بألم في رأسه, وظل الأطباء في طنطا يعالجونه على أساس أن الألم راجع للبرد (بسبب ركوبه الدائم للموتوسيكل). وحينما كشف عليه خيري السمرة (أستاذ المخ الشهير) قال: سرطان في المخ, لابد من عملية جراحية في التو, والتكلفة ألفان من الجنيهات, ألف قبل العملية و ألف بعد العملية. قبض الجراح الألف الأولى, ودخل العملية, وخرج منها وقد مات عبد الرحمن. ورفض السمرة أن يتقاضى الألف الثانية.

كان موت عبد الرحمن ذروة من ذرى التراجيديا في حياتي لم يكن عمره حينئذ قد تعدى الأربعين. وكان فكها مهزارا هياصا إلى درجة تبعث البهجة والمسرة في كل من حوله, فلا تستطيع أن تتخيل أن هذا الشخص الممراح سيموت سريعا, وقد ظهر ذلك التأثر, بعد ذلك في قصيدة لي في ديوان الثناء على الضعف "2007" بعنوان "عبد الرحمن":

"زخرفته على صواني المنازل
دروسه الخصوصية لي في سادسة أول
دراجته على جدار مدرسة الصنايع.
الرجل الذي لم يعرفني
لمجرد ورم خبيث أصابه في المخ".

ومن عجائب الحياة أن تمر السنوات, ويصاب خيري السمرة نفسه, أستاذ أساتذة السرطان, بالسرطان ويموت, عام 1998 تقريبا, وكتبت قطعة في نفس الديوان "الثناء على الضعف" بعنوان خيري السمرة:

"يعرف حرائق الكيمياء
يعرف مناورات الخلايا
ثم يرجع عشرين عاما
ليرى نفسه في غرفة العمليات
يستأصل من مخ عبد الرحمن
موطن الداء.
لماذا يكره الكيمياء هذه الليلة؟
ويرجو زملاءه الأطباء:
"قولو لي:
الجراحة ناجحة
لكنك ستموت
هذه الجملة, بضاعتي ردت إلي".

كان عبد العزيز فهمي شندي من جيل وأصدقاء أخي الكبير عبد العزيز, يكبرني بأكثر من عشر سنوات, كان أشقر, حسن الطلعة على طريقة الممثل حسين فهمي, بعد أن تخرج من المعهد الزراعي بشبين الكوم (قبل أن يتحول إلى كلية الزراعة بعد ذلك) أتته بعثة إلى ألمانيا, وأظنه (فيما أذكر) كان أول شاب في القرية يسافر في بعثة علمية إلى الخارج, ولذا كان يوم سفره يوما بهيجا في القرية كلها. ما زلت أذكر "البوت" الأسود الذي اشتراه قبل سفره لأن ألمانيا برد وثلج. بعد عودته من الخارج دخل الجيش, ضابط إحتياط, ومكث في القاهرة. في نفس الوقت توظف في القاهرة أخي عبد العزيز بعد حصوله على دبلوم الزراعة (في شركة النيل العامة للطرق والكباري), وتوظف في القاهرة كذلك جلال عباس, زوج أختي ملك (الذي صار بمثابة أخ كبير آخر لي) بمصنع في مسطرد. وسكن الثلاثة معا في شقة صغيرة في شارع الجيش بباب الشعرية, يملكها الحاج إبراهيم الشبيني, قريب أبي, والخال المباشر لجلال, وكنت في الأجازات الدراسية أذهب معهم إلى القاهرة بضعة أيام, ومعهم شفت القاهرة لأول مرة. وشفت شكري سرحان على المسرح (وكنت في الصبا, وأظنني لا زلت, من عشاق شكري سرحان) في مسرحية "آه يا ليل يا قمر" مع سهير البابلي وعبد الحفيظ التطاوي. كانت المسرحية من تأليف نجيب سرور, وهي الجزء الثاني من "ياسين وبهيه" التي كنا محفظها في القرية عن ظهر قلب, ونردد بين أنفسنا بعض مطالعها قائلين:

"يا أبي
يا نصف فدان يتيم
يا سيولا من عرق".

كما حفظنا بعد ذلك بسنوات "الأميات" الشهيرة لنجيب سرور.
كان ينافسني الغرام بشكري سرحان صديق من أصدقاء صبا "الراهب" يونس عبد الفتاح غنيم, ابن أحد شيوخ الطريقة البيومية بالراهب. كنا نمثل بعض مشاهد أفلام شكري سرحان, ونتصارع على من منا يمثل دور شكري سرحان (وفي تقمص صلاح قابيل). دخل يونس بعد ذلك سلك الشرطة. وهو الآن عمدة الراهب.

