قراءة في ديوان
"شعر الأستاذ: عبد الحميد السنوسي"
تحقيق:
- محمد مفيد الشوباشي
- مصطفى عبد اللطيف السحرتي
وزارة الثقافة والإرشاد القومي
المؤسسة المصرية العامة
للتأليف والترجمة والطباعة والنشر
ترجمة الشاعر:
ظهر الأديب الشاعر المرحوم: عبد الحميد السنوسي في مستهل القرن العشرين بين جماعة الشعراء المجددين الذين تهيأت ظروف ظهورهم عند انتقال مصر من مرحلة تطورية إلى مرحلة أكثر تطورا.
وقد ولد عبد الحميد السنوسي بمدينة الإسكندرية في عام 1898, وتوفي بها عام 1956, ورث الشاعر عن أبيه وعمه السيدين عمر السنوسي , وإبراهيم السنوسي – وكان هذا الأخير شاعرا له ديوان مطبوع في المغرب – كتبا كثيرة في الأدب العربي القديم, لم يهملها كعادة أولاد الأدباء والعلماء, ولكنه عكف عليها يقرأ فيها, ويحفظ منها ما يروقه, ويذهب إلى المدرسة الابتدائية المطلة على البحر المتوسط بالإسكندرية ويسمع زملاءه التلاميذ الصغار ممن كانوا في مثل سنه ما حفظ من مقامات الحريري وشعر أبي تمام والمتنبي. والعجيب أنه كان يستعين بالشروح والقواميس ليلم بمعاني ما يقرأ ويحفظ حتى استطاع أن يكون على علم صحيح بها وبأغراضها , وهو بعد فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة.
وفي عام 1912 استطاع عبد الحميد السنوسي أن ينظم شعرا سليما , ولكن ذلك الشعر كان في الأغلب محاكاة لمن كان يقرأ لهم من شعراء العرب الأقدمين.
وتعرف على شعراء الإسكندرية الذين سبقوه في هذا المضمار ليعرض عليهم ما نظم, ويسمع رأيهم في نظمه. فتعرف إلى عبد اللطيف النشار, وعثمان حلمي, وحسن فهمي, وزكريا جزارين, وبيرم التونسي , وخليل شيبوب , وغيرهم. واكتسب بهذه الصلة خبرات جديدة في صياغة الشعر بتعرفه على تجاربهم الأدبية, ونقدهم وملاحظاتهم الدائمة والمستمرة لما يكتبه من أشعار وعن طريقهم استطاع الإطلاع على أشعار البحتري , والشريف الرضي , ومهيار الديلمي وغيرهم.
وفي عام 1913 تعرف إلى الشوباشي الذي كان يتميز بإطلاعه على الشعر الإنجليزي أكثر من إطلاعه على الشعر العربي القديم , وصلة الصداقة بينهما أتاحت لكل منهما فرصة الإفادة من مزايا شعر الآخر.
وفي ذلك الوقت كان الأستاذ: عبد الرحمن شكري يقوم بتدريس التاريخ بمدرسة "رأس التين الأميرية" , وكان من حسن حظ أدباء الإسكندرية في ذلك الوقت أن اعتادوا أن يتقابلوا عصر كل يوم في الجانب الغربي من الحديقة العامة الواقعة في ناحية "وابور المياه" مع الشاعر الذي يرجع إليه الفضل الأكبر في دفع نهضتنا الشعرية إلى الاتجاه الحديث في مطلع القرن الماضي, وكانوا يسمون مكان اجتماعهم "حديقة الشلال".
وفي عام 1915 ظهر الجزء الأول من ديوان عبد الحميد السنوسي بعنوان "لغة القلوب" وقدم له عبد الرحمن شكري. وفي عام 1918 ظهر الجزء الثاني من ديوانه باسم "نغم النفوس".
وفي عام 1919 وفد إلى الإسكندرية الشاعران الكبيران عباس محمود العقاد , وإبراهيم عبد القادر المازني, واتخذا منها موطنا لهما, وموطنا لمدرسة الديوان الشعرية الكبيرة والتي فتحت نافذة للشعر العربي يطل منها على الشعر الإنجليزي العالمي.
