ولو شئنا أن نأتي بشواهد أخرى على آثار هذا الحب في قلب الشاعر لما انتهينا . ولكن نسأل أي نوع من الحب كان هذا الحب؟
إن معظم ما ورد في الديوان يقطع بأنه حب عذري نقي ، وهذا الحب يجعل المحب يرفع الحبيبة أعلى مكان ، ويضفي عليها الكمال ، فهو يناديها ويناجيها في الحلم واليقظة ويهيم بها في القرب والبعد ، ويلتمس لديها الأمن والراحة والدعة ، ويسكن إلى صفاء عينيها , وحلاوة صوتها ، وينعم بفتنة روحها ، وشاهد ذلك كثيرة ، نكتفي بذكر قصائده "قلب وقلوب" و "عقيدة" و "فلسفة الأمل".
استمع إليه في "قلب وقلوب":
أي قلب مثل قلب واجد مثل وجدي ، مدرك سر جمالك
أي قلب مثل قلبي عالم مثلما أعلم عن دنيا كمالك
أي قلب مثل قلبي قانع بالهوى العذري ، راض بخيالك
* * *
ألف قلب أنا أهواك بها لست أهواك بقلب واحدِ
كل قلب واجد ليس يرى في الهوى إلا قناع الواجد
ما خلا قلبي ، فقلبي لا يرى فيك إلا كعبة للعابدِ
وفي قصيدته "عقيدة" يؤكد أن حبه ، حب روحي ، وفيها يقول:
غيري يرى في الحب مت عة ساعة في العمر تقضى
والحب عندي متعة قدسية ليست تقضى
إني لأنكر أن تكو ن مدارج الأرواح أرضا
أنا لست أهوى غير رو حك ليس لي بالجسم شان
كوني بروحك لي فما أعني بجثمان يصان
إني أريدك أن تكو ني كعبة لي لا تهان
ويعود في قصيدته "فلسفة الأمل" فيكشف عن هذا الحب الروحي الذي لا ينتهي حتى إذا اجتوته الحبيبة فهو حب مستقر في قلبه ، لا تمحوه الجفوة. وفيها يقول:
قلت للقلب المعنى أي خير ترتجيه
بعد ما أغضت ولم تأ به بما أصبحت فيه
دع هوى الغفلان وانظر غيره من تصطفيه
إن في الدنيا إذا ما ر مت حسنا لا يحدّ
وحسانا كالحصى ، إن كنت تبغي ، لا تعد
عبثا تقضي الليالي سائلا من لا يرد
عبثا تحنو على من في الهوى يقسو عليك
عبثا تصبو إذا لم تلق من يصبو إليك
دع هوى الغفلان وانقض منه يا قلبي يديك
قال قلبي: ليس في الدنيا ولا الأخرى سواها
مصدر الآلام والآمال طرا مقلتاها
كيف تشكو في نواها من تباريح هواها
حبها لو كنت تدري لمحبين عباده
وصلاة وابتهال لا فراش ولا وساده
ودموع وجراح لا وسام وقلاده
وبمثل هذه النماذج الفريدة ، يلمس القارئ كيف سما الشاعر عبد الحميد السنوسي في شعره الغزلي شكلا وموضوعا ، وكيف شق الطريق للشعر العاطفي الرائع الذي يعد في رأينا تحفة شعرية نفيسة كل النفاسة منها قصيدة" الوداد الخالد":
عطفي عليك أجنه وحناني وسليم ودك مغنم الوجدانِ
ما أن ذكرتكمو وقد جد الأسى الا نسيت روائع الأحزان
لا أبعد الرحمن خلا وافيا عفّ الشمائل طاهرَ الأردان
يبكي وينحب ان بكيت لحادث جلل فيبعد وحشتي وهواني
يهدي إليّ عظاته فكأنما يهدي الشراب لعاطش غلان
خلق كأزهار الربيع شهية ومودة كصحيفة الغدران
* * *
ماذا القنوط وأنت أكرم ناصر يرجي لدفع طوارق الحدثانِ
ياعبقري الشعر شعرك مشرق كالبدر يصدع ظلمة الأكوانِِ
أسكت لسان المارقين فشدوهم شدو الذباب يطن في الآذانِ
لو كان يدرك كنه شعرك معشري رجع الدعيّ بصفقة الخزيانِ
نعق الغراب فهللوا لنعيقه وا رحمتا للطائر المرنانِ!
