authentication required

<!--<!--<!--<!--

قضي النقد الأدبي العربي مدة طويلة من الزمن، وهو يدور في مجال الانطباعية الخالصة، والأحكام الجزئية التي تعتمد المفاضلة بين بيت وبيت أو تمييز البيت المفرد أو إرسال حكم عام في الترجيح بين شاعر وشاعر، إلى أن أصبح درس الشعر في أواخر القرن الثاني الهجري جزءاً من جهد علماء اللغة والنحو، فتبلورت لديهم قواعد أولية في النقد بعضها ضمني وبعضها صريح، ولكنها كانت في أكثرها ميراث القرون السابقة. وإذا تتبعنا تاريخ النقد الأدبي القديم عند أسلافنا نجده مرَّ بمرحلتين([1]):

أولاً:مرحلة النقد الأدبي الشفوي:

وتبدأ من العصر الجاهلي حيث النقاد(النابغة الذبياني، طرفة، أم جندب، قبيلة قريش، يثرب،..)ومرورًا بعصر صدر الإسلام، حيث(رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر، وعمر، وعلي، وحسان بن ثابت، وعبدالله بن عباس... وغيرهم من الصحابةرضي الله عنهم أجمعين)، وانتهاء بالعصر الأموي، حيث(عبدالله بن أبي عتيق، وسكينة بنت الحسين، وعبدالملك بن مروان، والفرذدق، وجرير، والأخطل،...وغيرهم) واستمر النقد الشفاهي عند أوائل اللغويين والرواة في بداية القرن الثاني الهجري أمثال:أبي عمرو بن العلاء(ت154هـ)،وخلف الأحمر(ت160هـ)، والخليل بن أحمد(ت170هـ)، والمفضل الضبي(ت ) وغيرهم. وكانت ممارساتهم النقدية تتسم بالنظرة الفطرية، والذوقية، والجزئية، والإيجاز في التعبير، والسخرية في التصوير أحيانًا...

ومن أبرز نماذج النقد الشفاهي في العصر العباس

وصية أبي تمام للبحتري([2]):

 التعريف بالناقد:

هو أَبو تَمَّام: جبيب بن أوس بن الحارث الطائي، (188 - 231 هـ = 804 - 846 م): الشاعر، الأديب. أحد أمراء البيان. ولد في جاسم (من قرى حوران بسورية) ورحل إلى مصر، واستقدمه المعتصم إلى بغداد، فأجازه وقدمه على شعراء وقته، وجالس بها الادباء، وعاشر العلماء،. ثم ولي بريد الموصل، فلم يتم سنتين حتى توفي بها. كان أسمر طويلا. فصيحا، حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة، يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد والمقاطيع. في شعره قوة وجزالة. واختلف في التفضيل بينه وبين المتنبي والبحتري. له تصانيف منها (فحول الشعراء - خ) و (ديوان الحماسة - ط) و (مختار أشعار القبائل) وهو أصغر من ديوان الحماسة، و (نقائض جرير والأخطل - ط) نسب إليه، ولعله للأصمعيّ، كما يرى الميمني و (الوحشيات - ط) وهو ديوان الحماسة الصغرى، و (ديوان شعره - ط) ([3]).

الرؤى النقدية في الوصية:

تعد وصية أبي تمام لتلميذه البحتري (206 - 284 هـ) ([4]) نصًّا نقديًّا شفاهيًّا؛ فأبو تمام في وصيته أديب شاعر، يعبر عن رأيه في الإبداع. وذلك من خلال الرؤى الآتية:

1-ضرورة المُوجِّه للمبدع:

"قال أبو عُبادةَ الوليدةُ بن عبيدٍ البُحْتري: كُنتُ في حَداثَتي أرُومُ الشِّعْرَ، وكنتُ أَرجِعُ فيهِ إلى طَبْع، ولَمْ أكُنْ أقِفُ على تَسْهيلِ مَأْخَذِه، ووجُوهِ اقْتِضابِه، حتى قصدتُ أبا تَمَّامٍ، وانقطعتُ فيه إليه، واتَّكلْتُ في تَعريفِه عليه؛ فكانَ أوَّل ما قال لي". فلابد في الموجه أن يكون مبدعًا وعالمًا، عنده مؤهلات التوجيه والرعاية والإرشاد لغويًّا وفنيًّا، كما في شخص أبي تمام.

