آفــــــــــــــاق

الموقع خاص بالكاتب ويتضمن إنتاجه الأدبى المنشور

<!--<!--<!--<!--<!--

صورة المرأة العربية فى السيرة الشعبية


(1- الأم )


  يختلف تناول التراث الأدبي الشعبي للمرأة ما بين نمطين يعكسان نظرة المجتمع لها، فهي إما جارية تباع في أسواق الرقيق ، وإما سيدة حرة ، ولكل منهما دور في الإبداع الأدبي حيث يغلب النمط الأول علي حكايات ألف ليلة وليلة والحكايات الشعبية – خاصة المرحة منها – بينما يغلب النمط الثاني علي السير الشعبية ..

           وسوف نركز أولاً علي النمط الثاني – المرأة الحرة – من خلال السير الشعبية المعروفة لدي المجتمع العربي ، كما سنقتصر علي تقديم وجه واحد للمرأة وهو صورة " الأم " لما يعكسه هذا الدور من أهمية في إعداد البطل الشعبي بكل ما يحمله من رموز تعبر عن الثقافة السائدة في المجتمع ، كما تعبر عن الضمير الجمعي للأمة العربية ..

           وهناك وجهان متناقضان للمرأة الأم في السير الشعبية ، يمثل الأول منهما الأم الحامية ، التي تعطي بغير حدود وتتحمل فوق طاقتها كي تحمي ولدها وتذود عنه حتي يشب ويشتد ساعده ، بل وترضي بالموت دفاعاً عن عفتها وشرفها حتى يعيش مرفوع الرأس.. بينما يمثل الوجه الآخر الأم القاتلة التي يعميها الطمع وتغلب عليها الأنانية حتى تحاول قتل ابنها ، وهو نموذج أقل شيوعاً علي أية حال في السير الشعبية العربية..

           وهذه الصورة للأم – بوجهيها – هي ولا شك من الرواسب الثقافية التي انحدرت مع الانسان من مخلفات عصوره الأسطورية الموغلة في القدم ، وظلت راكدة في تلافيف عقله اللاواعي لتظهر في ابداعاته الأدبية ، ويمكن القول أن هذه الصورة جسّدتها أساطيره الأولي في آلهات العبادات القمرية القديمة ، ثم في الملاحم السامية والآرية في الحضارات السومرية والآشورية والفينيقية والبابلية والمصرية ثم في ملاحم الفرس والاغريق ..  

    أولاً :  الأم الحامية :

           تطل سيرة " الأميرة ذات الهمة " برأسها فور الحديث عن المرأة في السير الشعبية لا سيما إذا كان الغرض هو الحديث عن الأم الحامية حيث تعتبر " ذات الهمة " هي النموذج والنمط المعبربصدق عن هذه الحالة ، إلي جانب صفاتها الأخري كفارسة مقاتلة شجاعة، ذكية عاقلة حصيفة ، تلك الصفات التي جعلت منها بطلاً لسيرة مستقلة ..

            في هذه السيرة يدور الصراع حول الجهاد الديني ضد أعداء الإسلام المتربصين به علي الحدود الغربية – وهو جوهر الصراع في معظم السير الشعبية – ولا يغفل القاص أبداً عن الجهاد الداخلي ضد الفساد والسلبية والتفرق ، قبل تصديه للجهاد الخارجي .. وهي كما تبدو مهمة صعبة وثقيلة مما يطرح سؤالاً عن ضرورة اسناد البطولة لامرأة في ذلك الوقت بالذات ! ؟ لكن يبدو أن القاص الشعبي – وبذكائه الفطري – لم يكن يهتم بالمتطفلين وأسئلتهم السخيفة ..