كما شفت في القاهرة لأول مرة (في صحبة عبد العزيز وعبد العزيز وجلال) في فيلم "حكاية حب" لعبد الحليم حافظ و مريم فخر الدين في سينما "مصر" بشارع الجيش, وبكيت في مشهد توديع عبد الحليم لأخيه الصغير قبل سفره لإجراء عملية  جراحية صعبة في لندن, وهو يوصيه أن يضع الورد على قبره, وأن يتذكر "الرز المفلفل" الذي كان يصنعه له. وظللت, حتى الآن, أبكي في هذا المشهد كلما عرض الفيلم في التلفزيون.

وقد أشرت إليه, بعد ذلك بسنوات في قطعة بعنوان "رومانسية" تقول:

"نقاوم الشجن بعصر ما بعد الصناعة
لكن مشهد عبد الحليم و أخيه
في "حكاية حب"
ينتقم للقتلى".

كان عبد العزيز فهمي شندي قد أصيب في ساقه أثناء حرب 1967, وخرج من الجيش باعرجاج في الساق. كانوا يأخذونني إلى السينما والمسرح والفسحات المختلفة. زذات يوم اصطحبني عبد العزيز فهمي شندي إلى فيلم "ابنة رايان" في سينما مترو, وكانت المفاجأة المدهشة لي: بطل الفيلم, الضابط الإنجليزي (الذي أحبته ابنة رايان, وهي الأيرلندية التي يقاوم أهلها الاحتلال الإنجليزي) كان وسيما فارعا, وذا ساق خشبية, يمشي بعرج واضح. كان شبيها بعبد العزيز فهمي, أو كان عبد العزيز فهمي شبيها به. كنت أنظر إلى الضابط الذي بجواري تارة, وأنظر إلى الضابط الذي على الشاشة تارة أخرى, و أعجب: هل تقلد السينما الحياة, أم تقلد الحياة السينما؟.

بعد ذلك انتقل عبد العزيز أخي وجلال إلى العمل بشبين الكوم, وسكن عبد العزيز فهمي بميت عقبة, حيث زرته مرات أثناء دراستي الجامعية. وظللنا على البعد أصدقاء أعزاء, بالرغم من فارق العمر بيننا. وحينما فزت بجائزة كفافيس عام 1997, وأقيم للفائزين احتفال بدار الأوبرا, حضره بالطبع بعض إخوتي من القرية. حدثت عبد العزيز فهمي في التلفون, وقلت له: أريدك أن تكون بين الجالسين في هذا الاحتفال أمامي. وكان حضوره مفاجأة جميلة لي.

هو الآن يعيش في القرية, لا نتقابل إلا في العزاءات أو الجنازات, حينما يموت من القرية عزيز أو قريب و أذهب لحضور الجنازة أو العزاء. مازال جميلا, وإن خطه الشيب, ورقيقا: بشاربه وشعره الأشقر المفروق فرقا حلوا, وعينيه الخضراوين.
عبد المنعم همام بدر, ابن الحاج همام بدر, ناظر عزبة محمد بك عبد العزيز باشا فهمي بكفر المصيلحة, المجاورة لقريتنا, وصديق أبي. كان محمد بك له عزبة في كفر المصيلحة, بلدة أبيه عبد العزيز باشا فهمي, وله في الراهب أرض وجنائن,وعزبة (كنا نلعب في الأرض الخلاء التابعة للعزبة كرة القدم). وكان أبي كل عام تقريبا يشتري ثمر جنينة البرتقال واليوسفي والمانجو التابعة لمحمد بك عبد العزيز فهمي, الموجودة على طريق قريتنا الزراعي, بدون مزاد, أي باتفاق شبه دائم.

كانوا يحكون في القرية أن محمد بك عبد العزيز فهمي, حينما سمع في الراديو نبأ قيام ثورة يوليو 1952, أطلق الرصاص على الراديو فحطمه, كما فعل, بالضبط, الباشا والد "إنجي" في فيلم "رد قلبي".