2-اختيار الوقت المناسب للإبداع:

"يا أبا عُبادة؛ تَخيَّر الأوقاتَ وأنت قليلُ الهُموم، صِفْرٌ من الغُموم، واعْلَمْ أنَّ العادةَ في الأوقاتِ أن يَقصدَ الإنسانُ لتأليفِ شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَر؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أخَذَتْ حَظَّها مِنَ الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ"

3-طريقة الإبداع في الغزل والمديح:

 "فإنْ أردتَ التنسيب؛ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَقيقًا، والمعنَى رَشيقًا، وأَكثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابة، وتوجُّعِ الكآبَة، وقَلَقِ الأَشْوَاق، ولَوْعَةِ الفراق. وإذا أَخَذْتَ في مَدحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ؛ فأشْهِرْ مَناقِبَه، وأظهِرْ مناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَه، وشرِّفْ مقامَه، وتقاضَ المعانِي، واحْذَرِ المجهولَ مِنْها".

4-الموقف من قضية اللفظ والمعنى:

 "وإيَّاكَ أن تَشينَ شِعْرَكَ بالألفاظِ الزريَّة، وكنْ كأنَّكَ خيَّاطٌ يقطعُ الثِّيابَ علَى مَقاديرِ الأجسام". 5- الباعث على الإبداع:

"وإذا عارَضَكَ الضَّجَرُ؛ فأَرِحْ نَفْسَك، ولا تعملْ شِعْرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغ القَلْب، واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلى حُسْنِ نَظْمِه؛ فإنَّ الشَّهْوةَ نِعْمَ المُعِين".

6-عمود الشعر:

 وجُمْلَة الحالِ أَن تعتبرَ شِعْرَكَ بِما سَلَفَ مِن شِعْرِ الماضين، فما اسْتَحسنَ العُلَماءُ فاقْصِدْه، وما تَرَكوهُ فاجْتَنِبْه؛ تَرْشدْ - إن شاءَ اللهُ تعالى".

تعليق عام على الوصية:

وردت وصية أبي تَمَّام في سياق توجيه البحتريِّ التلميذ إلى الطريقة السَّليمة لِنَظْم الشِّعر، ورَصْف مبانيه، وإتقان نسجه، وتتضمَّن توجيهاتٍ وضوابطَ عامَّة، يمكن للمطبوع أن يسترشد بها في مجال إبداعه الشِّعري، وهي في عمومها موجَّهةٌ إلى كلِّ مبدع شاعر؛ لِما فيها من نصائِحَ وتعليمات وتوجيهاتٍ ذهبيَّة، تتناول الأمورَ الجوهريَّة التي تخصُّ شروط الإبداع الصحيح، ولعلَّ ما يميِّز الوصية هو اختزالُها اللَّفظي واقتصادها اللُّغوي، لكنه اقتصادٌ فيه ثراء وغِنًى مِن حيث الزَّخمُ التوجيهيُّ الذي تزخر به.

والراوي في الوصيَّة هو نفسه الموصَى له، وهو "التلميذ" البحتري، ويُستفاد من مَتْن الوصية أنَّه تلقَّى من أستاذه أبي تَمَّام الوصية وهو في سنٍّ صغيرة: "كنتُ في حداثتي أَرُوم الشِّعر"، ويشير النُّقاد إلى أن أبا تَمَّام قال وصيَّتَه هذه في سنواتِه العشر الأخيرة، وقد نتساءل عن سبب قيام الأستاذ أبي تمام بتدبيج هذه الوصية الثمينة للبحتريِّ دون غيره من الشُّعراء الذين قد تتلمَذوا على يديه، ولعلَّ السبب في ذلك يعود إلى:

• اعتماد البحتريِّ على طبعه في نظم الشِّعر، حيث يركِّز على موهبته وطبيعته، دون الاعتماد على الصَّنعة والتنقيح ومراجعة الإبداع بالرعاية والنَّظَر.

