أمين المميز كما عرفته وبغداد كما عرفها
صادق الطريحي
كتب عن بغداد الكثير من الكتب والمجلدات، في الماضي والحاضر، في موضوعات شتى، شأنها شأن الكثير من المدن المؤثرة في الحضارة الانسانية، ومازلنا حتى اليوم نقرأ في هذه الكتب، كما كتبت في وقتها، وقد حققت وطبعت طبعات علمية وأخرى تجارية، ومازالت تعطينا صورة واضحة عن الزمن الذي كتبت فيه، على الرغم من تغير الأوضاع وتقلب الدول والسلطان.
وأود اليوم ان أتفحص كتاباً حاز على الجائزة الأولى للمجمع العلمي العراقي لعام 1952، كما مطبوع على الغلاف، هو كتاب (بغداد كما عرفتها، شذرات من ذكريات، المؤلف أمين المميز) لكن النسخة التي بأيدينا اليوم ليست النسخة التي طبعت في ذلك العام ولا هي صورة عنها، بل هو كتاب جديد أضيف عليه ما أضيف وربما محي عنه ما محي، ثم امتدت سنواته لتصل إلى العام 1984، وهو تأريخ الاستهلال الذي كتبه المؤلف على هذه الطبعة.
ومن الواضح أن الكتاب الأصل قد صدر في العام 1952، متضمنا صورة عن بغداد حتى ذلك الوقت تحديداً، وقد استحق جائزة المجمع بجدارة بلا شك، ولكن المؤلف قدم لنا في العام 1984، صورة أخرى عن الكتاب هي صورته الثمانينية، وهي صورة مطبوعة بطابع الإعلام الحربي في ذلك العهد، وكأن الكتاب قد صدر الآن متضمناً حوادث حدثت بعد عام صدور الكتاب، دون أن يفصل بين الكتاب الأصل وما أضيف إليه أو ما محي منه!! ثم صدرت طبعة أخرى من الكتاب عن مكتبة الحضارات في بيروت مسجل عليها (جميع حقوق الطبع محفوظة ومسجلة للناشر، الطبعة الأولى 2010) وكأن الناشر هنا يريد أن يستغفلنا مرة أخرى لنقتني الكتاب وقد اشتريته فعلاً.
وليست لدينا اعتراضات على الإضافة، والمؤلف مهتم ببغداد وما يطرأ عليها من تغير في العمران والأعمال، ولكن كان عليه للأمانة التاريخية أن ينشر صورة الكتاب الأصل كما صدر في العام 1952، ثم ينشر معه كتابه المتمم الذي يتضمن التغيرات التي طرأت بعد ذلك، إذ تضمن الكتاب انتقادات للطبقة الملكية الحاكمة وحوادث ومعلومات عن سياسيين عاصرهم المؤلف وعمل معهم، ولا نعلم هل هذه الانتقادات كتبت هكذا في الكتاب الاصل الذي استحق الجائزة الأولى لأكبر مؤسسة علمية وأدبية في المملكة العراقية أم أنها قد أعيدت كتابتها في عهد الجمهورية الدكتاتورية التي يتملقها المؤلف سنة صدور الكتاب!!! لقد ضيع علينا المؤلف الكريم صورة عن المعايير العلمية والفنية التي اعتمدها المجمع العلمي العراقي آنذاك لمنحه الجائزة. ولكن في الوقت نفسه حصلنا على صورة للعصر الدكتاتوري الذي سمح بطبع هذا الكتاب الجديد وتوزيعه في العراق، في الوقت الذي منع فيه نشر الكتاب بصورته الأصلية.