يسبقني عبد المنعم همام بدر بثلاثة أو أربعة أعوام. دخل كلية الطب البيطري بجامعة القاهرة. وأثناء الحركة الطلابية (عامي 72,73) هربت عنده في شقته بالزيتون, يعولني ويعطيني قمصانه وجواربه ويتستر على, على الرغم من أنه لم يكن سياسيا, كان معارضا رومانتيكيا صامتا. وكان مفتونا – مثلي – بجبران خليل جبران, يقرأ لي منه, و أقرأ له منه. وأثناء الأسبوعين اللذين اختبأت فيهما عنده كتبت المسرحية الشعرية الأولى و الأخيرة في حياتي. لا أدري أين هي الآن. و أذكر أنها كانت عن رحيل عبد الناصر, مستلهما فيها مسرحية "ألفريد فرج" "ليلة مصرع جيفارا العظيم". ومع بدء الدراسة أخرجها لفرقة كلية الآداب المخرج سامي صلاح, بعد أن أعطاها اسم "سفسطة", بطولة سمية الألفي, زميلتنا بكلية الآداب آنئذ, وطارق هاشم (مخرج الإعلانات الشهير فيما بعد) الطالب بكلية الآداب كذلك, ثم طلبت الجامعة الأمريكية بالقاهرة عرضها, ويوم العرض حاصر الأمن الجامعة الأمريكية لمنعه. وهربونا من الأبواب الخلفية. ولم تعرض المسرحية.

عبد المنعم همام بدر, بعد سنوات, عاد إلى شبين الكوم, وعاش في "الراهب", يعالج الحيوانات والمواشي لأهل القرية, مجانا في معظم الحالات, ويرعى "منحل عسل" أقامه على شط الرياح المنوفي (أحد فروع النيل الكبيرة) الذي يمر بقريتنا, ويقرأ الروايات.

على هذا الشط قضينا أمسيات كثيرة جميلة, أنا ومحمد فراج وسعيد فراج وعبد المنعم همام بدر وغيرهم من أصدقاء القرية والطفولة, نقرأ, أو نتأمل صفحة النهر, جالسين على ساقية قديمة, أو نرقب الصبايا وهم يملأن الجرار أو يغسلن الأواني و الهدوم (كانت مرافق المياه لم تدخل القرية بعد), وتسحرنا صفوف النخيل على الضفة المقابلة (قرية شنوان) ساعة الغروب. ويذوب وجداننا مع محمد عبد الوهاب وهو يتغنى بكلمات محمود حسن إسماعيل في "النهر الخالد":

"سمعت في شطك الجميل
ما قالت الريح للنخيل
يسبح الطير أم يغني
ويشرح الحب للخميل
وأغصن تلك أم صبايا
شربن من خمرة الأصيل؟".

"يوم رأيت جيفارا". هذا هو عنوان إحدى افتتاحيات مجلة "أدب ونقد" التي كتبتها ساردا لحظات ذلك اليوم البارز من أيام حياتي, الذي رأيت فيه بأم عيني أسطورة النضال والفداء اليسارية الخالدة "أرنستو تشي جيفارا", في أحد أيام عام 1965.

كان جيفارا, وزير الصناعة في كوبا حينذاك, في زيارة لجمال عبد الناصر ومصر, وقرر ناصر اصطحابه ألى شبين الكوم, حيث سيفتتح "مصنع شبين الكوم للغزل والنسيج" ويلقي خطاب ذكرى 23 يوليو في ستاد شبين الكوم الرياضي (وهو الخطاب الذي قطع فيه ناصر العلاقات مع ألمانيا الغربية).

أخرجت منظمة الشباب الاشتراكي تلاميذ المدارس الإعدادية والثانوية ليكونوا في استقبال الزعيمين: ناصر وجيفارا. وجاءت وقفة تلاميذ مدرستنا الإعدادية في المكان الذي سينزل فيه الزعيمان من السيارة المقفولة, لينتقلا إلى السيارة المكشوفة التي سيدخلان بها المدينة و يحييان الجماهير. كانت لحظات من الهستريا التاريخي البهيجة التي سلمنا فيها على الأسطورتين ولمسناهما وتمسحنا بهما ورأينا عينيهما النافذتين وابتسامتهما الحانيتين.