            تبدأ أحداث السيرة برسم صورة أخلاقية للمرأة العربية مؤكدة علي أهم صفاتها وهي الشرف والعفة ، ويصور القاصّ ذلك المشهد الفاجع بين " الرباب " زوجة الحارث الكلابي والعبد سلام في مكان موحش بالصحراء حين هربت من ديار زوجها بعد موته وهجوم الأعداء علي دياره خشية الوقوع أسيرة - خاصة وأنها حامل – لتقع فريسة لرغبات العبد الخائن الذي انتحي بها عن الطريق المعتاد بحجة الهروب من الأعداء ، وتجد الرباب نفسها بين خيارين كلاهما قاتل ، فإما الاستسلام للعبد أو المقاومة حتى الموت ، وبلا تردد تختار المقاومة وبكل ما تبقي لها من قوة تقاتل العبد مما أسرع بمخاضها ، ويلطمها العبد لطمة قوية فتسقط أرضاً والدماء تنزف منها بغزارة .. يسرع العبد بالفرار ذعراً ، ثم لا يلبث أن يعود بعد قليل ليجدها علي الأرض محتضنة وليدها، فيصيبه الذعر أكثر ليستل سيفه ويقتلها ويهرب تاركاً الوليد بجوار جثة أمه ..

           ولا يكتفي القاص بهذا المشهد لكنه يعود فيكرره مرة أخرى لزوجة الأمير جندبة نفسه والذي ولد في المشهد الدموي السابق ، فبعد أن شب في بيت أعدائه دون أن يدرى عرف نسبه الحقيقي فانضم إلي قبيلته والتقي بفارسة لا يشق لها غبار تدعي "قتالة الشجعان" ، ولكي يتزوج البطل بمن تستحق يتبارزان مبارزة عنيفة أبدع القاص في وصف شدتها وعنفها وإن كان القاص قد حسم نتيجتها للرجل إلا أنه لم يغمط المرأة حقها فزوجها منه وتزعما معاً قبيلة بني كلاب وأعادا لها هيبتها بين القبائل ..

           ويحدث أن جماعة من اللصوص تستولي علي قافلة خراج الخليفة عبد الملك بن مروان، ويتمكن جندبة وزوجته من إنقاذ القاغلة وإعادتها إلي دمشق، وهناك تقع عين هشام بن الخليفة علي قتالة الشجعان فتسحره ويصمم علي الفوز بها ، ويتحقق له ما يريد إثر مؤامرة دبرها وتمكن من اختطافها وظلت في بيته شهرين يحاول أن يأخذ مراده منها دون جدوى ولم يجد عندها غير الصد والإهانة فلما يئس منها اضطر لقتلها غيلة ودفنها ليلاً بواسطة جواريه ..

           وكما نرى نجد القاص يؤكد مراراً علي الجانب الأخلاقي للمرأة العربية بتكرار المشاهد الشبيهة بالمشهدين السابقين في قصص " ليلى والصحصاح " و " لبني وغانم " في نفس السيرة ويصل بالأمر أحياناً إلى أن تضحى الأم بطفلها فيذبح أمام عينيها علي أن تطعن في شرفها أو تخون زوجها كما حدث مع " نورا " زوجة أبو محمد البطال ..

           والتزاماً بالبناء الفني الشائع للسيرة الشعبية العربية، يولد البطل مبعداً عن أهله، مجهول النسب، مجهول الهوية، وفي ظرف غير مناسب، وتحت وطأة نبوءة قاسية أو حلم كابوسي أو رؤيا صادقة – ونظراً للتشلبه الذي يصل إلي حد التطابق بين شخصيتين من شخصيات السير الشعبية في مرحلة الأمومة رأينا أن نتناولهما معاً – ونقصد بهما الأميرة فاطمة بنت مظلوم أو ذات الهمة والسيدة خضرة الشريفة أم أبو زيد الهلالي في السيرة الهلالية إذ تنجب كل منهما وليداً أسود اللون علي خلاف لون أبويه مما يثير الشبهات ويفتح الباب السيئ للتأويلات والتفسيرات التي تضع كلاً منهما في وضع بالغ السوء ، وكانت كلتاهما قد تعرضتا لمؤثرات غير طبيعية قبل الحمل فخضرة بعد أن أنجبت بنتاً عقرت لمدة طويلة حتى أنها تمنت ولداً – ولو كان أسود اللون كهذا الطير الأسود القوى الذي يدمي كل الطيور – وتحققت الأمنية ، أما فاطمة فقد تزوجت ابن عمها الحارث بن ظالم والذى كانت تكرهه لما عرفته من ظلمه وظلم أبيه لأبيهامن قبل ، وهما سببان كافيان – نفسياً – لخروج المولود مشوهاً – ولو لونياً فقط – وتضطر خضرة الشريفة في هذه الحالة إلى الخروج بابنها، ولأنها لم تستطع أن تذهب إلي قومها بتهمة كاذبة فضلت أن تقيم في قبيلة غريبة عنها حتى يظهر الحق ، وتعكف علي تنشأة ابنها تنشئة سليمة إن في مجال العلوم أو الفروسية والأخلاق الحميدة ، متحملة الغربة والبعد عن الأهل ، ومفتقدة الاستقرار والهدوء ..