اضطلع هؤلاء الشعراء –ومنهم عبد الحميد السنوسي- بتطوير الشعر العربي من الكلاسيكية إلى الرومانسية , فنحن نلمس في دواوينهم الأولى قدرا كبيرا من الرصانة العربية القديمة , ثم أخذ بعد ذلك يسهل شيئا فشيئا , ويكتسب الشخصية الحديثة مع الأصالة, كذلك ردد أولئك الشعراء في قصائدهم الأولى بعض المعاني المتداولة ثم استطاعوا بعد اكتساب الخبرة الكافية أن يعبروا في دقة عن عواطفهم الخاصة, وبعدوا كثيرا عن أحداث السياسة ومشكلات المجتمع والحياة العامة, وقصروا اهتمامهم على الأحداث التي تقع لهم, أي كأنهم كانوا يبعدون بشعرهم عن الشعر الرائج آنذاك وهو شعر (مناسبات) كما كانوا يطلقون عليه في ذلك الوقت.
استمر عبد الحميد السنوسي على هذا المنوال فترة من الزمن, ولكن تكاليف العيش قضت عليه أن يبتعد رغم أنفه من هذا الميدان ويهب عقله ووقته للمحاماة التي أصبح علما من أعلامها, إذ انتخبه المحامون رئيسا لنقابتهم في الإسكندرية.
خصائص شعر عبد الحميد السنوسي:
يمكن تقسيم حياة السنوسي الشعرية إلى مرحلتين؛ مرحلة التردد بين الكلاسيكية و الرومانسية , ثم مرحلة الرومانسية.
خصائص المرحلة الأولى (التردد بين الكلاسيكية والرومانسية):
قد يشك القارئ حين يطلع على أشعار عبد الحميد السنوسي في هذه المرحلة في أنها من نظم شاعر عربي قديم وليس السنوسي وشاهده قصيدة "الموسيقى" حيث يقول:
نشيدك أم هذا جمان منظم من الطل في الأسماع يهمي ويسجمُ
أداعية العهد الأنيق الذي مضى دعاؤك فينا الآمر المتحكمُ
ألا اطلقوا من شدوها العذب انها لنفس الفتى صنو قديم وتوأمُ
هي الراح في الآذان سكرا ولذةً ولكنها في القلب نار تضرمُ
هي الراح إلا أنها مبعث الأسى وفي الراح منه مستجار ومعصمُ
إذا اصطفقت في السمع فاضت مدامع وحالت عيونٌ واستبان المكتّمُ
يلذ لنفسي أن يبين خفيها لها فهي أدرى بالخفي و أعلمُ
فما تركت في حبة النفس نزوة تغلغل إلا عن مداها تترجمُ
إذا همدت أشجاننا جددت لنا شجونا خلت منهن بؤسي و أنعمُ
تعيد لنا الماضي وإن طال نأيه فيُنشر مطويّ وتُبعث نومُ
أغاريدها كالناس شتى , فناحب شجي البكا أو ضاحك مترنمُ
فطورا لها لطف كما هبت الصبا وطورا لها عصف كما اهتاج خضرمُ
غذاء الهوى ألحانها فإذا خبا وخف لظاه ساورته فيضرمُ
تهب لها نفس الفتى من منامها هبوب الورود المحل والوبل مثجمُ
ونلحظ في هذه القصيدة أن الشاعر استخدام التراكيب اللغوية القديمة والألفاظ العربية الصعبة مثل "يسجم بمعنى يسيل أو ينصب, وخضرم بمعنى البحر الهائج, والمحل بمعنى الذابلة, والوبل مثجم بمعنى المطر المتتابع السريع"
، وبالرغم من أن الموضوع الذي عالجته القصيدة يعتبر موضوعا حديثا إلى حد ما, والتزم فيه الشاعر الوحدة العضوية للموضوع , و إن ظل على تمسكه بالشكل العمودي ووحدة البيت كأساس لبناء القصيدة , وتمسكه الصارم بالقافية والروي , وهذا مما كان يتمسك به الشاعر العربي القديم, كما نرى أيضا في تلك القصيدة رصانة الصورة الشعرية والتركيبة الجمالية, التي التزمها الشعر العربي القديم.
