الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

الراهب.. الأملُ والفصلُ والفروع
حلمي سالم

 

 

نهضة مصر : 04 - 01 - 2011

 

 

 

سعيد فراج أبو النور كان اكثرنا وسامة ولطفا. دخل المدرسة الصناعية كان وعدا بقصاص مبدع، اذ كتب بعض القصص القصيرة الجميلة ثم دخل الجيش وظل به الي ان قامت حرب 1973 واستشهد في هذه الحرب كان موت سعيد فاجعة هذه الشلة
"هنا كتبتُ في الصبا،
اول سطر عن حبيبة مزروعة في دماء الارض،
متخيلا جنية النبر والشهوات.
وهنا سأكتب في الخريف
آخر سطر عن حبيبة مشبوكة
في الريشة التي في الفصّ
وذراعي في ذراع جنية النّبر والشهوات.
وحين يفوح زهرُ البرتقال في سكة البحر،
وتصحو تخثرات الدم الذي يمشي وئيدا
"أجندلا يحملن ام حديدا؟!
سأترجم دعاء الكروان هكذا:
جرحُك لي لي لي
وجرحي لكْ لكْ لكْ".
هذا هو جزء من قصيدة لي بعنوان "الراهب"، في ديوان "مدائح جلطة المخ"، الصادر عام 2006، عن سلسلة "كتاب الهلال"، بمبادرة جريئة غير مسبوقة من مجدي الدقاق، رئيس تحرير "الهلال" حينها.
وقام الشيخ "علي الراهبي" معلم اساسي من معالم قرية "الراهب" ولذلك سميت القرية باسم "الراهب" كما يقال، لان هذا المقام كان من اوائل الموجودات في المكان.
في قرية "الراهب" "مركز شبين الكوم- محافظة المنوفية" ولدت في 16/6/1951 لاب يعمل "تاجر موالح، وام ربة بيت "سيأتي حديث مفصل عنهما في كتابات قادمة". كنت الثاني من سبعة ابناء اشقاء من امي "زاهية السيد نصار" هم: ملك، ثم انا، واحلام، ويسري، وبيومي، ويسرية، وغادة. وكانت امي هذه الزوجة الثانية لابي، الذي انجب من زوجته الاولي "امي مبروكة" خمسة ابناء، هم اخوتي غير الاشقاء: عطيات، عبدالله، افراج، عبدالعزيز، افراح "سكرة"، عدا من مات من ابناء الزوجتين: اكابر من امي مبروكة واحمد وعفاف وسوسن من امي.
ابعد مشهد في ذهني لايام الطفولة بالراهب هو "كتاب الشيخة امينة" وهو "الكتاب" الوحيد في القرية الذي كنا نذهب اليه قبل دخول المدرسة الابتدائية لنتعلم القرآن واللغة العربية ومباديء الحساب. كانت "الشيخة امينة" كفيفة لكنها كانت تستطيع ان تميز الولد المخطيء منا في قراءة القرآن بحاسة السمع الاستثنائية عندها، وتحدد مكانه بين الاولاد الجالسين امامها علي الحصيرة "وهم يزيدون عن ثلاثين ولدا" فتنقره علي ام رأسه بخيزرانة طويلة مرنة في يدها، او تستدعيه امامها لتفرك اذنه بحصوة خشنة بين اصابعها، لكن "كتاب الشيخة امينة" كان تأسيسا متينا لي في القرآن الكريم وفي اللغة العربية وفي النطق السليم لمخارج الالفاظ ولم يكن كذلك في الحساب. فقد ظللت من "أبلد" التلاميذ في الحساب و"الرياضة" طوال سنوات الدراسة الابتدائية والاعدادية الي ان فرجها الله بدخولي القسم الادبي في الثانوية العامة.
وقد ظلت "الشيخة امينة" في خيالي وذاكرتي وذكرتها في شعري بعد ذلك اكثر من مرة وبعد وفاتها لم يعد "الكُتّاب" موجودا.