           وتمر فاطمة بنت مظلوم –ذات الهمة – بأقسي المواقف النفسية حيث يأتيها التشهير بشرفها ممن يفترض أنه أقرب الناس لها – زوجها – برفضه نسبة الولد إليه مما زادها التصاقاً به وخوفاً عليه وإصراراً علي رفع شأنه حتى " لقد تعجب الناس من تلك اللبؤة التي تقوى شبلها " ولأنها خبيرة فى فنون الفروسية فقد قامت بنفسها بتدريبه حتى إذا ما اشتد عوده قدمته على نفسها قائداً لجيش الثغور وظلت ترعاه وتحرسه وتفديه كلما تعرض لخطر ..

           ولكي تكتمل الصورة المثالية للأم نراها تقف ضد ابنها في بعض المواقف التي يكون بعيداً عن الحق فيها حتى لا يتمادى في الباطل ، كما نراها عقب كل معركة تقف بنفسها علي تفقد الجرحى ومداواتهم وتقديم يد المساعدة لمن يحتاج منهم ، إلي جانب معايشتها لمشاكلهم وهمومهم حتى استحقت لقب " أم المجاهدين " وكأن القاص الشعبي يرسم لنا صورة للأمومة المطلقة ..

           ويمضى القاص الشعبى فى تكرار نفس النموذج ، حيث نجد فاطمة المصرية في سيرة " على الزيبق " تقوم بالدور ذاته حين تخفى عن ابنها حقيقة نسبه خوفاً على حياته من عدوها صلاح الكلبى الذى قتل والده غيلة وغدراً ، لكن الولد يشب وارثاً الشجاعة والإقدام والذكاء عن أبويه – وكأن هذه الصفات تورث بشكل طبيعى عبر الأجيال حتى أنها في بعض الأحيان تكون سبيلاً للكشف عن شخصية البطل المجهولة – ويتفوق في مجال العياقة والعيارة وهو ميدان التنافس وإثبات الذات في ذلك الوقت ثم لا يلبث بعد أن اشتد عوده أن يعرف حقيقية أمره وهنا يبدأ مرحلته الثانية في ميدان المقاومة ضد الغريب المحتل ، ويدخل معركة تلو الأخرى الكلبي وأعوانه وما إن يقع في مأزق ، أو تقترب منه الأخطار حتى نجد أمه تسرع إليه لتذود عنه وتحميه وتنقذه دون أن يعلم هو نفسه شيئاً عن ذلك الفارس الحارس ..

           وفي سيرة " الظاهر بيبرس " نموذج آخر – وإن اختلف قليلاً عن سابقيه – ونعنى به فاطمة أيضاً ولكن هذه فاطمة البغدادية ، التى تحنو علي الظاهر وهو لا يزال طفلاً مملوكاً تركه الناس في الطريق وهو مشرف علي الموت ، فتمد يدها إليه بالرعاية والحنان رغم أنها ليست أمه التى ولدته ، وكأن القاص الفنان يريد أن يؤكد علي قيمة الأمومة ذاتها ، وليس على الحالات الفردية ، ويشفى الظاهر ويسترد قوته وعافيته وتتبناه ليرث كل ثروتها ، ويواصل هو رحلة البطولة دون أن تنقطع صلته بها فقد ظلت خلفه تمنحه الحب والحنان والمشورة عند الحاجة



     ثانياً : الأم القاتلة : 

           الأم القاتلة هى الصورة الضد لصورة الأم الحامية أو الحارسة .. وهي صورة منبثقة ولا شك من الأساطير القديمة للشعوب المختلفة ، لا سيما أساطير خلق الكون ..

            في الأساطير الإغريقية نجد الإله " كرونوس " يبتلع أبناءه بمجرد ولادتهم خشية تحقق النبوءة التي تفيد بأن أحد أولاده سوف يعزله ، وتتحقق النبوءة بالفعل حين تنجح زوجته " ريا " في إخفاء مولودها واستبداله بحجر يلتهمه كرونوس وهو يطلق ضحكاته السعيدة تتردد في أرجاء السماء ..