وبعد قليل نرى الشاعر يكتب قصيدته التي تبدو سابقة لعصرها بسنوات مثل قصيدة "أقبل الصيف يا حبيبي". وقد جاء فيها:
قد أقبل الصيف يا حبيبي يختال في ثوبه القشيب
والطير لاه جِدُّ طروب يشدو على غصنه الرطيب
ولاح في الصيف كل طيب غير مجاليك يا حبيبي
* * *
فلُحْ كما لاحت النجومُ وابسمْ يَزُلْ ليليَ البهيمُ
إذا أضلتْنِي الهمومُ فأنت برقي الذي أشيمُ
و أنت نجمي الذي أرومُ لا أنجم الليل يا حبيبي
* * *
قد أقبل الصيف يا حبيبي من بعد ما لجَّ في المغيبِ
يسعى إلى اليابس الجديب سعْيَ حبيب إلى حبيبِ
فما تراءى سوى خصيب إلا منى القلب يا حبيبي
* * *
ما أوحش الصيف في فؤادي و أنت كالنجم في البعاد
كلا. . فنجم الظلام باد في السهل والقفر والوهاد
يُرى سناه في كل واد فليتك النجمُ يا حبيبي
* * *
قد أقبل الصيف يزدهينا ويبعث الشوق والحنينا
يبث جسر الهيام فينا وينشر الراقد الدفينا
فكن على لوعتي معينا واروِ صدى القلب يا حبيبي
* * *
الروض زاه أيّ زهاءٍ والطير داع أيّ دعاءِ
وقدس الكون كل راءٍ غير محب جمّ العناءِ
لا تَطّبيه – وأنت نائي - لوائح الصيف يا حبيبي
* * *
يا فرحة الزهر بالطيور وفرحة الطير بالغدير
الليل ضَحْيانٌ بالبدور والروض نشوان بالعبير
فما لقلبي بلا سمير أفرده الدهرُ يا حبيبي
* * *
قد كان كالطير في اللقاء يمرح في واسع الفضاء
ويملأ الكون بالغناء فمن سماء إلى سماء
جَنَاحُه هاضَه التنائي وريشه سُلَّ يا حبيبي
ثم نرى قصيدة "خلود الحسن" ذات الأسلوب المتصلب الطنان , عتيق الصياغة , والتراكيب اللغوية والجمالية الذاهبة إلى تقليد شعراء العربية القدامى:
سقى ربعك المأنوس فيض الغمائم وجادته أفواه الغيوث السواجمِ
فكم ليَ فيه من غرام وصبوة نقضت فمالي غير زفرة نادمِ
أبثك ما ألقاه من ألم الجوى ومن لوعة بين اللهى والحيازمِ
ومن جذوة لليأس أية جذوة تدب بأحشائي دبيب الأراقمِ
أضيئي لنا وجه الحياة وجددي زمانا مضى كالحلم في عين حالمِ
إذا الهم أبدى صفحتيه اطّرحتِهِ وأبْتِ إلى عهد الهوى المتقادمِ
فأخلس من ذكراه ما النفس تشتهي على مضض من كل لائح ولائمِ
مقيلي من عصف الرياح السمائم وهَدْيي في داج من العيش فاحمِ
فيا لك من أمن وليد المظالم ويا لك من صفو نتاج العلاقمِ
أضيئي لنا وجه الحياة فإنها معودة ألا تضيء معالمي
نتوق إلى الغيب الخفي فلا نرى سوى وجه مُغْبَرِّ الأسرّة ساهمِ
كأني ضرير يعشق الكون سمعه ويرمق ما يخفى بألحاظ واهمِ
أضيئي لنا وجه الحياة وأشرقي شروق الأماني في الصدور القواتمِ