المدارس الثلاث التي تعلمت فيها الابتدائية والاعدادية والثانوية كان لها اسماء ذات طابع وطني: الابتدائية في "الراهب" كان اسمها "مدرسة الشهيد صبحي يوسف الابتدائية". وصبحي يوسف ابن من ابناء القرية استشهد في حرب 1956 والمدرسة الاعدادية التي كانت بقرية "كفر المصيلحة" المجاورة لقريتنا "وهي قرية الرئيس حسني مبارك" لان قريتنا لم يكن قد صار بها مدرسة اعدادية بعد، كان اسمها "مدرسة عبدالعزيز فهمي الاعدادية". وعبدالعزيز باشا فهمي هو احد قادة ثورة 1919 ورفيق سعد زغلول في المنفي، ووزير الحقانية "العدل" في ذلك الوقت. وكان له فضل بناء المدارس بكفر المصيلحة حتي قيل بعد ذلك- بحق- ان كفر المصيلحة هي القرية التي لم يكن بها امي واحد والمدرسة الثانوية بشبين الكوم عاصمة المحافظة كان اسمها "مدرسة عبدالمنعم رياض الثانوية الجديدة". وعبدالمنعم رياض هو الفريق قائد اركان الجيش المصري، الذي استشهد بقذيفة اسرائيلية غادرة عام 1969 اثناء تفقده قواته عند المعدية رقم 6 بالاسماعيلية وصار عند الحركة الوطنية المصرية "والطلابية خصوصا" بعد ذلك رمزا للمحارب الشجاع، حتي ان الشاعر زين العابدين فؤاد "صديقي الذي سيجيء عنه حديث مفصل في كتابة قادمة" وأحد قادة الحركة الطلابية المصرية "اواخر الستينيات واوائل السبعينيات" كتب عنه قصيدة شهيرة عنوانها "رياض ما متش" كما كتب في رثائه فؤاد حداد واحمد فؤاد نجم ونزار قباني.
ووصف "الجديدة" لمدرسة عبدالمنعم رياض الثانوية كان تمييزا لها عن المدرسة العريقة القديمة بشبين الكوم "مدرسة المساعي المشكورة الثانوية" وهي المدرسة التي تعلم فيها الرئيس حسني مبارك والتي القي فيها بعد سنوات طويلة "ربيع 2005" الخطاب الشهير الذي اعلن فيه تعديل المادة 76 من الدستور وهي المادة الخاصة بالترشح لرئاسة الجمهورية وهو التعديل الذي انقسم حوله الرأي العام انقساما حادا: انصار السلطة رأوا فيه قفزة ديمقراطية هائلة لانه يفتح الباب لان يترشح للرئاسة اكثر من شخص، منهيا بذلك آلية الاستفتاء العام علي الرئيس القائم الحاكم وحده، وهي الآلية التي سادت في عصر عبدالناصر وفي عصر السادات، وانصار الديمقراطية الحقة- وآمل ان أكون من بينهم- رأوا في هذا التعديل تغييرا شكليا لا جديد فيه لان الباب الذي فتحه للترشح بين اكثر من شخص، اشترط لذلك شروطا تعجيزية عديدة تجعل النتيجة دائما في صالح الحزب الحاكم الاوحد، وفي صالح الرئيس الحاكم الاوحد.
كنت في "كُتّاب الشيخة امينة" "قبل دخول المدرسة الابتدائية" حينما بدأ ابي "المعلم عبدالغني سالم" يبني بيتا جديدا لكي ينتقل اليه هو وزوجته الثانية "أمي" تاركا البيت القديم الذي كانت تقيم فيه الزوجتان والاولاد واذكر ان بناء هذا البيت الجديد كان بالنسبة لي "دراما" كاملة: فهو تقريبا اول بيت يبني في القرية بالطوب الاحمر والاسمنت المسلح، لا بالطوب اللبن والسقوف الخشبية، وكانت قطعة الارض التي بني عليها في الاصل بركة ضحلة يخبُّ فيها النخل الصغير والحشائش والحلفاء والماء الراكد، وقد استأجر ابي الي جوار اللوري الذي كان يملكه "لينقل به الموالح من الجنائن الي الوكالات في المدن المختلفة" لوريات اخري تنقل ترابا كثيرا اشتراه من حواف حقول القرية والقري المجاورة ليردم هذه البركة ثم يقيم عليها البيت.
احفظ منظر السقالات والعمال والبنائين والاسمنت المخلوط بالزلط وهو طالع نازل بين السقالات في "قصعات" عديدة تحملها الصبايا من بنات القرية.
