authentication required

بورتريه الشيخ كشك في رثائيتي الشاعر وحيد الدهشان

وسط هذا العالم الكريه، الكاره لكل ما هو إسلامي والنافر منه، يأتي الشعر فيجاهد في سبيل الإعلام بقامات الأمة، والإعلان عن أعلامها، سواء على سبيل المدح في حياتهم أو الرثاء بعد موتهم! لاسيما الذين لم تتسلط عليهم الأضواء المأجورة، أو المسيسة أو الهالعة الرعديدة!  

لعل هذه التقدمة تكون مدخلاً صحيحًا إلى قراءة صورة الشيخ عبدالحميد كشك في مرآة الشعر الإسلامي المعاصر.

إن قراء ذلكم الشعر تستدعي جملة أسئلة، هي:

من الشيخ كشك؟ ما مكانته؟ ما أثره؟ كيف عاش؟ بم تميز؟ كيف مات؟ ماذا خلَّف؟ ما الذي يدفع مهندسًا للانفعال بموت شيخ أزهري كفيف، فينظم فيه قصيدتي رثاء؟! ...

أسئلة تفرض نفسه في مطلع هذه القراءة النقدية، أسئلة عن المرثي: حياته، عصره، جهاده، أثره، معالم تميزه، الباعث على الإبداع في تصوير شخصيته!

أبدع المهندس الشاعر قصيدتين: الأولى هائية بكائية بعنوان (من للمنابر بعده) مكونة من سبعة وعشرين بيتًا، عقب رحيل الشيخ سنة 1996م والثانية عينية وفائية، بعنوان (أسد المنابر) بعد أربع وعشرين سنة من رحيله!

ولكي نجيب عن هذه التسآلات نعيش مع التجربتين عيشة وصفية تحليلية عبر عتباتها البارزة، على النحو الآتي:

عتبات البكائية الدهشانية الأولى:

هذه القصيدة نظمها المهندس وحيد حامد الدهشان، عقب رحيل الشيخ عبدالحميد كشك، في 7 ديسمبر 1996 م، وهي منشورة في ديوان " سنا العلماء لا يفنى " الذي صدر عام 2009م.

<!--عتبة العنوان:

جاءت القصيدة الأولى للمهندس الدهشان بكائية بعنوان (من للمنابر بعده: دمعة على فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك عليه رحمة الله)، وقد جمع العنوان بين جملتين: الأولى إنشائية،( من للمنابر بعده؟) أداتها الاستفهام التعجبي الاندهاشي المعلن عن مكانة المرثي الخطابية، وإجادته فن الدعوة من خلال الكلمة المنبرية؛ فالشيخ كشك في نظر الدهشان وكل عشاقه المستمعين إياه، فارس بارز في منابر الدعوة والثقافة والحق. ثم تأتي الجملة الثانية (دمعة على فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك عليه رحمة الله) خبرية تقريرية مباشرة، مكثفة للقصيدة بأنها دمعة، أي بكائية على الراحل!   

ونلحظ أن العنوان هنا مباشر، دال دلالة سريعة على المقصود من النص كله، وتلك الخصيصة من سيما الشعر الإسلامي عامة، وشعر الرثاء بخاصة.

<!--عتبة الشكل الفني

 جاءت التجربة شاعرنا في شكل فني خاص، طريف، فهي –أولاً- قصيدة وسطى مكثفة، مكونة من سبعة وعشرين بيتًا، فليست ومضة مخلة، ولا مطولة محشوة، وهي -ثانيًا- على نسق البحر الكامل التام، الذي عروضه صحيحة(متفاعلن///O// O)، وضربه مذيل(متفاعللانْ///O//O O)، وهذا أمر جديد لم يرد في الشعر العربي التراثي، فتذييل الضرب خاص بالكامل المجزوء فقط، كما قرر العروضيون القدامى، ولعل حدث رحيل الشيخ أثر في شاعرنا فدفعه إلى توسيع حجم الكامل التام ليتسع إلى عرض كل مراداته عن الشيخ ندبًا، وتأبينًا، وتفجعًا!  

وقد جاء المطلع مصرعًا على عادة الشعراء الكلاسيكيين، فقال:

من للمنابر بعده ؟! واحسرتاه            فرت دموع الحزن من عين الحياةْ

فقد غيرت العروض في وزنها وقافيتها حتى تشبه الضرب، وتحدث إيقاعًا صوتيًّا آسرًا لذيذًا؛ فتجذب المتلقي.