وللكتاب الأصل أهميته التوثيقة الكبرى بلا شك، فقد قدم صورة عن بغداد في بدايات القرن العشرين حتى بداية الخمسينات، وهي صورة واضحة، ملونة، تصحبها أصوات المقامات البغدادية للبغداديين السكارى وأغنياتهم في البساتين، ثم نسمع صوت الآذان من جميع مساجد بغداد، ونبصر المسيحيين واليهود ذاهبين عائدين من الكنائس والمعابد وقت الصلاة، أو هم يحتفلون بأعيادهم ومواسمهم، وترى حركة عربات الخيل والسيارات التي تنقل أهل بغداد بين محلاتها وملاهيها ومواخيرها وحاناتها، وهي صورة أنثروبولوجية صادقة، فقد كان المؤلف ناقلاً صادقاً لطبائع البغداديين وملابسهم ومهنهم، وهندسة بناء بيوتهم، ومجالسهم في الحزن والفرح، وطريقة تخزينهم للأطعمة بين الفصول، وأنواع الألعاب التي تمارس في ذلك الوقت، وصور شتى من التعبيرات الشعبية البغدادية، ثم صورة للنسيج الاجتماعي والديني، وطريقة التعليم في الكتاتيب والمدارس، ثم أثر التغيرات السياسية على المجتمع وغير ذلك من المعلومات القيمة عن مجتمع ذلك العصر، وهو كتاب يستحق الجائزة فعلاً، لتوثيقه العلمي لكون المؤلف هو المصدر المباشر للمعلومات الأنثروبولوجية والفلكلورية، فضلا عن الصور النادرة للشواهد البغدادية وخرائط محلاتها، وغير ذلك مما يطول تعداده. ولو أن المؤلف أعاد طبع الكتاب كما صدر في ذلك الوقت لكان قد قدم للذاكرة العراقية وثيقة أدبية وإنسانية مهمة.
ولآن لنتعرف على أمين المميز. يحرص المميز على أنه بغدادي أصلي، وينتهي نسبه إلى الوزير عبد الرحمن باشا والي كركوك الذي هو زوج ابنة حسن باشا والي بغداد لعشرين سنة، وإنه قد وولد في محلة الدنكجية التي كانت من كبريات محلات جانب الرصافة (ص37). ولكن المؤلف لا يذكر المساحين الهنود بخير، لأنهم قطعوا أوصال محلة الدنكجية وطمسوا حدودها (ص82) فماذا يعني ذلك لنا؟ يعني أن في بغداد ـ بحسب رأي المؤلف ـ من هم من غير الأصلاء، وإنهم لا يسكنون في هذه المحلة الأصلية والدليل على ذلك سعة مساحتها، وفي الوقت نفسه نرى صورة بعيدة عن بغداد ايام العثمانيين، فالمناصب توزع على أزواج بنات الوالي مثلاً!!
ويفرد المؤلف أوراقاً كثيرة للحديث عن وقفهم الذري في عادلة خاتون، وأوقاف أخرى مثل الوزيرية والحارثية وخانقين التي صار بعضها جزءاً من المزرعة الملكية أو دورا سكنية، او شقت كشوارع لتوسيع حركة المرور في بغداد، ويبدو لي أنه تناول حديث الأوقاف بوصفه حادثة لنزاع أسري حوله، ثم الحوبة التي اصابت الذين استولوا على الوقف أو من قسموه أو الذين اشتروا بعضاً منه.
ومن الواضح أن هذه الحديث غير موجود في الكتاب الأصلي لأن توابعه القضائية امتدت حتى 9/10/1958، وقد تناسى المؤلف إنهم أنفسهم قد استولوا على هذه الأراضي عن طريق السلطان وهباته لمقربيه وبناته وأزواجهم!!!
يضطر المؤلف أن يتملق النظام الدكتاتوري الذي سمح بنشر هذه الكتاب الجديد في ثمانينات القرن الماضي، ويضفي عليه من الصفات مالا يستحقها، فالمؤلف يصف مساهمة الدكتاتور في مناقشات تطوير بغداد بأنها مطالعات صائبة فيما كانت مطالعات الآخرين ساذجة وسطحية (ص30) وأشار إلى رعاية الدكتاتور لبناء الجسور إبان حكمه دون أن يشير إلى أن أطول جسر بني في الشرق الأوسط في العهد الملكي الذي هو جسر الصرافية الذي كان يسير القطار فوقه، وهو جسر عجزت الحكومات المتعاقبة أن تنشئ مثله حتى اليوم!
ويرى أن الدكتاتور قد ذلل الصعوبات التي عجز عن تذليلها الملك المؤسس فيصل قبل نصف قرن، فخلق شعباً عراقياً جديداً!! (ص62) وأكاد أجزم أن المؤلف كتب في الكتاب الأصلي أن المغفور له الملك المؤسس فيصل الأول قد وحد الشعب بسدارته، وأن حكومته تمثل العراقيين جميعاً بحسب الكفاءة.
وغالباً ما يقارن بغداد في بدايات القرن أو في العهد الملكي ببغداد أيام الثمانينات حيث نشر الكتاب، وكأن التلفونات وباصات المصلحة والقطارات والسينمات هي اختراع للدكتاتور، دون أن يشير من بعيد أو قريب إلى منجزات مجلس الأعمار العراقي الذي خطط لكل هذه المشروعات وأكمل التصاميم الفنية لها قبل أن يغتاله العسكر في ليلة مظلمة! وإذا ذكر عبد الكريم قاسم عدو البعث الرئيس، فانه سيصف خطاباته بالرعناء!