أثناء الحركة الطلابية, بعد ذلك, كنت كلما رددنا وراء الشيخ إمام أغنيته عن جيفارا أحسست أنني الوحيد بين زملائي الذي أغني لصديقي وصاحبي. بعد ذلك بسنوات, زرت كوبا عام 2008, ضمن وفد ثقافي ضم: أحمد عبد المعطي حجازي وخيري شلبي و محسن شعلان وأنور إبراهيم و رضا عبد الرحمن. ورأيت صور جيفارا في كل مكان وعلى كل قميص وعلى كل جدار. وحينما عدت كتبت قصيدة عن زيارة كوبا من ثلاثة مقاطع بعنوان "تبدأ القبلة من حرب العصابات", كان المقطع الثالث منها بعنوان "جيفارا" ومنه:
  " أنا الرومانتيكيُ الذي سيصير لعنة كل خطة حربية,
أنا المتّيمُ الرهيف الذى غدا أيقونة في المطعم الحديث,
وفي صدر الغواني اللواتى يغرّهن الثناء , وفي صالة الرقص.
مرّ من هنا المؤرّخون
تصفحوا دفتر اليوميات , ليجدوا بعد أسطر الشَّعر
الوصايا الأربع :
الأولى : أنا أقرب إلى كمشيش من حبل الوريد .
الثانية : متُ كما ينبغي لعاشقٍ أن يموت .
الثالثة : جهزّوا جيش الخلاص , كما قال المغني الكفيف .
الرابعة: لا نامتْ أعين الجبناء".
خالي الزناتي (ابن عم أمي, لأن أمي لم يكن لها أخوة أولاد). قرية كفر العشري التابعة لمركز منوف   بمحافظة المنوفية. صياد سمك بارع. معظم أهل كفر العشري صيادون, والقلة القليلة هم المزارعون أو الفلاحون أو الذين لديهم أرض زراعية. كانت القرية, وما تزال, تطل على بحيرة كبيرة عامرة بالسمك.
أحببت خالي الزناتي حبا كثيرا. كان يأخذني معظم فترات أجازات الصبا أعيش معه عدة أيام أو عدة أسابيع, ويأخذني معه في القارب حين ينزل البحيرة للصيد. فارع وسيم, ذو لثغة جميلة, غير متعلم لكنه فهيم و محب للمعرفة و المغامرة, وواسع الإدراك والروح. كان الزناتي لا يصطاد إلا ليلا, يقضي الليل كله في القارب إلى مطلع الفجر. كان يقول إن هذه الفترة هي أفضل فترة لصيد السمك, كان يصطحب راديو صغيرا, ويلعلع صوت أم كلثوم في سكون الليل والماء. يرمي الشبكة ولا يلمها بما حجزت من السمك, بل يغطس خلفها, بعد أن تكون الشبكة قد رست على أرض البحيرة حاجزة تحتها السمك, ينزل وراءها ليخلص السمك من الشبكة سمكة سمكة, وذلك حتى لا تفلت سمكة واحدة. كان معاونه (عم فكيه) يشوي بعض السمك الذي يقذفه خالي على "منقد" (راكية) صغير في القارب, فنأكل سمكا طازجا مشويا شهيا مع العيش "البتاو" الذي اشتهرت به كفر العشري, ثم يضع براد الشاي على المنقد لنشرب أثقل شاي.
كان منظرا مثيرا وهو يخرج من الماء, كل برهة, ويرمي في القارب السمكتين أو الثلاث اليت خلصها, ثم يهبط ثانية, وهكذا. كتبت قصيدة عن خالي الزناتي, فيما بعد, بعد أن مات في منتصف التسعينيات, بعنوان "الزناتي", ضمن مجموعة من القصائد عن البحر والصيد والصيادين. تقول:
"الصيادون المحبوبون
يمكن, أيضا, أن يكونوا مخادعين
خالي الزناتي
الوسيم ذو اللثغة
كان خبيثا مستقويا.
من موقعي بقاربه
كنت أراه يضرب سطح الماء
بعوارض الخشب
حتى يثير في السمك الهاجع الاضطراب
لينتفض مذعورا
فيقع في شباك الزناتي.
وحينما كنت أتألم من قسوة المكيدة
يقول: استمع إلى أم كلثوم
كان الراديو تحت سقف القارب يرن فيه الصوت:
سهران لوحدي
أناجي طيفك الساري".
أقدم مشهدين للموت في عيني كانا موت أخي الصغير أحمد, و موت سامي المليجي. كنت في "الكتاب" وأنجبت أمي ولدا أسموه أحمد (على اسم والد أبي), وما إن بلغ عاما واحدا تقريبا حتى مات بالدفتيريا. كنت عائدا من "الكتاب" بالصياح السعيد الذي يطلقه الأولاد المحررون من قرع الخيزرانة على الرأس ومن دعكة الحصوة في الأذن. وما إن وصلت للبيت حتى رأيت أمي تبكي أحمد. خنقه "الخناق" قبل أن تصل به إلى المستشفى. (وكذلك ماتت أختي عفاف عن أربعة أعوام, و أختي سوسن عن خمسة أعوام).
أما سامي المليجي, ابن جارنا عم عبد العال المليجي, فكان يسبقني بعامين, كنت في السنة الأولى الإعدادية, وكنا نلعب جميعا على البحر (الرياح المنوفي), بعضنا نزل إلى الماء يستحم ويعوم. لم أكن من النازلين, لأنني لم أعرف حتى الآن السباحة (وربما موت سامي المليجي هو الذي سبب لي بعد ذلك رعبا من السباحة). بعد قليل اختفى سامي, وكان من النازلين إلى الماء. ولم يظهر بتفتيش القرية كلها عنه في النهر, إلا بعد ساعات, وقد وصل إلى كوبري "القاصد" عند مدينة بركة السبع. ذهبنا إلى هناك لأرى جثة سامي عارية على الشط, بيضاء, زرقاء, متورمة.
لم يكن موت سامي المليجي صدمه لأهله (جيراننا) وحدهم, لأنه كان بكريهم الجميل بل كان صدمة للقرية كلها, ولنا نحن زملاءه ومجالسيه, فقد كان أرق وأعذب أبناء أبيه. كان "ابن موت". بعد أعوام طويلة, عندما أصبت في آخر عام 2004 بجلطة المخ, وكتبت بعد أن خرجت منها بآثار قليلة ديوان "مدائح جلطة المخ" ذكرت سامي المليجي في مقطع عن "الأشعة المقطعية", يقول:
"دفعه النوبتجي إلى قفص مظلم
النوبتجي الذي صوب العدسات على
مؤخرة يسار الجمجمة
وضغط على الزر:
جاءت حدوتة مصرية, والراهب, وسجن
العبدلي, ويوسف شاهين, وتجار الموالح, وكل
هذا الجاز, ومدرسة عبد المنعم رياض, والقنابل
المضيئة, وسرة سيدة النبع, ونزيف
زاهية, وقوارب الزناتي للصيد, ونوة
يرتجلن عدودة حول ناعورة, وجثة سامي
المليجي في الرياح المنوفي, ومعتقل القلعة,
وساهم الطرف كأحلام المساء, وإضاءة 77,
وبقرات طائرات على أطراف الكازوارينا, ورعب
المترجمات من المسحراتي, وكتاب النبي, ودفن
عبد الغني أحمد سالم". 
أول تليفزيون رأيته في حياتي كان عام 1962, بعد دخول التلفزيون إلى مصر بعامين, في فيللا محمود فوزي, وزير الخارجية المصرية الشهير, ونائب رئيس الجمهورية في أخريات أيامه.
كان أبي حينما يشتري جنينة برتقال, يوسوفي, ومانجو. (الثمر فقط طبعا) من مالكها, يقيم طوال الموسم بالجنينة, في خص أو غرفة صغيرة مبنية بالطوب اللبن أو في بيت مالك الجنينة الذي عادة لا يسكنه المالك إلا أياما قليلة في السنة كلها.
في ذلك العام رسى المزاد على أبي في جنينة يملكها الدكتور محمود فوزي بالقرب من كرداسة بالهرم. وأقام في فيللا الدكتور. وعندما ذهبت عنده في الأجازة رأيت التلفزيون, ورأيت الأهرام. وكنا نري بعض ضباط الثورة داخلين خارجين في ساراتهم "الجيب" يقولون: هذا صلاح سالم, وهذا جمال سالم, وهذا زكريا محي الدين.
كان يصطحبني إلى أبي قريبنا عبد المطلب, وعبد المطلب من جيل عبد العزيز أخي وجلال زوج أختي ملك وعبد العزيز فهمي شندي صديقهم وصديقي. كان أبوه قريبا لأبي. وهو الذي استلمني بعد ذلك بسنوات حين خرجت من حبسة 1973 الطلابية (أسبوعين) ودخل معي الحمام وحممني وحلق لي شعري وذقني الطويلين. وانطلق بي على الموتوسيكل إلى أبي, حيث كان في إحدى الجنائن بمركز قويسنا بالمنوفية, وكان قد ترك طلبا أن أؤخذ إليه حين أخرج من السجن ليراني.
في عام 1977, بعد انتفاضة يناير الشعبية (التي أسماها السادات انتفاضة الحرامية) كلمني عبد المطلب, وأبلغني أن فتحي بيومي, ابن قريتنا, وقريبنا, وعضو مجلس الشعب الدائم, أو شبه الدائم, عن العمال والفلاحين, وواحد من "رجالة" فتحي المتبولي ثم من "رجالة" كمال الشاذلي, يريد أن يقابلني لأمر هام. وجاء عبد المطلب إلى القاهرة, وأخذني إلى مطعم في طنطا على الطريق إلى الإسكندرية. لأجد فتحي بيومي عازمني على الغذاء. والغرض هو أن يعرف مني موقف الاتحاد السوفيتي ودوره في انتفاضة 77. كنت في ذلك الحين أعمل في المركز الثقافي السوفيتي (من 74حتى 77) مشرفا ثقافيا, أي أنه يريد أن يعرف مني معلومات يدعم بها موقفه وموقف رجال السلطة الذين يشيعون أن الاتحاد السوفيتي والشيوعيين وراء هذه الانتفاضة!
أحرجته, معبرا عن دهشتي من مسعاه الغريب الخائب. وشكرته على العزومة الفخمة.وبعد أسابيع قليلة أغلق السادات المراكز الثقافية للدول الاشتراكية في مصر, وعلى رأسها المركز الثقافي السوفيتي, الذي كان مديره رمزي يوسف قد اعتقل من الأيام الأولى للانتفاضة.
بعد ذلك سكن عبد الطلب مع أسرته في شبين الكوم, ثم بنى بيتا في "الراهب" بجوار بيت أختي ملك وزوجها جلال. وكان قد تغير كثيرا, فصار يدخل في مشاحنات دائمة مع ملك وجلال, ويقوم بأفعال عدوانية غريبة ضدهما بغير سبب. وفي عام 2007 قابلته في جنازة أختي عطيات (كبرى بنات أبي) التي توفيت بعد جلطة أقعدتها بضعة سنوات. كان عبد المطلب قد صار جلدا على عظم. عرفت أنه مريض بالسرطان. زرناه في بيته بشبين الكوم, أنا وعبد العزيز (أخي الكبير) ويسري (أخي الذي يصغرني). وقال لي ساعتها: زيارتك حتطول عمري. لكن ذلك لم يحدث, إذ لم تطل مقاومته للمرض الخبيث, فمات في أوائل عام 2008, و أحزنني كثيرا أنني لم أشهد جنازته, لأنني كنت حينها خارج مصر.
نبوية (أم نصر) هي زوجة أخي عبد الله (أكبر أبناء أبي): كانت بنت تاجر من تجار "وكالات" الموالح والفاكهة بالمحلة الكبرى. وكانت مثل أهل المحلة جميعا, تذكر المؤنث, كأن تقول "هات الشنطة بتاعي) أو "لبست الجلابية بتاعي". وكنت أهزر معها قائلا: "الجلابية مؤنث يا أم نصر". بعد ذلك بسنوات, حين صرت تلميذا وصديقا للدكتور جابر عصفور (وهو من أهل المحلة) كنت كلما سمعته يقول "المحاضرة بتاعي" أو "الندوة بتاعي" أهتف فيه معاكسا: ماذا كنت ستفعل باللغة العربية أكثر من ذلك لو لم تكن أستاذ أدب ولغة وبلاغة؟. (كانت كل شلة المحلة من أصدقائي يذكرون المؤنث: فريد أبو سعدة وسعيد الكفراوي ومحمد صالح وجار النبي الحلو ونصر حامد أبوزيد).