• عدم استطاعة البحتريِّ الوقوفَ على تسهيل المأخذ ووجوه الاقتِضاء؛ ومعنى ذلك أنَّه كان يقول الشِّعرَ دون اعتمادٍ على طريقةٍ تُساعده على إبداع الجيِّد.

• تلمُّس أبي تَمَّام علائمَ النُّبوغ الشعريِّ على البحتري من خلال مصاحبته إيَّاه.

ويظهر من كلام البحتريِّ أنه تتلمذ على يد أبي تَمَّام ردحًا من الزمن ليس باليسير، عبَّ فيه من مَعينِ شعره، واتَّكل في تعريفه عليه، وكان طبعيًّا أثناء مدَّة التلمذة أن يُلاحظ أبو تمام بِعَين الناقد الخبير الحصيف علائمَ النُّبوغ ومَخايل الذكاء على تلميذه البحتريِّ؛ حيث تيقَّن من موهبته الشعريَّة الفذَّة، فقرَّر أن يُوجِّهه الوجهةَ التي يراها مُناسبةً لِمَوهبته، وليس الوجهة التي تتَعارض معها وتتنافَى.

وقد تناولت الوصية قضية أوقات الإبداع:وأهمية عنصري التهيُّؤ النفسي، و التهيُّؤ الفكري، ثم تحدثت عن ضوابط الأغراض الشعريَّة، ثم تحدث أبوتمام عن معوقات الإبداع ومحفزاته.

إن هذه الوصية تدل على حِرْص القدماء على رعاية المواهب الفذَّة، وتزويدها بالتوجيهات التي تساعدها على شَحْذ طبعها، وصَقْل مواهبها الغضَّة الطرية، حتَّى تستحيل قادرةً على القول على بيِّنة من أمرها، و امتلاك الشُّعراء ثقافةً نقديَّة موازية، تساعدهم على تجويد إبداعهم، و إبراز الوجه الثاني من شخصيَّة أبي تمام التي اجتمعَتْ فيها البَراعة الشعريَّة، والحنكة النقديَّة، ولا شكَّ في أن اختياراته في الحماسة تدلُّ على ناقدٍ فريد من نوعه؛ ذلك أنَّ الاختيار ما هو إلاَّ وجه من أوجُهِ النقد.

ثانيًا:مرحلة النقد الأدبي المدون:

تبدأ هذه المرحلة منذ القرن الثاني الهجري، إذ نجد في كل قرن ناقد أو أكثر، ظهر بكتاب نقدي أو أكثر، من أبرزهم: عبد الحميد بن يحيى الكاتب(ت١٣٢ھ) في رسالته إلى الكتاب، وبشر بن المعتمر (ت٢١٠ھ)في صحيفته، و الأصمعي (ت٢١٦ھ) في كتابه (فحولة الشعراء)، و ابن سلام الجحمي (ت٢٣١ھ) في كتابه(طبقات فحول الشعراء)، و الجاحظ(ت٢٥٥ھ) في كتبه: (البيان والتبيين، والحيوان، ومجموعة الرسائل)، و ابن قتيبة(ت٢٧٦ھ)في كتابه (الشعر والشعراء)، وعبدالله بن المعتز (ت٢٩٦ھ)في كتابه (البديع) وكتابه (طبقات الشعراء)، و ابن طباطبا العلوي (ت٣٢٢ھ)في كتابه (عيار الشعر)، و قدامة بن جعفر (ت٣٣٧ھ)في كتابه (نقد الشعر)، و أبوهلال العسكري(ت365هـ) في كتابه(الصناعتين)، و الآمدي (ت٣٧١ھ)في كتابه (الموازنة بين الطائيين:أبوتمام والبحتري)، و القاضي الجرجاني (ت٣٩٢ھ)في كتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، و أبوعلي المرزوقي(ت421هـ) في شرحه ديوان الحماسة لأبي تمام، و المرزباني (ت٤٢8) في كتابه (الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء)، و ابن رشيق القيرواني(ت٤٦٥ھ)في كتابه(العمدة في نقد/محاسن الشعر وآدابه)، وكتابه (قراضة الذهب في نقد أشعار العرب)، و والأديب أبي طاهر ابن حيدر البغدادي(ت (517هـ)،  في كتابه (قانون البلاغة في نقد النثر والشعر) و وأبي محمد زكي الدين عبد العظيم بن عبد الواحد المصري المعروف بابن أبي الأصبع (ت654هـ)  في كتابه(تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن) ، و وأبو سعيد الحسن بن عبد الله المرزباني الملقب بـ "السيرافي"(ت368هـ)   في كتابه(ما يحتمل الشعر من الضرورة)، وأبو عبد الله محمد بن جعفر القزاز القيرواني (ت412هـ) (ما يجوز للشاعر من الضرورة)، و ابن سنان الخفاجي(ت466هـ) في كتابه(سر الفصاحة(، و الإمام عبد القاهر الجرجاني(ت٤٧٠ھ)في كتابيه:(دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة (، و حازم القرطاجني (ت٦٨٤) في كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء)،  الذي يعد درة فريدة، ومسك الختام في النقد الأدبي عند العرب!
وتوالت بعد ذلك الشروح والحواشي والتجميعات الأدبية والنقدية في عصري المماليك والعثمانيين، ويتميز فيها عبدالقادر البغدادي(1093هـ) في موسوعته اللغويةو الأدبية الفائقة(خزانة الأدب ولب لباب العرب)، والتي تحتاج إلى جهد بحثي مخلص لتبيُّن ما فيها من قضايا وأدوات واتجاهات نقدية، وموازنتها بما قبلها وبعدها من جهد علمي في النقد الأدبي عند أسلافنا.

