الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

ومن قصيدته (ذعر الملوك):

 

كم حاكم يشقى بصولته               ويعيش عيش البائس النكَدِ

يُمسي ويُصبح جازعاً قلقا           جمَّ الوساوس واهيَ الجلدِ

الوهم يقصيه ويبعده                 عن صحبه والأل والولدِ

وهم تملك كل جارحة                 والوهم أقدر من سطا بيدِ

يخشى الذي الأسياف تحرسه       وجنوده موفورة العددِ

ويلذ راح النوم من صفرت          كفاه من عد ومن عُددِ

أين النعيم لجازع وَجِل               الفرخ في عينيه كالأسدِ؟

لا الروضة المئراج تنعمه           كلا ، ولا ترنيمة الغردِ

العيش مدبره ومقبله                في عينه طخِيانُ كالأبدِ

إن جنّته الليل البهيم بدا             في مقلتيه شارق الزُؤُدِ

يرتاع حتى من تنفسه              وهْناً ، ويُفني الليل في سهدِ

التاج أضحى فوق هامته          عبئاً ولم يجْنِ سوى الكمدِ

لا تحسدوه على غضارته         عيش الفقير أحق بالحسدِ!

 

 

وقد تأثر شاعرنا كذلك، وهو في شرخ شبابه ، بتشاؤم عبد الرحمن شكري. فأنت تجده يتحدث دائما عن كذب الأصحاب والأحباب ، وعن غدرهم ، وعدم تقديرهم لصدق عواطفه ، ولمكانته في عالم الأدب . . وكان يعتز بشعره ، ولا يشك في قيمته ، وفي التقدير الذي سيحظى به ، ولنقرأ معا هذه القصيدة القصيرة بعنوان " القبر".

 

ألا ليت شعري هل نرى في سمائه       نجوما وأقمارا هناك تنيرُ؟

ألا إن آمالي نجوم تنير لي                إذا غيبتني في الممات قبور!

 

بيد أن شاعرنا الرقيق أحس بجفاف الحياة العملية عندما اضطر للتفرغ للمحاماة. وقد ظهر ذلك جليا في المرحلة الثانية من شعره.  فهو لم ينقطع في هذا الشعر عن ذكر تعطش قلبه للحب ، وشعوره بالفراغ حين يفرغ قلبه من الحب وبالضياع حين يغدر به الحبيب أو يبين عنه. كان الحب لديه حينذاك بمثابة الواحة في الصحراء , وقال يعبر عن تلك الحال في قصيدته "شك وأمل":

 

وقنعت منك بنظرة وبلفتة                 وطفقت أحلم بالنعيم المقبلِ

أصغي إلى رنات صوتك مثلما            يصغي الغدير إلى هزيج البلبلِ

وشربت من هذا الحديث المشتهي        كأسا ألذ من الرحيق السلسلِ

كاشفتكِ الحب الدفين فأشرقت           عيناك تفحصني وتنكر مقْولي

وظننتني ألهو بقولي مثلما               يلهو الورى في خسة وتَبذّلِ

إني أُمحّضُكِ الوداد فصدقي              فالشك يطعن مهجتي في مقتلِ

لوددت أن يبدو فؤادي حاسرا          لتريْ وفائي في هواك فتعدلي

ستجيئك الأيام بالخبر الذي             ينبيك عن قلبي فلا تتعجلي

أَوَ ما قرأت الحب في عيني وفي       نبرات صوتي الواجف المتبلبلِ

وأبنت لي شطرا من الهم الذي         يجثو على جنبيك مثل الجندلِ

فبكى فؤادي حسرة وعجبت من        دنيا تغر الناظرين وتبتلي

أفمثل هذا الحسن يجرع في الأسى     ويبيت في ليل بهيم أَلْيلِ

أخشى عليك لهيب حب جامح         فأصد عنك وفي صدودي مقتلي

ألقاك بالذكرى على رغم الألى        بخلوا علينا باللقاء الأولِ

لأطعت فيك صبابتي مستهترا         لولا حديث المحنقين العذلِ

لكن بحسبي أن قلبك عالم           بنوازعي وخوالجي وتعللي

إني لأهزأ بالعوالم كلها               ما دمت أشعر أن قلبك صار لي!