           وبصورة أكثر بشاعة يتكرر نفس الفعل من الهة أخرى هى " ميديا " إذ تقوم بذبح أولادها كلهم وبيديها نكاية في زوجها " ياسون " لأنه صمم علي هجرانها والزواج بغيرها ..

           وفي الحضارة الهندية القديمة نجد صورة الإلهة " كالي " زوجة الإله الأعظم " شيفا " الإلهة المدمرة ،التي تدمر العالم فيعيد الإله خلقه من جديد ، وتصور " كالي " هذه بعينين حمراوين وأسنان حادة كالخناجر، ترتدى عقداً مظوماً من الجماجم ، ويتدلى من أذنيها قرطان من الجثث، وتبرز لها أربع أذرع ذات أظافر قانية ، وتتمنطق بالأفاعى ..

            والمعروف أن هذا التصوير للآلهة القديمة هو تعبير رمزى عن علاقة الإنسان بالظواهر الكونية التى تحيره ولا يدرك كنهها وما " كرونوس " أو الزمن مثلاً إلاّ تعبير عن حتمية موت الكائن الحى مهما طال به الزمن .. وإن كان ذلك – فى بعض الأحيان – لا يمنع أن تُفهم هذه الرموز بحرفيتها فتتسرب وتترسب فى الإبداعات الشعبية المختلفة ..

           هذه الصورة للأم لا نصادفها فى تراثنا العربى لا بهذه الكثافة ولا بنفس التعمق الفلسفى ، والنموذج الوحيد الذى نجدها فيه هو سيرة " سيف بن ذى يزن " والمتمثل في أمه " قمرية " والتى ترميه في الفلاة بعد مولده وبعد أن تآمرت علي قتل أبيه الملك " ذى يزن " حيث تجده غزالة برية فترعاه حتى يلتقطه أحد الأمراء وتهمل الحاضنات أمره ، فتخطفه جِنِّية لترعاه مع ابنتها الوليدة " عاقصة " ..

           ولأن القاص الشعبى العربى يتمتع بالذكاء والحس الراقى ، ولأنه يعبر عن الوجدان الجمعى لأمته العربية ،  ولأن أصالته لا تقبل هذه الصورة فهو يؤكد على أن هذا النموذج  غريب لم ينبت ، ولا وجود له فى التربة العربية  "  وكان أصلها من بلاد العجم ، ومن تلك الأرض والأكم من بلد يقال لها قمرا "( السيرة ) فما هى إلاّ جارية أرسلها الملك " سيف أرعد " إلى الملك " ذى يزن " لكى تقتله غدراً وغيلة ، ولما انكشف أمرها ، داهنته وخدعته فتزوجها وحملت منه ، وبعد أن مات فجأة – ولا يخفى القاص هنا شكه فيها – وضعت وليدها " ولما ولد ورأته على هذا الحسن والجمال أخذتها الغيرة الشديدة وقالت فى نفسها إن قعد هذا الغلام وعاش أخذ منى المملكة ويحتوى على ما تحت يدى من المال والشجعان والأبطال ولكن يا قمرية اصبرى لعل زحل يساعدك بالخير على موت هذا الغلام" ( السيرة ) ، وبالرغم من أنها بذلت كل ما تستطيع لكى تتخلص منه ، إلا أنه كان ينجو من مؤامراتها بفضل الشخصيات المؤمنة الخيرة فى صراعهم الأزلي مع قوى الشر والدمار، ويكبرالوليد ويشتد عوده ليقوم بدوره البطولى المرسوم له، أما هى فتلقى جزائها العادل فى النهاية ..

2- الحبيبة / الزوجة

الصورة الثانية للمرأة العربية فى السير الشعبية هى صورة الحبيبة / الزوجة ، ولابد لنا من أن نقرن بين الوظيفتين ، الحبيبة والزوجة لأنهما مرحلتان متكاملتان ، فالغاية من الحب هى الزواج بطبيعة كما يحددها المجتمع محل الدراسة ، كما أنه لابد لنا من أن نفصل بينهما فى نفس الوقت ، وذلك من جهة أن الحبيبة لا تكون الزوجة إلاّ بعد اكتمال خصائص البطولة لدى البطل ، فالحصول على الزوجة الحبيبة فى السير الشعبية ليس سهلاً ، والعبور من مرحلة الحب إلى مرحلة الزواج دونه المتاعب والصعاب والأهوال .. فكما أن هناك مواصفات ومقومات خاصة للبطل ، كذلك للحبيبة أيضاً مواصفاتها ومقوماتها التى تؤهلها للعب دور هام فى حياة البطل ..