فلا الشمس تهديني و لا أنجم الدجى إذا غاب عني ضوء تلك المباسمِ
لَفِيكِ حياة النفس فهي خميلة فلا تبخلي بالعارض المتراكمِ
فكم نفس إن جادها القطر أمرعت وبعض نفوس الناس مثل المخارمِ
فلا تمنحي لألاء ضوئك أخرقا فكم غاض قَطْرٌ في الرمال الصرائمِ
أضيئي لنا وجه الحياة و أجزلي عطاياك فالأيام في كف عارمِ
فليتك روض مونق كلما ذوى تجدَّد فيه النَوْر زاهي الكمائمِ
ويا ليت شمس الحسن كالشمس لا تني إذا غربت أن تستبين لشائمِ
ولكن إذا ما بزك الحسن ثوبه وأصبح للأيام إحدى المغانمِ
سيخلد في شعري جمالك آمنا خلود الرسوم في صحائف راسمِ
ومرة أخرى نعود إلى أسلوب رقيق يعبر عن أدق المعاني في سهولة باهرة , ولنقرأ هذه القصيدة التي تسيل عذوبة وبهاء وهي قصيدة "الغيرة":
سليلة حب العاشق المتضّمِ ألم تلدي غير الأسى والتندمِ؟
صبابة نفس أنجبتك لعَوْنِها فكنت عليها كالجُراز المصممِ
فزَيّنتِ الهوى حتى تبدل بالقلى فشْبَّ لظاه كالحريق المُضرمِ
وأعشيتِ بالأوهام عين المتيّمِ فبات يناجي كل غيب مرجمِ
لقد كان كالورقاء في الحب خاضعا فضرَّيْتهِ حتى غدا أيَ قشعمِ
جمعت الهوى والحقد فيك إنما جمعت الردى والحسن في جلد أرقمِ
وكم عاشق نبهته بعد هجعة فهب هبوب الضيغم المتقحمِ
فلا منصت إلا إلى قول كاشح ولا ناظر إلا بعين التوهمِ
يبيت طوال الدهر يهذي بوتره ويدنيه منه الروهم في كل معلمِ
فلا ناعم بالعيش إلا إذا شفى من الدم غلا أو يضرّج بالدم
توهم في تطلابه الثأر مغنما وكم مغرم للناس في طي مغنمِ!
وحب الفتى للنفس مغنم ومغرم وكل بها – حتى الردى – جد مغرم
ورغم رقة وعذوبة هذه القصيدة ونزوع الشاعر فيها للتجديد بالحديث عن الوجدانيات وهو الغرض الذي بات مقصدا في مدرسة أبوللو الشعرية , نراه يحتفظ بجزالة الألفاظ والتراكيب اللغوية الصعبة, فنلمح المتهضم وتعني المظلوم , والجراز المصمم وتعني السيف القاطع البتار, كما أن فريت والتي تعني قطعت نتذكرها كثيرا من شعراء العرب القدامى, والتعبير "يبيت طوال الدهر يهذي بوتره" نرى فيه المعنى الجاهلي والتعبير اللغوي الجاهلي وكأننا أمام شاعر من شعراء العصر الجاهلي يطلب ثأره ممن غدر به وآذاه.
مما سبق نلحظ عدم انتظام تطور الشاعر من الكلاسيكية إلى الرومانسية ذلك التطور الذي طال تعرجه وتحوله بعد التقدم, بل طال تردده حتى سار في الطريق الذي اختاره عندما اكتسب الشاعر الاستقلال والشخصية الخاصة به, وأصبح صوته الشعري متفردا وجديدا.
