الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

الراهب: الأصل والفصل

حلمي سالم   

 

 

"هنا كتبت في الصبا,

أول سطر عن حبيبة مزروعة في دماء الأرض,

متخيلا جنية النبر والشهوات.

وهنا سأكتب في الخريف

أخر سطر عن حبيبة مشبوكة

في الريشة التي في الفص

وذراعي في ذراع جنية النبر والشهوات

وحين يفوح زهر البرتقال في سكة البحر,

وتصحو تخثرات الدم الذي يمشي وئيدا

(أجندلا يحملن أم حديدا؟)

سأترجم دعاء الكروان هكذا:

جرحك لي لي لي

وجرحي لك لك لك".

 

 

 

هذا هو جزء من قصيدة لي بعنوان "الراهب"  في ديوان "مدائح جلطة المخ" الصادر عام 2006, عن سلسلة "كتاب الهلال", بمبادرة جريئة غير مسبوقة من مجدي الدقاق, رئيس تحرير "الهلال" حينها.

 

مقام الشيخ "علي الراهبي" معلم أساسي من معالم قرية "الراهب" ولذلك سميت القرية باسم "الراهب", كما يقال, لأن هذا المقام  كان من أوائل الموجودات في المكان.

 

في قرية "الراهب" (مركز شبين الكوم – محافظة المنوفية) ولدت, في 16-6-1951, لأب يعمل تاجر موالح, وأم ربة بيت (سيأتي حديث مفصل عنهما في كتابات قادمة). كنت الثاني من سبعة أبناء أشقاء من أمي (زاهية السيد نصار) هم: ملك, ثم أنا, وأحلام, ويسري, وبيومي, ويسرية, وغادة.

 

 

 وكانت أمي هي الزوجة الثانية لأبي, الذي أنجب من زوجته الأولى (أمي مبروكة) خمسة أبناء, هم إخوتي غير الأشقاء: عطيات, عبد الله, أفراج, عبد العزيز, أفراح (سكرة), عدا من مات من أبناء الزوجتين: أكابر من أمي مبروكة, وأحمد وعفاف وسوسن من أمي.

 

أبعد مشهد في ذهني من أيام الطفولة بالراهب هو كتاب الشيخة أمينة, وهو "الكتاب" الوحيد في القرية الذي كنا نذهب إليه قبل دخول المدرسة الابتدائية, لنتعلم القرآن واللغة العربية ومبادئ الحساب. كانت الشيخة أمينة كفيفة, لكنها كانت تستطيع أن تميز الولد المخطئ منا في قراءة القرآن بحاسة السمع الاستثنائية عندها, وتحدد مكانه بين الأولاد الجالسين أمامها على الحصيرة (وهم يزيدون عن ثلاثين ولدا) فتنقره على أم رأسه بخيزرانه طويلة مرنة في يدها, أو تستدعيه أمامها لتفرك أذنه بحصوة خشنة بين أصابعها. لكن كتاب الشيخة أمينة كان تأسيسا متينا لي في القرآن الكريم وفي اللغة العربية وفي النطق السليم لمخارج الألفاظ, ولم يكن كذلك في الحساب, فقد ظللت من أبلد التلاميذ في الحساب (والرياضة) طوال سنوات الدراسة الابتدائية والإعدادية, إلى أن فرجها الله بدخولي القسم الأدبي في الثانوية العامة.

 

 

وقد ظلت "الشيخة أمينة" في خيالي وذاكرتي, وذكرتها في شعري بعد ذلك أكثر من مرة, وبعد وفاتها لم يعد "الكتاب" موجودا.