كانت أم نصر تعتبرني ابنا لها (الفرق بيني وبين أكبر أبنائها, نصر, سنوات قليلة), وكنت أعتبرها أما ثانية, أو ثالثة لي بعد (أمي مبروكة, و أمي). وكانت تحكي لي , وأنا كبير, أنها أرضعتني أكثر من مرة حينما كان اللبن يجف من صدر أمي في بعض الليالي. وفي سنواتها الأخيرة أقعدها المرض في الفراش لا تكاد تتحرك إلا بصعوبة. وحينما كنت أزورها في سنوات مرضها هذه, وأقبل رأسها, كانت الدموع تطفر من عينيها.
قي عام 2008 توفيت. كان حزن عبد الله طاغيا وثقيلا ومكتوما, وظل يتسند على ذراعي والدموع تترقرق بعينيه في صمت. كانت هذه هي المرة الثالثة التي أرى فيها دموع عبد الله: المرة الأولى كانت حينما مات أبونا عام 1982, والثانية حينما ماتت أمي (زوجة أبيه) عام 1987.
تكبرني "ملك" أختي بعامين, لم تكمل دراستها بعد السنة السادسة الابتدائية كعادة أهل الريف. وهي شقيقتي وصديقتي وموضع سري في الوقت نفسه. كنت في الخامسة حينما كنا نلعب معا في "جنينة" محمد بك عبد العزيز فهمي (المؤجرة لأبي) الموجودة على الطريق الزراعي للقرية. نخبط نخلا صغيرا في جذوره على جانب الجنينة المجاورة لترعة صغيرة. نريد أن نخلعه لنعود به إلى البيت لنزرعه في حديقة المنزل. كانت ملك تهوي "بالبلطة" قاصدة جذر النخلة الصغيرة, وبحركة غير منتبهة منها و مني, نزلت "البلطة" على أم رأسي بالضبط. انهارت ملك, وراحت تغرف بيديها من الترعة المجاورة ماءا وطينا, وتضع الماء والطين على الجرح في رأسي لكي يتوقف الدم ويتجلط وينسد الجرح. واتفقت معي ألا أقول لأمي ما حدث, حتى لا تعاقبها أمي عقابا رهيبا (إذ هي تعرف حب أمي الشديد لي, فأنا البكري من أولاد أمي الصبيان). عندما عدنا للبيت ألفت لأمي قصة مفادها أنني كنت "أتشقلب" على نجيل الحديقة فدخلت زجاجة مكسورة في رأسي. وقد ظلت ملك تحفظ لي هذا "المعروف" سنوات طويلة. وقد أشرت إلى هذه الواقعة, فيما بعد, في ديوان "الواحد الواحدة" عام 1997, بقطعة تقول:
"كان امرؤ القيس تحت المظلة مشلولا,
طافت حولنا وصيفات من زفير السحق
فرددت أختي:
نحن مكتوبان في اللوح هكذا:
بلطة في أم رأس".
كان في "الراهب" "مولدان" كبيران سنويان: مولد سيدي عزاز في الطرف الجنوبي من القرية, ومولد سيدي البيومي في الطرف الشمالي منها, الذي نحن فيه. كان مولد اليومي عرسا سنويا. في أحد هذه الموالد عام 1962, كان أخي الأصغر بيومي قد ولد منذ أسبوع, كانت الأسرة تبحث عن اسم من الأسماء الحديثة للمولود الجديد, فإذا بالشيخ القطب البيومي (وكان يقيم في بيتنا أيام المولد) يصيح مقررا: أتبحثون عن اسم يوم مولد "البيومي"؟ فكان: "بيومي":
تخرج بيومي بعد ذلك من كلية التربية, وعمل مدرسا في المدرسة الثانوية الزراعية بشبين الكوم, وفي منتصف عام 2005 أجرى عملية "قلب مفتوح". وكنت قبله بشهور قليلة قد أصبت بجلطة المخ. وحينما شفيت من هذه الجلطة كتبت التجربة كلها في ديوان "مدائح جلطة المخ", وخصصت بيومي فيه بقصيدة تشير إلى الشقيقين المريضين. كانت القصيدة بعنوان "قلب مفتوح":
"الآن يا شقيقي: جريحان في العائلة  / وعينا
توزيع الواجبات حسب العمر والرصيد العاطفي:
أنت ترعى مسيرة الغرز / محاذرا من الكحة
والقهقات والكوارع / وأنا أحمل إليك الفتاة
التي أتلف الصدأ جسدها / كي تضع على
وسادتك مجسم العمارات".
"البيومية" طريقة من طرق الصوفية. قبل موعد "المولد" بيومين كان يحضر إلى القرية "نائب السجادة البيومية" الشيخ عبد الرحمن أبوراضي, هو بطانته من مريدي البيومي, ويقيمون في بيت أبي يومين قبل المولد ويومين بعده, مضافا أليهم مريدو البيومي من رجال القرية. يأكلون ويشربون (وبعضهم يحششون) ويقيمون حلقات الذكر, التي كنت أندرج فيها وأندمج و أنا صبي. وليلة "المولد" يأتي "الصيت" أو "المنشد" أو "الشاعر" يحكي القصص الدينية والإنسانية التي تحض على الفضيلة وتخيف الناس من الرزيلة. وكان "المنشد" أثناء إنشاده وغنائه يستخدم بعض الأغاني العاطفية الشهيرة, مع تحوير بعض كلماتها لتصبح ذات معان دينية في حب الله لا في حب المرأة أو الرجل. كأن ينشد " يا حبيبي يا طه" بدلا من "يا حبيبي تعالى" لأم كلثوم, أو يقول "إنت وبس اللي شفيعي" بدلا من "إنت وبس اللي حبيبي" أغنية فايزة أحمد الشهيرة. 
بعد ذلك بسنوات, أوائل عام 1982, كنا نجلس مع أمي و أبي في القرية, أنا وزوجتي إيمان, نحكي عن أيام الموالد ولياليها, وكيف كانت "الطغمة البيومية" تحتل بيتنا, تأكل وتشرب وتنام في "بلهنية" من رغد العيش. قالت زوجتي إيمان لأبي بصراحة عارية: "عشان كده ساء وضعك المادي". ابتسم أبي وقال: "كله لوجه الله". وكنت أعلم داخلي أن أبي لم يكن يفعل ذلك لوجه الله فقط, بل أيضا لوجه وضعه الاجتماعي ومركزه الأخلاقي والأدبي.