وقد يتبادر إلى الذهن أن عدم استقرار الشاعر في مطلع حياته على أسلوب واحد يرجع إلى وقوعه في ربقة محاكاة غيره, فيجيئ أسلوبه تقليديا عندما يحاكي الأقدمين ويجيء حديثا عندما يحاكي المحدثين. ولكننا نستبعد هذا الرأي لأن صدق الشاعر الذي نتحدث عنه في التعبير عن مشاعره , حتى عند لجوئه إلى الأسلوب الطنان, واضح من ثنايا شعره منذ أول عهده بالنظم, والراي الراجح عندنا أنه عندما كان يحاول ترقيق شعره , لاسيما عندما ترق نفسه , ولكن كثرة اطلاعه على الأدب العربي القديم أثرت في أساليب ذلك الأدب وصيغه البيانية , وجعلت تتزاحم على ذهن شاعرنا , وتجيش في صدره , فتتغلب على مقاومته حينا, وتتسرب إلى بعض أبياته حينا آخر, ونلحظ هذا جيدا في قصيدته تحت عنوان "النفوس الكبيرة":
تحلِّق فوق نجوم السماء وتجرع من ضوئها المُترعِ
وتهوى العلاء فتشقى به وحب العلا مصرع الأروعِ
وليس طماح النفوس سوى عذاب النهى وجوع الأضلعِ
ولو بلغ المرء هام السماك لرام المزيد ولم يقنعِ
ولولا المطامع عاش الورى قطيعا من البهم في بلقعِ
هذه المقطوعة الصغيرة الجميلة يعبر فيها عن الطامح في العلا بحثا عن موقع أعز وأغلى تحت الشمس كالشاعر الباحث عن صوت شعري متميز بين شعراء جيله لابد أن يحصل على هذه المكانة والصوت الجديد , قد يشقى قد يتعثر ولكنه لابد أن يصل إلى مراده , وفيها نرى التردد مابين العذوبة والرقة في نفس الشاعر المحدث والجزالة والرصانة في أساليب الشعر العربي القديم, هذا صراع الشاعر من أجل صوت شعري جديد يميزه ويعبر به عن نفسه , وعن مشاعره ووجدانه, كأحسن مايمكن لشاعر رومانسي يتحدث في الوجدانيات. ومن أشعاره مقطوعة قصيرة تعتبر شاهدا قويا على ذلك ,بعنوان "قلبه العاشق":
وأشد من فعل الشمول بمنتش هاروتُ طرفك في فؤاد الوامقِ
تصفيق أجنحة الطيور إذا انتحت أفراخها كوجيب قلب العاشقِ!
بيد أن الشاعر في نهاية المطاف استطاع التخلص من تأثير الأساليب القديمة على شعره فنراه شاعرا محلقا في خيال الرقة والعذوبة والرومانسية فصفى أسلوبه ورقت كلماته, وأصبح له صوتا شعريا متميزا, ونلمح ذلك في العديد من قصائد الديوان ولنتأمل هذه القصيدة الرائعة, تحت عنوان "إهداء حبيب":
لقد هويت الذي كنت أهواه وتيمت قلبك المتبول عيناه
قد كنت تعذلني في حبه سفها حتى غدوت طليحا بين أسراه
هو الذي كنت حتى اليوم أعبده وكان قلبي حتى اليوم مرعاه
كم كان يطربني منه تبسمه وكان ينعمني – يا خلُّ – لقياه
وكم رغبت عن الآمال أنشُدها فكان يوقظ آمالي محياه
وكان للحب أمر نافذ أبدا في القلب يأمره طورا وينهاه
أضحى فؤادك مثلي شيقا ولعا قد سامه الحب تبريحا وأعياه
لا تحسبن الهوى سهلا فإن له في كل رهط أسيرا من سباياه
ان تكتم اليوم حبا أنت ضامنه فإن طرفك قبل اليوم أفشاه
لا تكتمن غراما لاح لائحه الحب يظهر مهما المرء أخفاه
لئن هويت الذي قد كنت أعشقه فسوف أهجره جهدي وأنساه
وسوف أزجر قلبي عن محبته قسرا وأجنبه عمدا و أسلاه
وأتركنك فردا في محبته أنعم بعيشك في الدنيا واياه
والذي كان في أسلوب الشاعر في اشعاره الأولى هو نفس ماكان في معانيه . فقد كان يأتي أثناء تلك المرحلة بالموضوعات والمعاني المبتكرة في القصيدة تلو القصيدة , ثم نجده ينكص مرة أخرى إلى المعاني القديمة المعادة, ولا شك أن مرجع هذا إلى طبيعة محاولة التجديد التي لابد أن يتعرض من يحاولها للتعثر مرة , ثم للتوفيق , ثم للتعثر من جديد قبل أن تقوى قدماه على السير الثابت المكين. ونحن نشير من القصائد الغزلية في تلك المرحلة إلى قصيدة "أقبل الصيف يا حبيبي" وقصيدة "ألم ولذة" و "الحبيب الغافل" و "الليل والحب" فهذه القصائد وأمثالها تتميز بأصالة المعنى و الأسلوب معا, وتكاد ترسم للشاعر معالم طريقه الجديد.