 

وقال أيضا :

أحبك حبا طاغيا لو عرفته             لهالك ماتطوى عليه سرائري

وأشفقت أن أبقى وحيدا مروعا      فريسة أحلامي ونهب خواطري

 

وقال كذلك:

فردوس قلبي عاد قفرا موحشا       لما حبست الماء عن غدرانه

جفت أزاهره على أكمامها            وقضت بلابله على أغصانه

ان شئت ظل القلب في ريعانه       وإذا أبيت يموت قبل أوانه

 

لقد فقدت الحياة الآلية التي كان يسلخها في عالم المحاماة كل طعم ولون ، فإنها لم تكن توافق ذوقه وإحساسه الشاعريين ، ولم يعد يزدهيه شيئ في الوجود غلآ علاقة حبه وما يتولد عنها من أحاسيس ومعان. فقال في ذلك:

 

حسبي من الدنيا ابتها         جك حينما تدنين مني

حسبي من الدنيا اكتئا          بك عندما تنأين عني

حسبي وحسبك أن نقض      ي العمر في وادي التمني

 

وقال أيضا:

لولا هواك لظل قلبي ساكنا             متحجرا (كالجلمد) الصوان

لولا هواك لعشت دهري صامتا       خلوا من الأفراح والأشجان

لولا هواك لما جرى في خاطري      شعر يلاحقني بكل مكان

لك أنت وحدك فضل ما صورته       بأناملي ونفثته بلساني

 

وقال كذلك:

لو كنت أعرف ما تخفينه سكنت          نفسي ورفَّه عني الهم عرفاني

لولا بقية آمال تخالجني                    لفاض نبعي وعاف الطير غدراني

وعاد بي اليأس أدراجي إلى زمن        كالفقر لا حارس فيه ولا بان

 

وهو بهذا اللون من الشعر ، يخرج على ما تعود عليه شعراء الجيل السابق على جيله من الأغراض الشعرية التي كانت سائدة ، ويفتح النافذة هو وقلة من شعراء جيله على الشعر العاطفي ، وعلى ألوان أخرى من شعر الوجدان ، وشعر الطبيعة ، وشعر الخواطر ، وشعر المعنويات ، وشعر الأسرة ، وشعر الفكرة ، وغيرها من ألوان الشعر الجديدة ، التي لم يكن للبيئة الأدبية في عصره ، عهد بها.

 

وفي هذه الألوان الشعرية المنوَّعة تراوح شعره بين التقليد ، والأصالة ، كما تراوح تعبيره بين الرصانة والجزالة ، وبين السلاسة والطلاقة ، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.

 

والملحوظ أن الشاعر في شعره قد جارى بعض أقرانه الشعراء وسايرهم في بعض هذه الألوان الشعرية وبخاصة شعر المعنويات ، وشعر الفكرة ، وشعر الطبيعة ، ففي شعر المعنويات نراه يتحدث عن "الغيرة" وعن "الموت" وعن "ركود النفس":

 

خبا ضرام الهوى يا بؤس آمالي            من ذا الذي يقدح النيران للصالي

عادت حياتيَ ليلا لا ضياء به            بعد السلو فيا بعداً لآصاليقد كنت أحسب نفسي روضةً أُنًفاً                     غنّاء تطفُرُ من حال إلى حال

حتى غدوت كحادي النيب أسأمه           تشابه العيشَ في غبراء مِمْحال

لا أكذب الله , أيامي كما سلفت               لكنها ظلمةٌ في النفس والبال

ردّوا عليّ عقابيلَ السقام                    ففي هياجها راحتي , والسقم إبلالي

قد كان قلبي مثل البحر تضربه           هوج الرياح فيطفو دره الغالي

تجيش بالزاخر الطامي جوائشه          من كل معنى كصوب الغيث هطال

فالآن لا درر فيه ولا صدف                أقوى..وبدل أحوالا بأحوال

يا من يعيد إلى الجنات رونقها            بعد الذبول أَعِدْ لي روضيَ الحالي

مضى زمان فلا طير يغرد في               نفسي ولا هائج يهتاج آمالي

حتى لأصبح قلبي بعد نضرته             كأنه طلل ملقيّ بأوصالي

 

 

 ولكنه في مثل هذه الموضوعات المطلقة ، لا يتحدث حديثا مجردا كما كان يفعل عبد الرحمن شكري، بل كان يمزج أكثرها بوجدانه.

 

وفي شعر الفكرة ، التي كان يتحدث عنها العقاد حديثا مجردا كان يمزج الفكرة بالعاطفة ، ومن شواهد ذلك قصيدته "الشائق المشوق" التي تدور حول فكرة طريفة هي أن الحب ليس من أجل الجمال ، لأن الجمال يذوي ، بل الحب من أجل المشاطرة الوجدانية والروحية ، وفيها يقول:

 

عشقتك لا أني تعشقت ميعة                  من الحسن تطويها الليالي البواكر

ولكنني أملت فيك مصادقا                    يؤازرني في لوعتي ويشاطر

فما فضل هذا الحسن ان كنت جاهلا        هواي ولم تشعر بما أنا شاعر

بلى ، نحن نهوى من يحس غرامنا         فنجري على قدر الغرام السرائر

وإلا فإن الكون للقلب سامر                 وللنفس فتّان وللعين ساحر

فلا حسنه بال كحسنك في الثرى            ولا وجهه زاو كوجهك نافر

 

وقصيدة "المغرور" التي يقول فيها:

 

يرى نفسه فوق السماء وإنما            يطير به فوق السماء غرورٌ

ويحسب أن الناس طرا عبيده            فكل كبير ما خلاه صغير

يطل علينا من سماء غروره             وكل الذي تحت السماء حقير

 