كان الشيخ عبد الرحمن أبو راضي رجلا بسام الوجه, بهي الطلعة, مصفف الشعر (على طريقة الناقد محمد مندور). وكان له تأثير السحر على المريدين والذاكرين, يصل تأثير التنويم المغناطيسي. كان الجميع يقبلون يده, بمن فيهم أبي, (وكان ذلك أمرا يضايقني).

كان الشيخ عبد الرحمن يرى في برعما بيوميا يافعا واعدا, لكن أمله خاب. ففي أول مولد للبيومي, بعد دخولي الجامعة, مد يده لأقبلها كالمعتاد, فسلمت سلام الرجال بدون أن أقبل يده. استاء الجميع. وقال الشيخ لأبي: "ابنك بلشفوه في الجامعة يا معلم عبد الغني". وحينما عاتبني أبي آخر الليل قلت له: "أنا لا أقبل يد رجل في الدنيا سواك, و أنت على نفسك لا ينبغي أن تقبل يده. هؤلاء يتعيشون على الموالد والذكر". فصمت أبي بين السخط والرضا.

اضمحلت ظاهرة "الموالد" في السنوات الأخيرة, بعد أن مات الشيخ عبد الرحمن, وبعد أن راحت القنوات الفضائية الدينية تقوم بدور هذه الموالد على الشاشات الزرقاء. وكان تخمين الشيخ عبد الرحمن بشأني صحيحا, فقد كنت بدأت, منذ السنة الجامعية الأولى, أقترب من التيارات اليسارية, و أتعرف على الفكر التقدمي, الذي كان الرفاق يسمونه "الاشتراكية العلمية".