ولا شك في أنه ما أجمل أن تقرأ في التراث لا عنه! فرق كبير بين القراءة فيه والقراءة عنه. نظام التعليم الجامعي، في ظل العهد البائد، حال بيننا وبين السياحة في إبداع أسلافنا، في كل العلوم والفنون تقريبًا! القراءة في التراث تجعلك تقف بنفسك على إبداع القدامى: تفهمه، وتحاوره، وتجادله، تقبس منه، وتضيف إليه، وتعلق عليه، تتمتع وتُمتع! أما القراءة عن ذالك التراث فتظل قاصرة عن إيصالنا إلى تلك الحالة العقلية العجيبة اللذيذة، مهما كانت مكانة الكاتب عن التراث أو المتحدث عنه!  

 هذا ما سيخلص إليه الطالب بعد مطالعته مدونات النقد الأدبي العربي الأولى؛ إذ توجد فيه أصالة في التذوق والبحث والدرس وفي الاصطلاح والرؤية والاستنباط.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المدونة النقدية الأولى:رسالة عبد الحميد الكاتب إلى الكُتَّاب([5]):

  التعريف بالناقد:

هو (أبو غالب) عبد الحميد بن يحيى بن سعد، مولى بني عامر بن لؤي،(132 هـ=750 م)، المعروف بالكاتب، أديب، كاتب، بليغ، من أئمة الكتاب، عالم بالأدب. يضرب به المثل في البلاغة، وعنه أخذ المترسلون.. أصله من قيسارة، ونشأ بالأنبار، وسكن الشام، وسهل سبيل البلاغة، وسكن الرقة، وكان في أول أمره يتنقل في البلدان معلمًا في الكتاتيب، ثم التحق بديوان الرسائل في دمشق لعهد هشام بن عبد الملك، حيث خرجه ختنه سالم مولى مولى هشام، ورئيس هذا الديوان. واتصل بمروان بن محمد، وكتب له أيام كان واليًا، فلما صارت إليه الخلافة أقامه على ديوانه، فنهض بالعمل فيه خير نهوض. ولما دارت الدوائر على مروان، وانتصرت عليه الجيوش العباسية بقيادة أبي مسلم الخراساني في موقعه الزاب ظل مخلصا له وفيا، ففر معه إلى مصر حيث قتلا في موقعه بوصير... من آثاره: رسائل في ألف ورقة، ونصيحة الكتاب وما يلزم أن يكونوا عليه من الأخلاق والآداب([6]).