وغرير يضن حينا على القلب بوصل ويسعد القلب حينا
كم لهونا بحسنه فأجدّ اللهو داءً بين الضلوع دفينا
ما علمنا باللهو يبتعث الداء ويضْري بلابلا وشجونا
قد روينا وما ظمئنا إليه وظمئنا فلم يعد يروينا
نحن لولا الرخاء لم نعرف الشجو ولم نَعْتَدِ الأسى والأنينا
ما لهونا إلا وأبعدنا الدهر زمانا عن الذي يلهينا
يصبح اللهو ذكرة تملأ القلب كلوما والجفن دمعا سخينا
الهوى كالرياح لا تبعثنه فتثير الرياحُ جمراً كمينا
أنت لولا الشقاء عذبك الرغد وآض النعيم سقما رهينا
يملح البدر بعد عهد دجوجي يطيل المحاق فيه الدجونا
نحن لولا قبح الشتاء لما شمنا الفَتُون يوما فَتُونا
و في (الليل والحب) يقول:
وحبيب أما بدا قتل اليأ س وأحيا الآمال والأحلاما
إن بدا بدّل الظلام ضياء أو نأى بدّل الضياء ظلاما
كنت ألقاه إن دجت حلكة الليل وغطى ظلامُه الآطاما
كم رقبت الليل البهيم وأمَّلْ ت اقترابي منه إذا الليل غاما
غير أني أمسيت من بعده أر هب جنح الظلام اما ترامى
أيها الليل صرت عون شجوني ولقد كنت مطمحا ومراما
يأبا الخوف والتسهد واليأ س عهدناك مأمنا وسلاما
أنت في قربه بهيّ وفي البع د بهيم , تَنْفي وتُوري السقاما
أين ما كنت أجتلي من معان فيك – يا ليل – تبعد الآلاما؟
أين وجه الحبيب ينفي شجيَّ النف س ويحي بين الضلوع الغراما
أين ألحاظه تصوب على قل بي فتشفى أُوارَهُ والأُواما
أين أنسى به وقد شرب القل ب عقارا من لحظه ومداما
أصبح الأنس وحشة تملأ النف س وعاد الدواء داء عقاما
كم تجلت لنا النجوم وأبدت كلةُ السحب زهرها البساما
غير أنا ما راقنا رونق النج م وهل يستبي الجمال الرماما؟
كل حسن إذا غربت غريب لا يزيد الهمومَ الا اضطراما
يُذكِرُ الحسن حسنكم فيهيج الذ كر قلبا بحبكم مستهاما
ونسمعه ينشد في قصيدة (الحبيب الغافل):
وحبيب علقته وهو لا يشعر قلبي لذاذةً وأمانا
يتغنى فيشتكي الحب والهون وما إن يدري الهوى والهوانا
يتغنى وقلبه الغض خال فيثير الهموم و الأحزانا
هو كالطير ربما نحب الطيرُ فأبكي ولم يكن أسوانا
كيف يدري الهوى حبيب غرير كالأزاهير رقة وليانا
لو درى ما الهوى لأوسعني في الحب عطفا ورحمة وحنانا
اننا في الهوى نحِنُّ إلى الشجو ونبكي العهدَ الذي أبكانا
سوف ننسى العهد الذي مرّ في الحب وننسى النعيم والأشجانا
قد يدب النسيان يوما إلى القلب كما يطرق الكرى الأجفانا