 

المدارس الثلاث التي تعلمت فيها الابتدائية والإعدادية والثانوية كان لها أسماء ذات طابع وطني, الابتدائية في "الراهب" كان اسمها :مدرسة الشهيد صبحي يوسف الابتدائية" وصبحي يوسف ابن من أبناء القرية, استشهد في حرب 1956, والمدرسة الإعدادية  التي كانت بقرية كفر المصيلحة المجاورة لقريتنا (وهي قرية الرئيس حسني مبارك),

 

 

 لأن قريتنا لم يكن قد صار بها مدرسة إعدادية بعد, كان اسمها مدرسة عبد العزيز فهمي الإعدادية,

 

 

 وعبد العزيز باشا فهمي هو أحد قادة ثورة 1919, ورفيق سعد زغلول في المنفى, ووزير الحقانية (العدل) في ذلك الوقت,

 

 وكان له فضل بناء المدارس في كفر المصيلحة, حتى قيل بعد ذلك – بحق – أن كفر المصيلحة هي القرية التي لم يكن بها أمي واحد, والمدرسة الثانوية بشبين الكوم, عاصمة المحافظة,

 

 

 كان اسمها "مدرسة عبد المنعم رياض الثانوية الجديدة", وعبد المنعم رياض هو الفريق قائد أركان الجيش المصري,

 

 

 الذي استشهد بقذيفة اسرائيلية غادرة عام 1969, أثناء تفقده قواته عند المعدية رقم 6 بالإسماعيلية, وصار عند الحركة الوطنية المصرية (و الطلابية خصوصا), بعد ذلك,

 


 

 رمزا للمحارب الشجاع, حتى أن الشاعر زين العابدين فؤاد ( صديقي الذي سيجئ عنه حديث مفصل في كتابة قادمة), وأحد قادة الحركة الطلابية المصرية (أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) كتب عنه قصيدة شهيرة عنوانها "رياض ما متش" كما كتب في رثائه فؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم ونزار قباني الذي قال:

 

"لو يقتلون مثلما قلت

لو يعرفون أن يموتوا مثلما فعلت

لو مدمنو الكلام في بلادنا

قد بذلوا نصف الذي بذلت

لم يسقط المسيح مذبوحا في تراب الناصرة".

 

ووصف "الجديدة" لمدرسة عبد المنعم رياض الثانوية كان تمييزا لها عن, المدرسة القديمة العريقة بشبين الكوم "مدرسة المساعي المشكورة الثانوية",

 

 

 وهي المدرسة التي تعلم فيها الرئيس محمد حسني مبارك,

 

 

 والتي ألقى فيها بعد سنوات طويلة (ربيع 2005) الخطاب الشهير الذي أعلن فيه تعديل المادة 76 من الدستور,

 

 

وهي المادة الخاصة بالترشح لرئاسة الجمهورية, وهو التعديل الذي انقسم حوله الرأي العام انقساما حادا: أنصار السلطة رأوا فيه قفزة ديمقراطية هائلة, لأنه يفتح الباب لأن يترشح للرئاسة أكثر من شخص, منهيا بذلك آلية الاستفتاء العام على الرئيس القائم الحاكم وحده, وهي الآلية التي سادت في عصر عبد الناصر وفي عصر السادات, وأنصار الديمقراطية الحقة, و آمل أن أكون من بينهم, تغييرا شكليا لا جديد فيه, لأن الباب الذي فتحه للترشح بين أكثر من شخص, اشترط لذلك شروطا تعجيزية عديدة تجعل النتيجة دائما في صالح الحزب الحاكم الأوحد, وفي صالح الرئيس الحاكم الأوحد.

 

كنت في كتاب الشيخة أمينة (قبل دخول المدرسة الابتدائية) حينما بدأ أبي (المعلم عبد الغني سالم) يبني بيتا جديدا, لكي ينتقل إليه هو وزوجته الثانية (أمي), تاركا البيت القديم الذي كانت تقيم فيه الزوجتان والأولاد.

 

وأذكر أن بناء هذا البيت الجديد كان بالنسبة لي "دراما" كاملة, فهو تقريبا أول بيت يبنى في القرية بالطوب الأحمر والأسمنت المسلح, لا بالطوب اللبن والسقوف الخشبية, وكانت قطعة الأرض التي بني عليها في الأصل بركة ضحلة يخب فيها النخل الصغير والحشائش والحلفاء والماء الراكد.

 

وقد استأجر أبي إلى جوار اللوري الذي كان يملكه (لينقل به الموالح من الجنائن إلى الوكالات في المدن المختلفة) لوريات أخرى تنقل ترابا كثيرا اشتراه من حواف حقول القرية والقرى المجاورة, ليردم هذه البركة, ثم يقيم عليها البيت.

