<!-- <!--

<!--

<!--<!--

 

الوحدة الموضوعية في سورة الضحى:

امتن الله ـــــ عز وجل ـــــ عليَّ بمعايشة سورة الضحى خلال شهر ربيع الأول:شهر ميلاد الرسول الخاتم ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ تلك السورة التي قال عنها الشيخ سيد قطب رحمه الله:" هذه السورة بموضوعها، وتعبيرها، ومشاهدها، وظلالها وإيقاعها، لمسة من حنان. ونسمة من رحمة. وطائف من ود. ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالروح والرضى والأمل. وتسكب البرد والطمأنينة واليقين. إنها كلها خالصة للنبي- صلى الله عليه وسلم- كلها نجاء له من ربه، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين.كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعب، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع". فأقبلت عليها احتفالاً برسولنا وائتساءً بقدوتنا وقربًا من دستورنا؛ فكانت لي معايشة تدبرية فيها، مع قراءات عديدة عنها في عدة تفاسير، رُزِقت من خلالها خواطر ذاتية إيجابية، تمثلت في الإجابة عن الأسئلة الآتية:

* لماذا سميت السورة بهذا الاسم؟

* ما صلتها بما قبلها وما بعدها؟

* ما الأفكار الأساسية للسورة؟ وما الرابط بينها؟

بهذه الأسئلة أكون أدخلت نفسي في منطقة شائكة؛ إذ مطلوب مني أن أطبق مفهوم الوحدة الموضوعية على هذا النص القرآني. فهل أستطيع؟

أقول مستعينا بالله عز وجل:

سورة الضحى مكية، نزلت بعد سورة الفجر، وترتيبها المصحفي الثالثة والتسعون، بين سورتي الليل والشرح. وظاهر لكل عاقل العلاقة الزمنية بين وقتي الفجر والضحى، والعلاقة الفكرية بين السور الثلاثة: الليل والضحى والشرح. كأني ـــ والله أعلم ـــ بربنا عز وجل، يشير بالليل إلى حال الكون قبل النبي الخاتم ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ ويشير بالضحى إلى حال الكون عند مجيئه، ويشير بالشرح إلى حال المؤمنين برسالته: من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وجعل اليسر بعد العسر.

وبعد هذه المحاولة الذاتية للربط بين السور الثلاثة أنتقل إلى الإمام برهان الدين البقاعي (المتوفى: 885هـ) الرائد في هذا المجال الفكري [الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم] بكتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، فنجده يقول ـــــ رابطًا بين سورتي الليل والضحى ـــــ: ومن أبدع الأشياء تعقيبها [أي الليل] بالضحى التي هي في النبي ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ وفيها {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى : 5] إشارة إلى أنه[أي سيدنا أبوبكر] أقرب أمته إلى مقامه؛ لأنه مما وعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرضيه وأنه لا يرضيه غيره... ولما حكم في آخر الليل بإسعاد الأتقياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق مطلقاً، وكان قد قطع عنه الوحي حيناً ابتلاء لمن شاء من عباده، وكان به صلى الله عليه وسلم صلاح الدين والدنيا والآخرة، وكان الملوان سبب صلاح معاش الخلق وكثير من معادهم، أقسم ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ بهما على أنه أسعد الخلائق دنيا وأخرى". ونقل الإمام البقاعي عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير: لما قال تعالى : {فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس : 8] ثم أتبعه بقوله في الليل : {فسنيسره} [الليل : 7 - 13] وبقوله : {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى} [الليل : 7 - 13]، فلزم الخوف واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان للتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم، أنس تعالى أحب عباده إليه وأعظمهم منزلة لديه، وذكر له ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له؛ فقال تعالى : {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى}.