ولأن شاعرنا كان يهب عقله وقلبه في تلك المرحلة للشعر دون غيره, فحالفه التوفيق – برغم عدم اكتمال شخصيته الأدبية وقتذاك – في اختيار الموضوعات الجميلة لقصائده , ومن بين هذه القصائد "الموسيقى" و "إلى النوم" و "الأعمى" و "الغيرة" و "ذعر الملوك" و "نابليون في القديسة هيلانة" و "الممثل" ولسنا نقول أنه جاء في ذلك بالجديد الذي لم يسبقه إليه أحد ، فقد تأثر في هذا المنحى بما كان يقرأ وقتذاك من شعر انجليزي كما تأثر بدواوين شكري والعقاد الأولى ، ولكن قصائده هذه ، برغم استيحائها من قراءاته تتمتع بقدر كبير من الأصالة والجمال والترابط الفني الذي يؤهلها لتكون خطوة كبيرة من خطوات التجديد في الشعر العربي وخروجه من أسر الكلاسيكية إلى رحابة فضاء النفس الرومانسية وشعر الوجدانيات ، ثم من بعد ذلك بزوغ حركات من التحرر الشعري أكبر وأوسع في مدارس أدبية متلاحقة من شعر التفعيلة والحداثة وما بعد الحداثة ، فلولا الحجر الذي رماه أدباء المدارس الرومانسية في بحيرة الأدب العربي الشعري الراكدة ، ما استنفرت همم وقرائح الشعراء فيما بعد للتجديد والخروج من الدائرة الأدبية القديمة المغلقة ، ولا يعني هذا أننا ضد الشعر المنظوم المقفى ، ولا ضد الحداثة وما بعدها وما قد يستجد من مدراس أدبية مختلفة تثري حياة الأمة وترقيها ، ولكن نصر على حرية الإبداع للشعراء والأدباء ومن حق كل شاعر أن يختار المدرسة الأدبية التي يري أنها تعبر عن مواقفه الأدبية وتوجهاته الفكرية والعقائدية وما يتلائم مع طبيعته النفسية ، أي أنه لا ضرار أن تتواجد المدارس الشعرية في آن ، فميلاد مدرسة لا يعني موت المدارس الأخرى ، بل يقويها ويعضدها ، وفي النهاية فإن المستفيد من هذه المساجلات والمطارحات والمدارس المختلفة هو القارئ و الساحة الأدبية نفسها التي تملأ وجدان الشعوب وتحفزه على العمل والإنتاج فنسمعه يردد في (إلى النوم):
طِبّ النفوس وراحة الأبدان رقرق حياك العذبَ في أجفاني
أدمى الجوى قُرحَ الجفون فهاتِ لي مما تدوفُ عصارةَ السلوانِ
يا مطلق الأرواح في دنيا الكرى أطلق سراحي في الوجود الثاني
غلب السهادُ فلا الظلام بمنجل على ولا فَلَقُ الصبح بدانِ
ماذا وراء السهد؟ ماذا أرتجي هلا قنعت بنومة المبطانِ؟
أبداً نَقِّب في الظلام كأنني أضللتُ ما لا تعرف العينانِ
ايهاً مجيرَ العالمين من الأسى وملاذ كلِّ مسهّد حيرانِ
تسقى الجفون الراويات من الكرى وتضن بالسُقيا على القرحانِ
ولربما تغشى الفتى لتروعه ولقد يجيء الغيثُ بالطُفانِ
من ذا يعين على الهموم إذا عدت ومَن المخفَّض سورة الأحزانِ
ننسى إذا هومت فوق رءوسنا عَبَثَ المنى وخديعة الإنسانِ
كم مطمح كالنجم في عليائه سامي المنال أتيح للوسنانِ
تمشي إلى صرعى الخطوب مع الدجى مشي الطبيب إلى فراش العاني
تمضي بأحزان النفوس وانما تمضي بهن إلى الصباح الثاني
يا ليت أنك عندما تغشى الورى تذر المنى وتروح بالأشجانِ
هيهات ذاك .. فإنما آمالنا وشجوننا في النفس ممتزجان
داوِ الأسى فإذا وهنت فَخَلّهِ