كان هذا المشهد يستهويني كثيرا "وقد ذكرته في الشعر غير مرة بعد ذلك" وكان "الكُتّاب" يقع في المسافة بين بيتنا القديم والبيت الجديد الذي يبني. وفي كثير من الايام اخرج من بيتي القديم الي "الكُتّاب" في الصباح، لكنني لا اذهب الي "الكُتّاب" بل الي موقع بناء البيت الجديد اشاهد هذه الدراما المثيرة واشارك فيها بما استطيع من عمل وحينما اسمع صياح الاولاد "زملائي" وهم خارجون من "الكُتّاب" فقد كانت لحظة افراج وحرية، اصيح مثلهم واجري عائدا الي البيت القديم.
في احدي مرات مشاهدتي ومشاركتي في هذه الدراما الكبيرة استمعت لاول مرة الي اغنية عبدالحليم حافظ "قولولو الحقيقة" كان هناك راديو "ترانزستور" علّقه احد البنّائين بين السقالات وفجأة انطلق مطلع اللحن: السقفة باليد ثم تدخل الآلات. كان حدثا جليلا، لحن جميل وكلام جميل: "طال شوقي وطال تعذيبي/ ولإمتي حاداري لهيبي/ حا اوصف له غرامي دا كله/ وف اول مقابلة حاقوله/ يا يصحيني قلبه/ يا ينسيني حبه/ لعيونه الجريئة/ ابو عيون جريئة".
كان الجميع "وانا في قلبهم" ينتشون بالاغنية التي تنطلق من بين خشب السقالات المتقاطعة فيمزجون العمل ببهجة الغناء ولم يكن يدور بخلد واحد منهم ان زمانا سيأتي بعد ثلاثة عقود فاذا بشيخ يدعي يوسف القرضاوي يفتي بان "أبو عيون جريئة" حرام، لانها اغنية تعارض مبدأ غض البصر الذي امر به الاسلام، حتي لا تكون شهوة وفتنة!
محمد فراج ابو النور، هو صديق الطفولة والشباب والرجولة والكهولة، هو ابن قريتي "الراهب" انا اسبقه بعام واحد كان ابوه هو ناظر المدرسة الابتدائية بالراهب، ولذا فمكتبة المدرسة كانت ميسرة لنا فضلا عن مكتبة بيته العامرة بكتب التراث القديم. كنا نقضي معظم الوقت في بيت محمد او في بيتي، وكونا شلة تضم معنا: سعيد فراج ابوالنور "ابن عم محمد" ومرسي نويشي وكان يلتحق بها بعد ذلك بفترة: عادل الشرقاوي وعادل سلامة وصلاح ابو نار وصلاح بيصار.
استمر محمد فراج ابوالنور خلفي بعام في كل مراحل الدراسة: الابتدائية "صبحي يوسف" والاعدادية "عبدالعزيز فهمي" والثانوية "عبدالمنعم رياض" ثم قسم الصحافة بآداب القاهرة حيث كان واحدا من قادة الحركة الطلابية بجامعة القاهرة في اوائل السبعينيات.
وبعد ذلك تفرقت بنا بعض السبل: ذهب الي الاتحاد السوفيتي وحصل علي درجة الدكتوراه هناك برسالة عن "صحف احزاب المعارضة المصرية". وبعد عودته عمل للآن محللا سياسيا في جريدة "العالم اليوم".
سعيد فراج أبو النور كان اكثرنا وسامة ولطفا. دخل المدرسة الصناعية كان وعدا بقصاص مبدع، اذ كتب بعض القصص القصيرة الجميلة ثم دخل الجيش وظل به الي ان قامت حرب 1973 واستشهد في هذه الحرب كان موت سعيد فاجعة هذه الشلة.
وقد كتبت قصيدة انذاك، يناير 1974 عن استشهاد سعيد فراج بعنوان "مرثية الي صديق عزيز مات في حرب السادس من اكتوبر 1973" ونشرت في صدر ديوان "سكندريا يكون الالم" يقول مقطع منها:
"أحمل جثتك علي صدري العريان
واحاول ان ازرعها في رئتي
تتمدد/ تتمدد
تفرش ارض الدلتا الاسيانة
وتسد النيل وتطفح فوق الشطين
احذية، وصديدا، وإدانة.
مكتمل انت الليلة في الميدان
شاهد اثبات لجريمة وأد
خلف حقول الليمون
فلتشهر جثتك المثقوبة في الحلبة:
ثاقبة، دامغة كالحربة.
هامش:
دمك الان علي كتف الجنرال النشوان:
رٌتبة".

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 108 مشاهدة
نشرت فى 1 أكتوبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

128,852