وجاء بناء القافية مناسبًا للحالة النفسية داخل الشاعر والحالة العاطفية المهيمنة على النص، فجاءت مكونة من الألف ردفًا والهاء الساكنة بعدها وصلاً، وقد نعد هذه الهاء الساكنة رويًّا والألف قبلها ردفًا، وعلى الرغم من أن القافية هنا مقيدة، إلا أن هذا التقييد لا نحس به، بل على العكس جاءت الألف هنا لتعطي مدة صوتية طويلة أمام المتلقي،  فلاريب أن القارئ هذه البكائية والمنشد إياها يجد أمامه فرصة لإخراج شهقة حزن وزفرة بكاء في نهاية كل بيت شعري، عن طريق الألف المنتهية بهاء ساكنة، كأنها الآهة الدالة على الحزن!

 أما عن المعجم الشعري في هذه البكائية فهو معجم واضح صريح مباشر، ليس فيه لفظة غريبة أو حوشية أو وحشية، كأني بالدهشان أراد أن يجعل لغة البكائية كلغة الشيخ كشك التي وصفها بقوله:

ما جئت يوما بالكلام محنطا         لا روح فيه يمجه سمع الأباةْ
وتشيع في النص أساليب عدة منها:

 الاستفهام كما في قوله: (من للمنابر بعده)، وقوله:

كم سقت من حجج كشمس في الضحى      وعلى المعاند أن يلوم هنا عماهْ
وكشفت سرا عن كنوز بلاغة          قصرت عقول للأكابر عن مداهْ
وأزحت سترا عن معان طالما        حجبت عن الدنيا بفهم واكتناهْ
وصفعت أجناد الضلال بشدة            ليس المضلل كالذي ضلت رؤاهْ
وأسلوب النفي في قوله:(ما ماتت الآمال يوما في لقاه)، و(ما جئت ... لا روح فيه...)، و(ليس المضلل كالذي ضلت رؤاه)...

وأسلوب الاستدراك، في قوله:

لكنما قلب المحب بنفحة              من نوره قد سار ملتمسا خطاهْ
يصبو ولكن كيف أبلغ غايتي         وفريدتي تبدو بعالمه حصاةْ
وتجد التصوير الكلي لطريقة الشيخ الدعوية، وهو التصوير الممتاح من الطبيعة والممزوج فيها،  في قوله:

من روضة القرآن كان إمامنا              للغارقين يمد أطواق النجاةْ
ويطوف في بستان سيرة سيدي      حيث الجداول والظلال المشتهاةْ
حيث الثمار الدانيات قطوفها       والزهر في الجنبات فواح شذاهْ
فيجيء بالترياق دون مرارة          كالشهد حلوا يرتجى ممن جناهْ
والشيخ كشك حي أمام شاعرنا يناديه ويخاطبه في قوله:

يا أيها الشيخ الجليل جهادكم       سيظل مصباحا على درب الدعاةْ
ما جئت يوما بالكلام محنطا         لا روح فيه يمجه سمع الأباةْ
أنت الذي ملك القلوب حديثه          وتألقت أرواح من تبعوا سناهْ
ويقول:

جادلتَ من ضلوا الطريق بحكمة        واللين قد يجدي إذا ما العقل تاهْ
كم سقتَ من حجج كشمس في الضحى      وعلى المعاند أن يلوم هنا عماهْ
وكشفتَ سرا عن كنوز بلاغة          قصرت عقول للأكابر عن مداهْ
وأزحتَ سترا عن معان طالما        حجبت عن الدنيا بفهم واكتناهْ
وصفعتَ أجناد الضلال بشدة            ليس المضلل كالذي ضلت رؤاهْ
وشاعرنا حاد في التعبير عن خصوم الشيخ، كأني به تحول ملاكمًا بالشعر كما كان الشيخ ملاكمًا بالكلمة!

وأسلوب الدعاء بتقنيتي النداء والأمر الالتماسي، في ختام النص:

يا رب بلغ شيخنا آماله          وامنحه في الفردوس ما كان ابتغاهْ
واجعله يا ربي بقرب المصطفى          هي منية كانت له أحلى مناهْ
    
3- عتبة البناء الفكري:

وجاء النص في ستة أقسام، يمثل القسم الأول مطلع القصيدة، وتمثل الأقسام الأربعة التالية له صلب القصيدة، ويأتي القسم السادس ختامًا، على النحو الآتي:

القسم الأول يمثل المطلع أو مقدمة البكائية،  وجاء في ستة أبيات، يمكن أن نجعلها تحت عنوان: أثر رحيل الشيخ في أتباعه، يقول الدهشان:

من للمنابر بعده ؟! واحسرتاه      فرت دموع الحزن من عين الحياةْ
طال انتظار العارفين لفضله         ما ماتت الآمال يوما في لقاهْ
حتى أتى صوت النعي كطعنة        أدمت فؤادا بات يرسف في أساهْ
فترددت من أجله رحماتنا             وتوجهت لعناتنا صوب الجناةْ
من أسكتوه وكان يحدو صحوة        ويؤجج العزمات خفاقا لواهْ
ثم انتقل شاعرنا إلى القسم الثاني عن طريق الحديث عن المرثي بالفعل الماضي(كان) وعن طريق(ضمير الغائب)، وقد جاء في أربعة أبيات، يمكن أن نجعلها تحت عنوان(طريقة الشيخ الدعوية)، حيث  يقول الدهشان:

من روضة القرآن كان إمامنا              للغارقين يمد أطواق النجاةْ
ويطوف في بستان سيرة سيدي      حيث الجداول والظلال المشتهاةْ
حيث الثمار الدانيات قطوفها       والزهر في الجنبات فواح شذاهْ
فيجيء بالترياق دون مرارة          كالشهد حلوا يرتجى ممن جناهْ
ثم انتقل الشاعر إلى القسم الثالث من حالة الحديث الماضوي عن الشيخ كشك، إلى الحديث الحي عنه، عن طريق أسلوب النداء، وعن طريق الحديث معه بضمير الخطاب، وقد جاء ستة أبيات، يمكن أن نجعلها تحت عنوان(لسان الشيخ وعلمه)، حيث  يقول الدهشان:

يا أيها الشيخ الجليل جهادكم       سيظل مصباحا على درب الدعاةْ
ما جئت يوما بالكلام محنطا         لا روح فيه يمجه سمع الأباةْ
أنت الذي ملك القلوب حديثه          وتألقت أرواح من تبعوا سناهْ
علم غزير قد حوته بصيرة           إخلاص قلب عبرت عنه الشفاهْ
طوفان صدق لا يبالي لومة             في الله دوى في روابينا صداهْ
أمواجه كالنار تلفح من بغى      وهديره سوط على ظهر الطغاةْ
ويتابع الشاعر في القسم الرابع محاورة الشيخ الراحل بضمير الخطاب، وقد جاء في خمسة أبيات، يمكن أن نجعلها تحت عنوان(جدال الشيخ وبلاغته)، حيث  يقول الدهشان:

جادلت من ضلوا الطريق بحكمة        واللين قد يجدي إذا ما العقل تاهْ
كم سقت من حجج كشمس في الضحى      وعلى المعاند أن يلوم هنا عماهْ
وكشفت سرا عن كنوز بلاغة          قصرت عقول للأكابر عن مداهْ
وأزحت سترا عن معان طالما        حجبت عن الدنيا بفهم واكتناهْ
وصفعت أجناد الضلال بشدة            ليس المضلل كالذي ضلت رؤاهْ
ويوظف الشاعر ضمير المتكلم في الانتقال إلى القسم الخامس، الذي جاء ثلاثة أبيات، يمكن أن نجعلها تحت عنوان(عاطفة  الشاعر تجاه الشيخ)، حيث  يقول الدهشان:

شعري بساح الشيخ يبدو قاصرًا       والعجز مني كاد يبلغ منتهاهْ
لكنما قلب المحب بنفحة              من نوره قد سار ملتمسا خطاهْ
يصبو ولكن كيف أبلغ غايتي         وفريدتي تبدو بعالمه حصاةْ
وما زال الشاعر ملتزمًا ضمير المتكلم في القسم الختامي السادس، الذي جاء أربعة أبيات، يمكن أن نجعلها تحت عنوان(دعاء للشيخ)، حيث  يقول الدهشان:

أدعو بكل وسيلة وضراعة           لِينالَكُم يا شيخَنا عفوَ الإلهْ
جهدي الدعاء فطالما علَّمْتَنا           أن الكريمَ يُجيبُ دومًا مَنْ دعاهْ
يا رب بلِّغْ شيخَنا آمالَه          وامنحه في الفردوس ما كان ابتغاهْ
واجعله يا ربي بقرب المصطفى          هي منية كانت له أحلى مناهْ
وهكذا يوظف شاعرنا وحيد الضمائر الثلاثة: غيبة وخطابًا وتكلمًا في الربط بين أقسام بكائيته، فيوفر لها وحدة لوية، إضافة إلى ما فيها من وحدة فكرية!

نعم حزنَّا في هذه البكائية على الشيخ كشك، لكننا لم نتعرف على أبرز خصائص الشيخ لا سيما خصائص  الظرف، والجراءة في نقد الحكام، والختام الحسن، حيث الموت ساجدًا!

ولعل هذا ما دفع الشاعر وحيدًا إلى إبداع قصيدته الثانية، لتكمل هذه الثلمة !

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 46 مشاهدة
نشرت فى 2 سبتمبر 2020 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

315,106