والملحوظ أيضا أن شعره الوجداني ، الذي يعبر عن حالاته النفسية ، يماثل شعر شكري ، وهو شعر ينزع إلى الأسى واليأس ، ونلتمس هذا النزوع في طائفة من قصائده ، ونذكر منها "سكون الفناء" و "أين الوفاء" و "شكوى" و "دوحة الفرصاد" و "شتاء النفس" التي يقول فيها:

 

لم يعد من بعد ماضيعتني                 مؤنس لي غير شعري ودموعي

كلما هاج الجوى واشتعلت               لوعة هوجاء مابين الصلوعِ

صحتُ! يا قلبي المعنى غنني           واشف ما بي من جوى مرٍّ وجيعِ

غنني: واغسل جراحي بالدموع        واسكب السلوى على العاني الصديع

غنني: وارقص على وقع الأسى       كلما حطم درعا من دروعي

غنني: ما طال ليلي: غنني:            وادعُ فجري  - أين فجري؟ للطلوعِ

غنني: جفت أزاهير المنى               فادع صيفي – أين صيفي؟ للرجوع

غنني، حتى هجوعي ربما              برئت نفسي من بعد الهجوع

غنني، بل لا تغني ، زدتني             حسرة ، واهتجت ياقلبي ولوعي

 

ونلحظ استخدام علامات الترقيم بكثافة في تلك القصيدة وحسن استخدامها للتعبير عن مكنون نفسه دون التصريح به بكلمات ، وهذا من محاولات التجديد في بناء القصيدة العربية الذي شاع استخدامه بين شعراء الحداثة وما بعد الحداثة بل نراه جليا في قصيدة النثر العربية الجديدة ، وقد يكون الشاعر عبد الحميد السنوسي عندما لجأ إلى علامات الترقيم لم يكن في نيته أن يحدث تجديدا في البناء الشكلي للقصيدة العربية ، وهو لم يدعيه ولم يطلبه أحد من شعراء عصره ولكن ما أراد أن يعبر عنه في شعره ، استلزم هذا الشكل من استخدام علامات الترقيم الجميلة التي شكلت وتدا في فهمنا لما يريد أن يخبرنا به الشاعر ، وما أراد أن يرسله لقلوبنا وأحاسيسنا.

 

ويؤيد هذه النزعة المكتئبة قصيدته "دوحة الفرصاد" التي جاء فيها:

 

ولقد مررت بدوحة الفرصاد             فشهدت ما فعل الزمان العادي

جفت نضارتها وصوح نبتها            وتناثرت أوراقها في الوادي

فبكيتها ، لا بل بكيت صبابتي           ورثيتها ، لا بل رثيت فؤادي

يا دوحة الفرصاد غيّرك البلى           وجرت عليك روائح وغوادي

أشبهت أعوادي التي نثر الأسى        أوراقها  ، واها على أعوادي

قد كنت مثلي في الربيع غضيرة        أيام أبراد المنى أبرادي

فغدوت عارية ، فلا ثمر ولا              ورق عليك ولا هزار شادي

 

ونلمس في هذه القصيدة الوجدانية ومثيلات لها كيف كان يزكو لهذا الشاعر مزج حالاته النفسية بمرائي الطبيعة ، تلك المرائي التي أحب جمالها وفتن بسحرها ، وتحدث عنها في جزالة حينا ، وفي رقة وسهولة حينا آخر ، وشواهد ذلك نلمسها في قصيدته "مصطاف البحر" ، وفي "الغدير" التي يقول فيها:

 

جرت عليك دهور              من بعدهن دهور

وأنت للصب ملهى             وللحزين سمير

كم قبلتك شموس               وقبلتك بدور

وكم عليك تغنت                بشعرهن الطيور

حتى دهتها المنايا            إن الحياة تدور

فما لهن رنين                   ومالهن هدير

كأن لم يك شدو                 هناك إلا الخرير

 

وهذه القصيدة ذات الوزن الخفيف الراقص والإيقاع البسيط ، وكأن إحساس الشاعر بتدفق ماء الغدير قد انتقل إلى موسيقى القصيدة ، فنحس الموسيقى الداخلية الهادئة مع تدفق ماء الغدير بين ثنايا القصيدة ، كما نرى رقة الألفاظ وعذوبتها واستخدام الحروف ذات المخارج الصوتية الخفيفة (الرقيقة) والتي تصدر من الشفاه كالباء ، ومن الأنف كالنون ، وحروف الترقيق كالهاء والراء والتاء ، وكلها حروف خفيفة في النطق راقصة في الموسيقى ، ترسل في النفس خفة وطربا ، يتناسب مع الجو النفسي الذي أشاعه عبد الحميد السنوسي في قصيدته.

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 130 مشاهدة
نشرت فى 1 أكتوبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

118,180