قل للدعيّ إذا ترنم ناعبا كالبوم ينعب فب ذرى الغيرانِ
أجهدت نفسك في بناء قصائد نحت الصخور ونحتها سيانِ
الشعر صنو للذكاء و إنما جهل الفتى يغريه بالهذيانِ
ولم يقتصر هذا الشاعر على ما ذكرناه من ألوان شعرية ، بل إن في الديوان ألوانا متعددة أخرى مثل شعر الاخوانيات ، وشاهده قصيدته البديعة التي وجهها إلى الرائد "عبد الرحمن شكري" وقصيدة "إلى صديق وفي" التي يقول فيها:
يا خليلي و أنت كل مرادي إن تدم لي يدم نعيم الفؤادِ
أي شئ ألهاك عني وقد كن ت تغني لغيبتي وبعادي
ما عهدت الإغضاء منك ولا الصد ولكن عهدت محض الودادِ
لم أزل خلك الحميم و إن أغ ضيت عني وصرت مثل الأعادي
ليت شعري أذاكر أنت عهدا مونق الحسن موروق الأعوادِ
حيث وجه الزمان مبتسم الثغ ر ابتساما يروع وجه العوادي
دب فينا الوفاء حتى حسبنا ه دبيب الأرواح في الأجسادِ
ظمأ النفس للهوى والوداد ظمأ الطير للحيا والعهادِ
قد شربنا من الوداد كئوسا مترعات تروي القلوب الصوادي
خمرة الدن مثلها خمرة الود تميت الأشجان في الأكبادِ
رب قلب أحب قلبا فأضحى أوحد القصد مثله في المرادِ
كل نفس في العيش تصبو لأخرى لهف نفسي على النفوس الفرادِ
وقصيدة "يا أخي" التي يقول فيها:
أخي أنت في هذي الحياة معيني إذا قل أندادي وعز قرني
أضن بحبيك الذي ملك الحشا ولست على هذا الورى بضنين
أعيذك أن تمشي الأظانين بيننا فليس الذي ترويه غير ظنونِ
و ما أنت حبة القلب إن أُصِبْ أصبت فؤادي واستثرت شجوني!
وشعر النماذج الإنسانية مثل قصيدتيه "الممثل" و "الشاعر الصداح" التي يقول فيها:
يحن إلى مرأى الرياض كأنه هزار له فيهن ملهى وممرح
وما الشاعر الصداح إلا كبلبل يغرد في روض الحياة ويصدح
* * *
إذا بسمت دنياه والدهر مقبل يغني وروض العيش ريّانُ مونقُ
يجود بألحان عذاب كأنها حيا تقشب الأزهار منه وتورقُ
* * *
له نغمة الملاح في اليم صادحا بأنشودة تشجي العباب وتطرب
وبين أفانين الغصون ظلاله يغني غناء الطير يلهو ويلعب
* * *
ويصبو إلى شدو الطيور فؤاده ويقبس منها الشعر وهو نشيد
ويصغي إلى صوت الطبيعة واجما إذا ما تغنت في السماء رعود
* * *
تغافل عن لؤم الحياة ومينها وقد يغفل الإنسان عما يحاذر
وهل ينفعنّ المرء حلم وفطنة إذا داهمته النائبات الجوائر
* * *
لقد طالعته النائبات فجاءة وحلت به البأساء والدهر غادر
فصار حزينا نادبا صفو عيشه و أي معين في الشقاء يؤازر؟
* * *
يؤمل أن يحيا وحيدا بمعزل عن الناس إن العالمين ذئاب
وكل امرئ في العيش يسعى لغاية ولكن آمال النفةس يراب
* * *
يُبكي إذا غنى على الأيك طائر كأن أهازيج الطيور نواح
وبات كئيب القلب لا يستخفه سرور ولا يقوى عليه مزاح
* * *
يحن ‘لى ضوء النجوم وومضها ففي أعين الظلماء سلوة بائسِ
إذا عبس الخلصان في وجه ضاحك تهش نجوم الليل في وجه عابس
* * *
عزاؤك أن الليل يحبوك وده إذا عز ود في الأنام سليم
فغرد مع الأرواح في زاخر الدجى فترقص أفلاك له ونجوم
وشعر الوطنية الذي وجهه إلى محمد فريد وإلى روح مصطفى كامل التي يقول فيها:
جاهدت لما كان غيرك راقدا حتى رقدت فطار كل رقادِ
تذوي أزاهير فتنمو غيرها والغرس لا يذوي على الآبادِ
وذكرى الإمام محمد عبده ، وإلى سعد زغلول "أهلا أبا الشعب" ، وغيرها من الألوان الشعرية ، التي تكشف عن علم من أعلام الشعر في الجيل الماضي لم يعرفه إلا القليلون ، وعن درر له مخبوءة وجب إماطة الظلام عنها وإظهارها ليستمتع بها عشاق العربية , وليأخذ هذا الشاعر حقه من حب قراء الأدب العربي.
د. السيد عبد الله سالم
المنوفية - مصر