  تغيرت "الراهب" كثيرا, لطشتها الحداثة وما بعد الحداثة. حلت مرافق المياه محل "المرشح", وحلت الكهرباء محل لمبة الجاز والكلوبات. دخل التلفزيون قريتنا عام 1970, بعد دخوله مصر بعشر سنوات. وحين مات عبد الناصر لم يكن بالقرية كلها سوى ثلاثة تلفزيونات في ثلاثة بيوت (أحدهم بيتنا), تحلق فيها أهل "الراهب" ليشاهدوا الجنازة.

سافر الكثيرون من القرية في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلى العراق وليبيا ودول الخليج ودول أوروبية كإيطاليا وفرنسا واليونان. بنيت معظم البيوت بالطوب الأحمر والأسمنت. وتقلصت مساحة الأرض المزروعة بسبب هجرة الفلاحين وبسبب البناء على الأرض الزراعية. أغلب البيوت فيها تلفزيون ودش وكمبيوتر. ونت وبانجو, الشباب والكبار والصبيان والصبايا يحملون "الموبايل". أما الثقافة والتعليم والمعرفة والعمل والعلم والانتماء الوطني, فعليهم جميعا سلام الرحمن الرحيم. 
_____________________________________________________________
*  فصل من السيرة الذاتية للشاعر تحت الإعداد

مجلة الثقافة الجديدة  العدد 253    -    أكتوبر 2011

 

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 696 مشاهدة
نشرت فى 19 أكتوبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

131,753