 

أحفظ منظر السقالات والعمال والبنائين والأسمنت المخلوط بالزلط وهو طالع نازل بين السقالات في "قصعات" عديدة تحملها الصبايا من بنات القرية.

 

كان هذا المشهد يستهويني كثيرا (وقد ذكرته في الشعر غير مرة بعد ذلك). وكان الكتاب يقع في المسافة بين بيتنا القديم والبيت الجديد الذي يبنى, وفي كثير من الأيام, أخرج من بيتي القديم إلى "الكتاب" في الصباح, لكنني لا أذهب إلى "الكتاب", بل إلى موقع بناء البيت الجديد, أشاهد هذه الدراما المثيرة, وأشارك فيها بما أستطيع من عمل, وحينما أسمع صياح الأولاد (زملائي) وهم خارجون من "الكتاب" (فقد كانت لحظة الخروج من "الكتاب" لحظة إفراج وحرية), أصيح مثلهم وأجري عائدا إلى البيت القديم.

 

في إحدى مرات مشاهدتي ومشاركتي في هذه الدراما الكبيرة, استمعت لأول مرة إلى أغنية عبد الحليم حافظ
"قولولو الحقيقة". كان هناك راديو "ترانزستور" علقه أحد البنائين بين السقالات, وفجأة انطلق مطلع اللحن : السقفة باليد ثم تدخل الآلات. كان حدثا جليلا, لحن جميل وكلام جميل:

 

"طال شوقي وطال تعذيبي

ولأمتى حا داري لهيبي

حا أوصف غرامي دا كله

وف أول مقابلة حاقوله

يا يصحيني قلبه

يا ينسيني حبه

لعيونه الجريئة

أبو عيون جريئه"  

 

 كان الجميع (وأنا في قلبهم) ينتشون بالأغنية التي تنطلق من بين خشب السقالات المتقاطعة, فيمزجون العمل ببهجة الغناء, ولم يكن يدور بخلد واحد منهم أن زمانا سيأتي, بعد ثلاثة عقود, فإذا بشيخ يدعى يوسف القرضاوي يفتي بأن "أبو عيون جريئة" حرام, لأنها أغنية تعارض مبدأ غض البصر الذي أمر به الإسلام, حتى لا تكون شهوة وفتنة!.

 

محمد فراج أبو النور, هو صديق الطفولة والشباب والرجولة والكهولة, هو ابن قريتي "الراهب". أنا أسبقه بعام واحد. كان أبوه هو ناظر المدرسة الابتدائية بالراهب, لذا فمكتبة المدرسة ميسرة لنا, فضلا عن مكتبة بيته العامرة بكتب التراث القديم, كنا نقضي معظم الوقت في بيت محمد أو في بيتي, وكونا شلة تضم معنا: سعيد فراج أبو النور (ابن عم محمد) ومرسي نويشي وكان يلتحق بها بعد ذلك بفترة: عادل الشرقاوي وعادل سلامة وصلاح أبو نار وصلاح بيصار.

 

 

استمر محمد فراج أبو النور خلفي بعام في كل مراحل الدراسة: الابتدائية (صبحي يوسف) الإعدادية (عبد العزيز فهمي) والثانوية (عبد المنعم رياض) ثم قسم الصحافة بآداب القاهرة, حيث كان واحدا من قادة الحركة الطلابية بجامعة القاهرة في أوائل السبعينيات, وبعد ذلك تفرقت بنا بعض السبل: ذهب إلى الاتحاد السوفيتي وحصل على درجة الدكتوراه هناك برسالة عن "صحف أحزاب المعارضة المصرية". وبعد عودته عمل للآن محللا سياسيا في جريدة :العالم اليوم".

 

 

سعيد فراج أبو النور كان أكثرنا وسامة ولطفا. دخل المدرسة الصناعية. كان واعدا بقصاص مبدع, إذ كتب بعض القصص القصيرة الجميلة. ثم دخل الجيش, وظل به إلى أن قامت حرب 1973, واستشهد في هذه الحرب. كان موت سعيد فاجعة هذه الشلة.