وعاطفة الحب فى السير جميعها – تقريباً – تنطلق شرارتها قبل مرحلة التكوين الكامل للبطل ، ومن ثم يؤجل التواصل والتكاشف حتى يثبت البطل ذاته ، وتتحدد معالم بطولته ، فالمرأة فى السيرة رمز لالتحام البطل بالجماعة واعترافها به واختيارها له ، حيث هو فى البداية يكون مرفوضاً ومبعداً إما بسبب لونه أو جنسه أو عرقه أو طبقته الاجتماعية ..

ونعني بهذا أن للحبيبة دور كبير ورئيسى فى تشكيل البطل لقبوله فى الهيئة الاجتماعية واندماجه فى النسيج العام للمجتمع ، وهى تقوم بهذا الدور انطلاقاً من إيمانها به وبرسالته وبقوة دفع تستمدها من قوة شخصيتها ومكانتها الاجتماعية ، وهو فى الحقيقة دور الحافز والدافع ..

ولعل من أشهر قصص الحب فى السير الشعبية -  والتى سنتخذها نموذجاً – قصة عبلة بنت مالك بن قراد وعنترة ابن شداد ، وهى القصة الواردة فى سيرة عنترة ، وهما أيضاً ثنائى الحب المعروف فى التراث العربي ..

لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا أن حب عبلة لعنترة هو مفتاح بطولته ، وهو الدافع لتفوقه ، سواءاً فى ميدان الفروسية أو فى ميدان الشعر فما يكاد يراها أو يذكرها حتى ينطلق لسانه بالشعر ولو كان فى ساحة الضرب والنزال ..

ولقد ذكرتك والرماح نواهل منى              

وبيض الهند تقطر من دمى

        فوددت تقبيل السيوف لأنها

       لمعت كبارق ثغرك المتبسم

 حقاً لقد كان عنترة طفلاً متمرداً على وضعه الاجتماعى منذ البداية ، وكان يضيق بقيود العبودية التى يرسف فى أغلالها .. لم يقدم على أى فعل لتغيير هذا الوضع إلاّ عندما أحس أنه عائق منيع أمام حبه .. ومن هنا تبدأ المرحلة الإيدابية فى حياته ، مرحلة الفعل ، فهو منذ أن وقع فى حب عبلة بدأت نظرته لنفسه تتغير ، تأمل وفكر فإذا هو ليس أكثر من عبد من عبيد القبيلة ، عمله لا يخرج عن حماية الأغنام والشياه من وحوش الصحراء ، ولا يمكنه أن ينظر إلى عبلة إلاّ كخادم وما عليه إلاّ التفاني فى خدمتها بأ تكون أول شاربة للبن الذى يقوم بتبريده لفتيات القبيلة ..

          إذن لا مناص من الحصول على الحرية ، والعمل على اعتراف الجميع به ، والحرية لا توهب ، ولكن دون ذلك قوانين الجماعة التى لا يتخطاها أحد بسهولة .. ويندفع الفتى يتفوق على الفرسان الأحرار فى الضرب والنزال ، وإنزال الرعب فى قلوب الخصوم ، ويستكمل مقومات النموذج الذى تنشده الجماعة ، وضع روحه على سنان سيفه حتى أصبح حامى الديار والمحافظ على شرف نساء القبيلة ، ومخلصهم من الأسر إذا ما أُ سرن من قبل القبائل المجاورة حتى اعترف به حراً وابناً لشداد أحد سادة القبيلة ..