ولأن الدكتاتور كان في حرب مع ايران فقد حفل الكتاب بألفاظ مثل العجم والفرس الحاقدين وغيرها، وهي ألفاظ ليس لها وجود سياسي أو أدبي في الفترة التي كتب فيها الكتاب الأصلي.
وفي الثمانينات شنت الحملة المشبوهة على أبي نواس الشارع، والشاعر، والانسان، فإذا المؤلف يشترك في هذه الحملة ويسمي الشاعر بـ (أبو النّواص) متسائلاً عن سبب تمجيده وتخليده فليس هو مثلنا الأعلى لا فلسفياً ولا قومياً ولا أخلاقياً ولا هو من طين هذا البلد فطينته طينة فارسية أعجمية!!! ويحبذ تسمية الدكتاتور للمنطقة بالعباسية بدلاً من شارع أبي نواس كما وردت التسمية عرضاً على لسان السيد رئيس الجمهورية!!! (ص88) وقد كانت الدولة العباسية أفضل من الدكتاتور وأتباعه البلهاء إذ احتضنت أبو نواس وغيره في نسيجها الأدبي والسياسي والاجتماعي، وقد حفظ لنا الشاعر أبو نواس الكثير من اللغة العربية، وكان يعد حجة عند الرواة، وإن كان ماجناً فإنه كان نديماً للخليفة الأمين الذي تحتفظ بغداد باسمه لأحدى مناطقها!! والحمد لله أنه لم يدع إلى تغيير تسمية باب الشيخ لأنها تنسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، المتصوف الإسلامي الذي ولد في مدينة جيلان غرب الايرانية ونسب لها، ولم يدع إلى تغيير اسم شارع الشيخ عمر نسبة إلى الشاعر المتصوف السهروردي المقتول!! ولم يعترض على تسمية شارع السموأل نسبة نسبة إلى الشاعر اليهودي السموأل (صموئيل) بن عادياء!!!.
وقد تضمن الكتاب شطراً من مذكرات المميز وعمله في الخارجية العراقية، فتعرفنا إلى طبيعة الحياة في الدول التي خدم فيها المؤلف، والأحداث السياسية والاجتماعية التي عاصرته، فقد كان في بريطانيا يوم تنازل فيها الملك ادوارد الثامن عن العرش كي يقترن بالسيدة سمبسون وهي الأمريكية المطلقة، ونقل لنا احتفالات الإنكليز في صالة البرت هول في عيد رأس السنة الجديدة 1938، وهي احتفالات تنكرية اشترك بها المؤلف بزيه البغدادي الأصيل، ثم وصف لنا لندن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والدمار الذي حل بها وقلة الوقود في شتائها العظيم!
أما ما كتبه عن إجازته للزواج 1940 فيعد وثيقة مهمة حقاً فقد زار معظم المدن العراقية وتحدث عما تشتهر به من مأكولات أو شواهد تاريخية، وفي هذه الاجازة التقى بالشاعر معروف الرصافي ((ووقفت على كثير من أرائه وتناقضاته وعبقرياته وحماقاته واقتنيت مقطوعاته الهجائية التي لم تنشر لبذاءتها، وقرأت عدة"دفاتر"من مخطوطة"الشخصية المحمدية"أو"حل اللغز المقدس")) (ص274) وفي هذه الوثيقة رد على من يدعي أن الرصافي لم يكتب كتاب الشخصية المحمدية!!!
وختاماً أود القول، إن الكتاب الأصل كتاب فريد في بابه، وهو مصدر أول من مصادر الحياة البغدادية في بدايات القرن، شأنه شان كتب أخرى صورت الحياة البغدادية كما عاشها مؤلفو الكتب، ولكن مما يؤسف إليه إننا لم نطلع على الكتاب الأصل حتى اليوم، وإن ما نشر في الثمانينات صورة مشوهة عنه، صورة متأثرة بالأوضاع السياسية في ذلك الوقت. وكم نتمنى أن يكون عند ورثة السيد أمين المميز نسخة منه، فالكتاب يقدم صورة عن الزمان والمكان الذي نشر فيه، فضلاً عن محتواه الأصلي.
ساحة النقاش