سأحدثكم ايها السادة اليوم عن شخصية في التاريخ الاسلامي , اُفتُرِيَ عليها ما لم يُفْترَ على غيرها , ونعتت بكل ما هو منكر ورذيلة براءته منها كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب . اما من هو ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟ ساقول لكم يا دام عزكم :
انه الخليفة العباسي المشهور ب (هارون الرشيد ) ؛ هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي ، كان مولده في سنة ثمان وأربعين ومائة , عرف بالشجاعة والقوة ، وقاد الحملات في عهد أبيه ، ولم يتجاوز العشرين , ثم استقرت الدولة الاسلامية على يديه رحمة الله بعد توليه الخلافة , حيث اخمد الثورات , واصبحت حدودها من الاطلسي غربا الى الصين شرقا , لذا اشتهرت عنه مقولته للسحابة : سيري حيثما شئت سيصلني خراجك , دليل اتساع الدولة واستقرارها .
اما الكيف : فقد حاول بعض المستشرقين , يساندهم بعض الكتاب العرب من حاملي الفكر الصليبي الحاقد , الافتراء عليه وتشويه سيرته العطرة , وذلك بتلفيق القصص عنه وصفه بانه صاحب جوار وخمر ونساء , ماجن مصاحب للشاعر الماجن ابي نواس , وطباعة هذه القصص طباعة تجارية رخيصة , ونشرها في الاسواق ليتسنى للعامة قراءتها دونما تمحيص , وقد تسللت بعض هذه الروايات الى كتاب الشهير قصص (الف ليلة وليلة ) عندما أعيدت طباعتها مرة اخري الطبعة التجارية , ذات الاوراق الصفراء . اما سبب هذا التشويه فتعالوا نبدا القصة من اولها .
اعتاد الروم ان يغيروا على ثغور المسلمين اثناء الثورات والفتن الداخلية في الدولة العباسية , فاخذ يغير عليهم ويقود الغزو بنفسة , حتى أضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة ، فعقدت (ايريني) ملكة الروم صلحاً مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة 181 هـ ، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم نقفور الأول ، الذي خلف إيريني في سنة 186 هـ ، وكتب إلى هارون : "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب ، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ (القلعة في الشطرنج)، وأقامت نفسها مقام البَيْدق (الجندي في الشطرنج)، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أمثالها إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقهن ، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قِبَلك من أموالها، وأفتدِ نفسك ، وإلا فالسيف بيننا وبينك" . فلما قرأ هارون هذه الرسالة غضب غضبًا شديدًا , ورد عليها برسالة مماثلة على ظهر رسالته : "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام".
خرج هارون الرشيد على رأس جيش كبير بلغ تعداده 135 ألفا سوى الاتباع والمتطوعين , وتوغل في آسيا الصغرى حتى وصل هرقلة , فحاصرها واستولى عليها عنوة , وأعقب ذلك توجيه حملات متلاحقة بقيادة كبار قواده أمثال داود بن عيسى وشراحيل بن معن بن زائدة ويزيد بن مخلد , هزمت جيوش البيزنطيين ودمرت حصونهم , مما اضطر( نقفور) أن يعترف بهزيمته ويتعهد بدفع الجزية من جديد . يقول الطبري :" و بعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية عن رأسه وولى عهده وبطانته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينارذهبي " .
ومما يجدر ذكره ان هارون الرشيد كان على علاقة طيبة مع امبراطور الدولة الرومانية المقدسة شارلمان(768 - 814 م) وعاصمتها باريس ، كانت بينهما السفارات، والبعثات الدبلوماسية المتنوعة , كما ويذكر أن الساعة المائية التي أرسلها الرشيد إلى شارلمان مصنوعة من النحاس الأصفر بارتفاع نحو أربعة أمتار , وتتحرك بواسطة قوة مائية , وعند تمام كل ساعة يسقط منها عدد من الكرات المعدنية , يتبع بعضها بعضا بحسب عدد الساعات فوق قاعدة نحاسية , فتحدث رنينا جميلا في أنحاء القصر الامبرطوري . كانت الساعة مصممة بحيث يفتح باب من الأبواب الاثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة , ويخرج منه فارس , يدور حول الساعة , ثم يعود إلى المكان الذي خرج منه . وعندما تحين الساعة الثانية عشر ؛ يخرج اثنا عشر فارسا مرة واحدة , يدورون دورة كاملة ثم يعودون من حيث أتوا , وتغلق الأبواب خلفهم . أثارت الساعة دهشة الملك وحاشيته , واعتقد الرهبان أن في داخل الساعة شيطان يسكنها ويحركها , فتسللوا اليها خلسة أثناء الليل وحطموها , إلا أنهم لم يجدوا بداخلها شيئا سوى آلاتها ، حزن الملك شارلمان حزنا بالغا , واستدعى حشدا من العلماء والصناع المهرة لمحاولة إصلاحها واعادة تشغيلها, لكن المحاولة فشلت, فعرض عليه بعض مستشاريه أن يخاطب الخليفة هارون الرشيد ليبعث فريقا عربيا لإصلاحها فقال شارلمان " انني أشعر بخجل شديد أن يعرف ملك بغداد أننا ارتكبنا عارا باسم فرنسا كلها"
هذا هو الخليفة الذي افتري عليه هذه الافتراءات , رغم ان المحقق في كتب التاريخ الصادقة الموثوقة المنصفة , وعلى راسها البداية والنهاية للمؤرخ الكبير ابن كثير , صاحب التفسير الموثوق به للقران الكريم , يقع على كبد الحقيقة , حيث يروي ان الرشيد كان اماما عالما زاهدا , يصلي في الليلة الواحدة مئة ركعة , وكان يحج عاما , ويخرج بنفسه على راس الجيش لغزو الروم عاما آخر . وذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : " وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مئة ركعة إلى أن فارق الدنيا ، إلا أن تعرض له علة ، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم " .
عرفتم الان ــ ايها السادة الافاضل ـــ لِمَ شوّه المستشرقون الصليبيون وبعض مؤيديهم من صليبيي العرب صورة هذا الخليفة الزاهد , وافتري عليه كما يفتري اليوم على كل ما هو عربي واسلامي , وشيطنة كل وطني مخلص , وتشويه تاريخه النضالى وحياته الشخصية , وللاسف الناس يصدقون كل ما يجدونه بين طيات الكتب . طبتم وطابت اوقاتكم.