          ومن الواضح أن حبه لعبلة كان الدافع وراء هذا التفوق ، والحافز لتحقيق الذات ، وظن الفتى أنه أزاح العائق المنيع بينه وبين عبلة ، إنه الآن بطل القبيلة بلا منازع ومن حقه الفوز بحبيبته التى يرغب فيها وترغب فيه .. لكن يبدو أنه كان واهماً ، فالماضى لا يُنسى بسهولة ، وحقيقة كونه ابن أَمَة لم تمح من الأذهان ، ففى الظاهر يعترف الجميع بأنه حر وابن أحد الساده، أما فى الباطن فالأمر مختلف ، ولهذا أخذ " مالك " يقدح زناد فكره كى يبعده عن ابنته ، وهداه عقله إلى أن يطلب ألفاً من النوق العصافير مهراً لعبلة ، وهو يعلم كما يعلم الجميع أن هذه النوق لا توجد إلاّ عند النعمان - عامل كسرى ملك الفرس – وأنّ طلبها يعني الموت المحتم ، لكن لأن حب عبلة في قلب عنتره قد فاق التصور ، فقد قبل الفتى على الفور ، وأعد عدته للرحيل رغم صرخات أمه وأخيه بأنه مقدم على الهلاك لا محاله.. وهنا عندما أحس الراوي أنه لم يعد هناك ما يمكن فعله من بطولات في المنطقه المحليه ، فما عليه إلا أن يفتح له مجالاً آخر في مكان أكثر أتساعاً ، وهذه النقله من الراوي ليست عبثاً ، بل هو - وبذكاء شديد - ينقله من الجهاد الداخلى إلى الجهاد الخارجي ، من الحيز الضيق إلى الحيز الواسع ، فبعد استقرار الأوضاع في الجزيره العربيه ، لازال هناك ذلك نير الفرس يتحكم في عرب الجزيرة فلابد إذن من رفعه والانتصار على العدو الخارجي ، ونراه  يربط هذه الفكره القوميه بعبلة أيضاً فما رحلته هذه إلا لجلب مهرها ..

ويبدأ البطل مرحلته الثانية ، أو المرحله الملحمية من السيرة ، ويعود مرفوع الراية ومعه المهر المطلوب وزياده ، وفي نفس الوقت يخلص العرب من تحكم العجم ، بل ويقدم المساعده لكسرى نفسه ضد أعدائه من الروم ، وتحققت له البطولة الكاملة كما نرى بدافع رئيسي يتمثل في عبله حبيبته وبطريق غير مباشر .. ولكن .. ماذا عن عبله ذاتها ؟ ماذا كان موقفها ، وما رأيها فيما يدور حولها من أحداث ؟

الحقيقة أنها لم تكن فتاة سلبية تجلس في بيت أبيها حتى يطرق بابها أول طارق ليحملها إلى بيته مجرد زوجة تقوم على خدمته وانجاب أطفاله .. لكنها كانت على عكس ذلك تماماً .. تقبل وترفض بمحض رأيها النابع من عقلها ، وكانت تتحمل عواقب الرفض والقبول ، ومسئولية قرارها ، فهى الأخرى اصطدمت بقوانين الجماعة عندما قبلت حب عنتره ضد رغبة والدها وأخيها .. كما أنها رفضت خُطّابا من أشراف القبيله تقدموا إليها وأثارت غيظ والدها وأهلها .. وتمسكت بحبها منذ لحظته الأولى وحتى النهاية ..

ففى مراحل السيرة الأولى حدث أن رفع عنترة يده على " عماره بن زياد " أحد نبلاء القبيله والذي تقدم لخطبة عبله وعُدّ هذا الحدث جريمة شنعاء أثارت غضب الجميع حتى اضطر والده شداد إلى أن يعيده مره أخرى لعمله كراعٍ للغنم وكان عليه أن يعاني من الشعور بالخزي وهو يرى محاربى عبس يستعدون لمقاومة هجوم من قبل قبيلة طئ ، وبينما هو في هذه الحال العصيبة تصله رسالة من عبلة حملتها أمه زبيبة تقول له فيها " طمئني قلب ابن عمي عنتره ، وأخبريه أنه حتى لو وصل الأمر بأن يجعل أبي قبري مكانا لراحتي ، فلن أرغب إلا فيه ، ولن أختارغيره .." (السيرة)وكانت هى التي تسعى لانقاذه من كل المؤامرات التي يدبرها أبوها وأخوها لقتله بالاشتراك مع بني زياد أو أحد خطابها الكثيرين وفي موقف آخر عندما ظن الجميع أن عنتره قد مات كما أخبرهم شيبوب الذي كان بصحبته في الطريق إلى النعمان ، وعم الحزن أفراد القبيله وأقيم له قبر رمزي وبكاه الجميع يأتي والد عبله ليخبرها أنه وعد "واقداً" أن يزوجها له ، اعترضت وأعلنت رفضها لأن تكون زوجة لواقد أو لعمارة لأنها " قد دفنت قلبها في قبر عنترة " وظلت وفية له غاية الوفاء دون أن تأبه بتحديات قومها ومعايرتهم لها حيث راحوايرددون متهكمين " بالأمس كان عنتره راعي جمالها واليوم صار زوجها .. بالأمس كان راعياً لها واليوم يركب صدرها " ..(السيره)..