وعبد الحميد أبلغ كتاب الدواوين في العصر الأموي وأشهرهم، وقد ضربت ببلاغته الأمثال، فقيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد([7])، ويقول ابن النديم: "عنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل([8])"، ويزعم المسعودي أنه أول من استخدم التحميدات في فصول الكتب([9])، والحق أنه القمة التي وصلت إليها الكتابة الفنية في العصر الأموي، إذ كان زعيم البلغاء في عصره غير مدافع، وقد بقيت منثورات من رسائله تشهد بفصاحته ولسنه، ومقدرته على التعبير والبيان مع الفخامة والطلاوة.

مضمون رسالته إلى الكتاب

 ضمنها وصايا مختلفة لهم، وهي تدل على نمو طبقتهم وأنهم أصبحوا يؤلفون جماعة بارزة في حياة الدولة، ووظائفها وأعمالها المتنوعة. ونراه يستهلها بأن صناعتهم أشرف الصناعات، إذ بهم ينتظم الملك وبتدبيرهم وسياستهم يستقيم الحكم، وينصحهم أن يتحلوا بخلال الخير وخصال الفضل، ويخوض فيما ينبغي أن يتقنوه من صنوف المعرفة والثقافة. وفي ذلك الدلالة البينة على أن الكاتب في عصر عبد الحميد، كان لا يستطيع أن يحسن وظيفة الكتابة إلا إذا ألم بالثقافة الإسلامية، وثقافة العرب الأدبية من خطابة وغير خطابة، ومن أيام وغير أيام، وأخبار الأمم الأجنبية ومعارفها، ولا بد أن يعرف الحساب، وأن يروي الأشعار ويقف على غريبها ومعانيها، فيفيد منها كما أفاد عبد الحميد نفسه في رسالة الصيد إذ نثر فيها كثيرًا من معاني الشعر القديم، فالكتابة لم تعد عملا سهلا بسيطا، بل أصبحت عملا معقدا، لا بد فيه من إعداد ومن تثقف تام بالقرآن الكريم، وأوامر الشريعة وبالأدب العربي وكنوزه النثرية والشعرية والآداب الأجنبية، وليس هذا كل ما يلفتنا في الرسالة؛ فقد تحدث عبد الحميد طويلًا عما ينبغي أن يأخذ به الكاتب نفسه في سياسة الناس وتدبير شئونهم، كما تحدث عما يمكن أن نسميه آداب اللياقة بالقياس إلى الخلفاء، والرسالة في مجموعها تتصل مباشرة بما أثر من وصايا ملوك الفرس لكتابهم، مما رواه الجهشياري في مقدمة كتابه الوزراء والكتاب، ولذلك كنا نظن ظنا أن عبد الحميد يتأثر فيها بتلك الوصايا، ولعل هذا هو الذي جعل صاحب الصناعتين يزعم أنه "استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي، فحولها إلى اللسان العربي"، ونص الجاحظ في بيانه على أنه ترجم بعض كتب من الفارسية، ولا بد أن تكون هذه الكتب متصلة بعمله من الكتابة الأدبية. والرسالة بذلك دستور واسع للكتاب يصور واجباتهم الخلقية والثقافية، وعلى هديها كتبت فيما بعد كتب أدب الكاتب، والكتاب لابن قتيبة والصولي وغيرهما. وتعد أول مصدر نقديّ مدون([10]). ودليل ذلك ما يلي:

الرؤى النقدية في الرسالة:

بقراءة هذه الرسالة نجدها تتضمن الأفكار النظرية النقدية الآتية:

*مكانة فن الكتابة والكُتَّاب

"أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم فإن الله -عز وجل- جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ومن بعد الملوك المكرمين أصنافًا وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة، بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم.
لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب".
*أدوات الكاتب:

ثم عدَّد عبدالحميد الكاتب أهم الصفات الخلُقية الواجب توافرها في شخصية الكاتب، فقال: "إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج في نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليمًا في موضع الحلم، فهيمًا في موضع الحكم، مقدامًا في موضع الإقدام، محجمًا في موضع الإحجام، مؤثرًا للعفاف والعدل والإنصاف، كتومًا للأسرار، وفيًّا عند الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها والطوارق في أماكنها، قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به، يعرف بغريز

المصدر: محاضرة في مقرر النقد الأدبي ومذاهبه في العصر العباسي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 315 مشاهدة
نشرت فى 26 سبتمبر 2018 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

299,261