من نار السكينة
إلهي ومازال في الناي سرُّ = وشطٌّ من الوحى ما زُرْتُهُ
ولا شربت حيرتي منه لحنًا = ولا أي يوم بها جئتهُ
عميقٌ كحلمِ الرؤى في خيالٍ = على غفوةِ الروحِ كفّنتُهُ
توارى وأسبلَ أنغامه = على وترٍ كنتُ قطَّعتهُ
وأحرقتُ فيه ربيعَ الحياة = ومن غفوة القلبِ ودَّعتهُ
عميقٌ ولكنَّهُ سابحٌ = قريبٌ إذا ما تذكَّرتهُ
وذكراه في كل ما أشتهي = وفي كل شيءٍ تعشَّقتهُ
أراهُ على الزهر لكنني = إذا صافح العطر غافلتهُ
أراهُ على النهرِ لكنِّني = إذا عانق الموج غادرتهُ
أراه على الدوح لكنني = إذا مايل الغصن زايلتهُ
أراه على الأفق شيئًا أضاءَ = ومن نعش ناري توهَّمتهُ
أراه على الريح صوتَ الحنينِ = تجسَّد حتّى تأمَّلتهُ
وأبصرتُ فيه مزار الخيالِ = على معبدٍ كنتُ حرَّمتهُ
وأودعته في جناز الغروبِ = لقاءً مع الغيبِ واعدْتهُ
أراه بِذاتي في كل همسٍ = وفي كل طيفٍ تخيَّلتهُ
أراه يسير معي في الحياةِ = كيانًا خفيًّا وصاحبتهُ
وقاسمتهُ كل زاد السكونِ = وكل الهوى حين صافيتهُ
وكل الصباح وكل المساءِ = وكل الدجى حين خامرتهُ
وكل الجراح وكل النواحِ = وكل الأسى إن ترشّفتهُ
وكل الأثير وكل العبيرِ = وكل المصيرِ إذا كُنتهُ
وفي كل ذراتِ هذا الوجودِ = أراهُ رنينًا تسمَّعتهُ
وأصغيتُ فيه وكرّرتهُ = وجودًا لذاتي أخفيتهُ
إلهي من أين أهفو إليه = ودربي لرؤياه ضيَّعتهُ
وفجَّرتهُ في زماني زمانًا = وتيهًا على التِّيه واصلتهُ
وما كان إلاّ غناء الظنونِ = وشجوًا من الحبِّ أقلقتهُ
وأشعلت فيه صلاة الربابِ = تغنِّي زماني وما ذقتهُ
تلاشيتُ في كل درب فما = أحسُّ بغير المدى فتُّهُ
وأوغلتُ حتى سقاني الطريقَ = ثمالاتِ سحرٍ تصوَّرتهُ
شواني وأبقى رمادَ الضياءِ = ومازال جمرًا تشهَّيتهُ
تبسّم في ناره كلُّ شيءٍ = وتنهيد نايي كما جئتهُ
على الريح يهدرُ لا هدأةٌ = ولا ظلٌّ ظِلٌّ تمنَّيتهُ
ولا سجوةٌ في مهبِّ الخيالِ = يغنِّي بها ما تلقَّنتهُ
نشدتُ السكينةَ في كل جمرٍ = على وتر القلبِ أوقدتهُ
ومالي يدٌ فيه إلا صدًى = كما تسمع الروح ردَّتهُ
غنائي ومنِّي ومالي سبيلٌ = إليه فأَنَى أَتَى سُقتهُ
سمعت به الكوخ تحت الظلامِ = عويلاً من البؤس غنَّيتهُ
وأقداح رق بكف الطغاةِ = أساها بنايي تجرَّعتهُ
وشلَّت يدُ الله طاغوتَها = بفجر على النيل قدَّستهُ
فناغمت فيه انتفاض الحياة = بسحرٍ من الله ألهمتهُ
وسبّحتُ لمَّ أطَلَّ الضياءُ = ودكَّ الظلامَ الذي عشتهُ
شعر: محمود حسن اسماعيل