وحتى في النهاية عندما أخبرها عنترة بالثراء الذي جاءها به قالت له : " إن سلامتك عندي أحب إلي مما ذكرت ، وما أرى العز إلا إذا حضرت " ..

وتواصل عبلة سعيها ليبلغ عنتره المثال والنموذج الكامل للبطل بمفهوم عصرها ، أي أنه كما تفوق في مجال الفروسية واحتل المكانه الأولى فيها عليه أن يحتل نفس المكانه في المجال الآخر ، مجال الشعر ، ولكي يصل إلى هذه المرتبة فلابد من أن يكون من أصحاب المعلقات ، وهو الأمر الذي لم يكن يسيراً ولا هيناً لنفس السبب الذي جعل القبيلة ترفضه في البداية وهو علة نسبه أوكونه ابن أَمَة.. وكادت الفتنه أن تقع بسبب هذا الأمرحتى لقد نصحه " الشيخ عبد المطلب " بالعدول عن هذه الرغبة اتقاء لشر الفتنة ، واستجاب عنتره لرجاء الشيخ عبد المطلب وكاد أن يعدل عن رغبته ، لولا أن رفضت عبله هذا الموقف وهددته بهجرانه إذاهو أذعن للضغوط وقالت له : "ما بالك تطيل فكرك ، وتتحير في أمرك ، أتريد أن ترجع عما عزمت عليه ، إنني منذ اليوم حرام عليك ، حتى تعلق لك قصيده على البيت الحرام .." (السيرة ) وتظل على موقفها لا تتزحزح عنه حتى يتحقق لها مرادها في النهاية ويصبح عنتره من أرباب المعلقات كما أصبح من أرباب السيف ..

وفى سيرة أخرى هى سيرة حمزة البهلوان أو حمزة العرب نجد قصة مشابهة بينه وبين الأميرة مهردكار ابنة كسرى أنو شروان ، لكننا هنا بصدد الحديث عن المرأة العربية ..      

هذه هى الصوره التي رسمها راوي السيرة للمرأة العربية حبيبة وزوجة ، هى الحافز والدافع والملهم والموجه ، وبها تستكمل مقومات البطل الذى اختارته الجماعة معبرا عنها وعن طموحاتها ومثلاً أعلى لها..

المراجع :

1-     المرأة فى الملاحم الشعبية : د. محمد رجب النجار،عالم الفكر،الكويت،مج 7 ع 1

2-     السير الشعبية              : أ. فاروق خورشيد، دار المعارف،القاهرة،1978

3-     سيرة الأميرة ذات الهمة  : د. نبيلة ابراهيم،الهيئة المصرية العامة للكتاب،1995

4-     أساطير إغريقية –ج 2  : د. عبد المعطى شعراوى،مكتبة الأنجلو،1995

5-     الماضى المشترك بين العرب والغرب : أ.ل.رانيلا، ت د. نبيلة ابراهيم،عالم المعرفة .


                                                                نشر فى مجلة البحرين الثقافية

  

العدد 24 ابريل 2011

                                                               








المصدر: مجلة البحرين الثقافية
samibatta

أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى ، كما أرجو أن تتواصل معى وتفيدنى بآرائك ومناقشاتك وانتقاداتك ..

  • Currently 18/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 1442 مشاهدة

ساحة النقاش

سامى عبد الوهاب بطة

samibatta
أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى على صفحات هذا الموقع .. كما أرجو أن تتواصل معى بالقراءة والنقد والمناقشة بلا قيود ولا حدود .. ولكل زائر تحياتى وتقديرى .. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

90,000