وقال الإمام البقاعي رابطًا بين سورتي الضحى والشرح: ولما أمره ـــــــ صلى الله عليه وسلم ـــــــ آخر الضحى بالتحديث بنعمته التي أنعمها عليه فصلها في هذه السورة فقال مثبتاً لها في استفهام إنكاري مبالغة في إثباتها عند من ينكرها والتقرير بها مقدماً المنة بالشرح في صورته قبل الإعلام بالمغفرة، كما فعل ذلك في سورة الفتح الذي هو نتيجة الشرح، لتكون البشارة بالإكرام أولاً لافتاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً للشرح". وهكذا نرى أن سورة الشرح نزلت بعد سورة الضحى . وكأنها تكملة لها، فيها ظل العطف الندي، وفيها روح المناجاة الحبيب وفيها استحضار مظاهر العناية، واستعراض مواقع الرعاية، وفيها البشرى باليسر والفرح، وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق ..

والغاية أن السورة رسالة إلى كل مسلمة ومسلمة مفادها: إذا أردنا التخلص من الليل: ليل الكفر والشرك والفسق والضلال، والانتقال إلى الشرح: حال الطمأنينة والسكينة والراحة النفسية والجسدية، والسلم الحياتي والاجتماعي، فعلينا بالضحى: رسول الله الخاتم: سيرته العطرة، وسنته الشريفة تعلمًا وتعليمًا، وتطبيقًا في واقعنا ومجتمعنا، بذلك فقط يكون شرح صدورنا، وانشراح أحوالنا، ويسر أمورنا بإذن الله تعالى.

 *بلاغة عنوان السورة الكريمة:

تتضح العلاقة بين عنوان السورة الكريمة ومضمونها من خلال الوقوف على مفهوم الضحى لغويًّا؛ من دلالات لفظة الضحى في المعجم العربي: ضوء الشمس، وارتفاع النهار وامتداده، ووقت هذا الارتفاع والامتداد البارز المنكشف. جاء في المعاجم: (الضُّحَى) ضوء الشَّمْس وارتفاع النَّهَار وامتداده وَوقت هَذَا الِارْتفَاع أَو الامتداد وَيُقَال مَا لكَلَامه ضحى: مَا لَهُ بَيَان. وأوجز ابن فارس ذلك بقوله في معجم مقاييس اللغة: الضاد والحاء والحرف المعتل أصلٌ صحيحٌ واحدٌ يدلُّ على بُروز الشيء".

وسورة الضحى تدور حول السيرة الحياتية والدعوية لرسول الله الخاتم ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ الذي مقامه شريف طاهر بيِّن، منير مرتفع الإنارة، ممتد الضياء، منتشر بيانه وهديه في كل مجالات الحياة وأرجاء الكون إلى أن تقوم الساعة؛ فالرسول ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ هو الضحى لهذا الكون. قال الله ـــــــ عز وجل ـــــــ في سورة المائدة:" قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)". وقال ـــــ عَزَّ وَجَلَّ ـــــ فِي سُورَةِ الشُّورَى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

إن الضحى وقت الإنارة الكامل؛ فهو مناسب لمحمد صلى الله عليه وسلم السراج المنير، ومرتبط بتلك النعم الغزيرة التي خص بها من الله تعالى: المعية الإلهية، والعطاء الإلهي، والإرضاء الإلهي، والإيواء الإلهي، والهداية الإلهية، والإغناء الإلهي. وهذا يستدعي منه صلى الله عليه وسلم، ومن كل مؤمن به مقتد به الوقوف بجانب الضعيف: اليتيم والسائل، والحمد لله تعالى بالتحدث عن نعمه السالف ذكرها، والآتي ذكرها في سورة الشرح: من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر...

 

وقال الإمام البقاعي في دلالة اسم السورة الكريمة:" قال[الله] مقدمًا ما يناسب حال الأتقى ــــ الذي قصد به أبو بكر رضي الله عنه قصداً أولياً ــــ من النور الذي يملأ الأقطار، ويمحو كل ظلام يرد عليه ويصل إليه، مفهماً بما ذكر من وقت الضياء الناصع حالة أول النهار وآخر الليل التي هي ظلمة ملتف بساقها ساق النهار عند الإسفار : {والضحى...} فذكر ماهو أشرف النهار وألطفه وهو زهرته، وأضوأه وهو صدره، وذلك وقت ارتفاع الشمس لأن المقسم لأجله أشرف الخلائق، وذلك يدل على أنه يبلغ من الشرف ما لا يبلغه أحد من الخلق" ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ .

وقال الدكتور فاضل السامرائي: "والضحى هنا يمثل نور الوحي وإشراقه كما قال المفسرون، والليل يمثل انقطاع الوحي وسكونه. والدنيا من غير نور الوحي ظلام؛ ولذلك قدم سبحانه الضحى هنا لأنه ما سبق من نور الوحي، وأخر الليل لما يمثل من انقطاع الوحي. وقال بعض المفسرين أن القسم يشير إلى أن الانقطاع يمثل الاستجمام والسكون كما يرتاح الشخص المتعب في الليل، ومن معاني سجى السكون وهو يمثل الراحة وهو نعمة؛ فالقسم هنا جاء لما تستدعيه الحالة التي هو فيها".

* البناء الفكري للسورة الكريمة:

قال الله تعالى: "وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)".

هذه إحدى عشرة آية كريمة يمكن لنا أن نقسمها إلى أقسام فكرية ثلاثة، هي:

* القسم الإلهي وجوابه في الآيات الخمسة الأولى. التي ختمت بالوعد الإلهي المؤكد لرسوله بأنه سيعطيه ويرضيه. وتمثل هذا الوعد في الفكرة الثانية بالسورة الكريمة، وهي:

* العطاء الإلهي للرسول الخاتم في الآيات الثلاثة التالية.  وهي ثلاثة: عطاء اجتماعي: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى"، وعطاء دعوي:" وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى"، وعطاء اقتصادي:" وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى".

وهذا الترتيب للعطاءات الإلهية يعد التسلسل الطبيعي في الحياة؛.لذا فقد بدأ سبحانه بالحالة الأولى [اليتم] ثم إذا بلغ تأتي [الهداية] في المرتبة الثانية ، وثالثاً العائل والغني يجب أن يسيرا على الهداية.

ولما عدَّد الله هذه النعم الثلاثة على الرسول وصاه بثلاث وصايا تقابلها وتوازيها؛ ليحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليه؛ فكل نعمة من الله تستوجب شكر الله بعبادته وطاعته، وكل شكر يؤدي إلى المزيد:"لئن شكرتم لأزيدنكم". 

* شكران العطاء الإلهي، وذلك في الآيات الثلاثة الأخيرة، حيث كفالة اليتيم والإحسان إليه، والرفق بالسائل واللين معه، والإعلان عن نعم الله، بالدعوة إليه وتبليغ الرسالة وتعليم الأمة. وصدق رسولنا حين قال: عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من صُنِع إليه معروفٌ فليُجزِه، فإن لم يجد ما يُجزيه فليُثْنِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أثْنَى فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَه فَقَدْ كفَرَهُ وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَم يُعْطَ فكأنَّما لَبِس ثوبَيْ زُور).[صحيح - «تخريج الترغيب» (2/ 55) ، «الصحيحة» (617) : [ت: 25 - ك البر والصلة 87 - ب ما جاء في المتشبع بما لم يعطه] .

وأخلص من هذه الرؤية إلى جملة أفكار عبادية عملية توجهنا إليها سورة الضحى، هي:

*كن مع رسول الله ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ يكن الله معك ويحبك.

*الدنيا سبيل إلى الآخرة وليست غاية أو هدفًا.

*الله حريص على إرضاء رسوله الخاتم، فهلا أرضيته في نفسك وأهلك ومالك وأمتك!

*كلنا مرَّ بهذه المراحل خلال حياته كلها: كونك فردًا فأنعم الله عليك بالمجتمع، وكونك حائرًا فأنعم عليك بالهداية، وكونك فقيرًا عائلاً فأنعم عليك بالغنى عن الناس.

*اكفل اليتيم وأحسن إليه، وأعط المسكين أو رُدَّه برفق ولين، وأعلن عن نعم الله بشكره وعبادته والدعوة إلى صراطه المستقيم.

*الحفاظ على النعم يكون بشكر المنعم ـــ عز وجل ـــ والتقرب إليه بمزيد من الطاعات والقربات...وللحديث بقية.

 

<!--<!--[if gte mso 10]> <mce:style><! /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} -->

 

<!--[endif] --> <!--[endif] -->
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1045 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

297,189