 

 

وقد كتبت قصيدة آنذاك, يناير 1974, عن استشهاد سعيد فراج بعنوان "مرثية إلى صديق عزيز مات في حرب السادس من أكتوبر 1973" ونشرت في صدر ديوان "سكندريا يكون الألم" يقول مقطع منها:

 

"أحمل جثتك على صدري العريان

وأحاول أن ازرعها في رئتي

تتمدد/ تتمدد

تفرش أرض الدلتا الأسيانة

وتسد النيل وتطفح فوف الشطين

أحذية, وصديدا, وإدانة,

مكتمل أنت الليلة في الميدان

شاهد إثبات لجريمة وأد

خلف حقول الليمون

فلتشهر جثتك المثقوبة في الحلبة:

ثاقبة, دامغة كالحربة,

هامش:

دمك الآن على كتف الجنرال النشوان رتبة".

 

عادل الشرقاوي, فنان تشكيلي ونحات بوهيمي وتكوين وجودي عدمي ساخر رائع. كان من قرية "المصيلحة" المجاورة لقريتنا "الراهب" وبين يوم وآخر يأتي إلينا في قريتنا, راكبا حماره الشهير. بعد ذلك بسنوات عشنا جميعا في القاهرة. وتزوج من الكاتبة سحر توفيق, وعاشا في شارع الهرم في بيت ملئ بالتماثيل والدكك الخشبية اليدوية والأكلمة الريفية والقلل والسلال الخوص وسجاجيد الحرانية. وفجأة مات تاركا جرحا آخر بعد جرح سعيد فراج أبو النور.

 

عادل سلامة, ابن مدير مديرية الزراعة بشبين الكوم. التحق بعد ذلك بكلية الإعلام حينما تحول قسم الصحافة بآداب القاهرة إلى كلية الإعلام عام 1974. شاعر عامية جيد, أصدر
ديوانين, لكن العمل في شركات الإعلان أكل
-  وما زال – وقته وجهده.

 

 

أما مرسي نويشي (كان يكبرني بثلاثة أعوام) فهو قصة طويلة سأتحدث عنها تفصيليا في كتابة قادمة.

كانت هذه الشلة تجتمع في بيت احدنا, نسمر أو نتناقش في الثقافة والأدب, وكنا نقرأ أعمالا أدبية كاملة في الجلسة الواحدة, أذكر أننا قرأنا في هذه الأمسيات: مسرحية "مأساة الحلاج" لصلاح عبد الصبور, ومسرحية "ياسين وبهية" لنجيب سرور, وديوان "مدينة بلا قلب" لأحمد عبد المعطي حجازي, ثم بعد ذلك بقليل مسرحية عبد الصبور "ليلى والمجنون".

 

 

 

وقد غرقنا في شعر المدرسة الرومانتيكية السابقة على ثورة الشعر الحر, بفروعها الثلاثة "الديوان" و"المهجر" و"آبوللو", فكانت قصائد إبراهيم ناجي وعبد الرحمن شكري وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة و جبران خليل جبران ومحمود حسن إسماعيل زادا يوميا للعقل والروح والوجدان.

 

 

كنا – محمد فراج أبو النور وأنا – مغرمين بالأدب الروسي, لاسيما الروايات. وقد التهمنا في فترة الصبا تلك بالقرية (سنوات الإعدادية والثانوية) معظم روايات: جوجول وتورجنيف وتولوستوي وديستويفسكي وتشيخوف وجوركي. وبعض أشعار: بوشكين ويفتو شنكو. ويبدو أن غرامنا بالأدب الروسي كان إحدى البذور اللأولى التي شكلت ميلنا إلى الفكر الاشتراكي واليساري.

 

 

كما شكل ديوان "الحماسة" لأبي تمام و"مختارات البارودي" و"المنتخب في أدب العرب" وغيرها من كتب التراث التي كنا نستعيرها من مكتبة المدرسة الابتدائية حتى بعد أن تركناها, بمساعدة ناظرها الأستاذ فراج أبو النور, أرضية أساسية في تعريفنا بأجمل أشعار التراث العربي القديم.

 

   مجلة الثقافة الجديدة  العدد 253    -    أكتوبر 2011

 

 

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 86 مشاهدة
نشرت فى 2 أكتوبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

113,118