علم البناء الفني للنص الأدبي

أستاذي الدكتور محمد كاظم الظواهري- الأستاذ المتفرغ في قسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالمنوفية- من الأساتذة الأزهريين القلائل الذين جمعوا بحنكة واقتدار بين الثقافة العربية التراثية الأصيلة والمنتج الأجنبي الوافد، تمثل ذلك في رسالته للدكتوراه عن قضايا المسرح، ودراساته العلمية المحكمة في الأدب المقارن. وكل يوم يتحفنا بالجديد المفيد، ومن ذلك هذه التجربة التي عشتها طالبًا مستمعًا، وأستاذًا قارئًا، وسعدت بالتعليق عليها في الملتقى العلمي الأول لقسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالمنوفية يوم الأربعاء6/3/2019م.

إن هذا العلم -المقترح في هذا الكتيب- مشروع علمي كبير لأستاذنا الدكتور محمد كاظم الظواهري، يكاد يكون معه منذ خط أول سطر في حياته البحثية إلى الآن، يشير إليه في محاضراته إيانا أيام الطلب الجامعي الأولي، ويحدثنا عنه شفاهيًّا كثيرًا في رحلتنا بالدراسات العليا . وقد أخرج تصوره لهذا المشروع في بحث علمي بعنوان:" التحدي المنتظر أمام البلاغيين العرب: علم البناء الفني للنص الأدبي"، وكان في صورته الأولى  ورقة بحثية مقدمة إلى المؤتمر الدولي الأول لكلية اللغة العربية بالزقازيق: معالم التجديد في اللغة العربية وآدابها سنة 2009م، وقد طبعه أستاذنا في كتيب مكون من مائة وثلاث وعشرين صفحة من القطع الصغير، وجاء في تقدمة، وخمسة أقسام، هي: القسم الأول بعنوان: (إطلالة على الجذور)، والقسم الثاني بعنوان : (التصور الجمالي والبناء الفني)، والقسم الثالث بعنوان : (نماذج تحليلية للبناء الفني) والقسم الرابع بعنوان : (موازنات كاشفة)، والقسم الخامس بعنوان : (مقاصد علم البناء الفني)، وختام ثم قائمة بالمراجع.

أما التقدمة فجاءت في صفحتين تناول فيهما أستاذنا أصل هذه الفكرة وأنها كانت ورقة بحثية في هذا المؤتمر السابق ذكره، أدت إلى إخراج توصية أساسية من توصيات المؤتمر تمثلت في: حث البلاغيين العرب وسائر المهتمين بالعربية وعلومها وآدابها على مواصلة البحث فيما يتصل بموضوع هذه الدراسة؛ لما له من أثر في تنمية علوم العربية وآدابها ودفع المطاعن عنها". ثم بين أستاذنا أن هذه الفكرة مشروعه العلمي منذ أربعين سنة في البحث العلمي، مطالبًا بإضافة علم رابع إلى البلاغة العربية يكمل بناءها الشامخ الذي لا يطاوله مثله في أية لغة على ظهر الأرض، إنه علم يؤكد على أن البناء الفني المتكامل للقصيدة العربية حقيقة لا مرية فيها في مواجهة نظرية الأغراض ونظرية تداعي الأفكار والموضوعات لدى الشاعر العربي.

وجاء القسم الأول بعنوان: (إطلالة على الجذور) في ثلاثين صفحة[ص7-35] ليعرض فيه أستاذنا المتناقضات الواضحة بين المنظومة الإبداعية والمنظومة العلمية المصاحبة لها(التحليل-النقد-التقعيد-التأريخ)، ومأساة قصر الرؤية للنص على الجوانب اللغوية الجزئية البحتة دون الجوانب الجمالية وغاياتها الرفيعة، وأشار أستاذنا إلى خلو المكتبة العربية من دراسة تلبي حاجة الباحث الذي يعالج البناء الفني للنص الأدبي، سوى دراستين عرضتا لمواد البناء الفني دون البناء الفني أو خطته على الأقل، وهما: (البناء الفني للقصيدة العربية لأستاذنا محمد عبدالمنعم خفاجي، وبناء القصيدة العربية ليوسف حسين بكار).

وفي هذا القسم عرف أستاذنا البناء الفني للنص الأدبي بأنه "تلكم الخطة التي يضعها المنشئ بوعيه أو دون وعي منه أي يسفر عنها عمله، لإبداع الصورة الفنية المتكاملة التي يرتضيها لإبراز فكرته للوجود الخارجي موظفًا فيها كل عناصر البناء الجزئية أو اللبنات والتي تتمثل في: المعاني، الألفاظ، الأسلوب، الصور، الأخيلة، الرموز بأنواعها. وهذه الخطة أشبه بالحبكة في المسرحية".

ثم عرض أستاذنا إلى إشكالية عدم عناية علمائنا قديما بهذا العلم بسبب أن جمع اللغة وتدوينها وتقعيدها كان الهدف الأسمى لهم؛ فأدى بهم ذلك إلى الاقتصار على نصوص معينة، واجتزائها، وانصرافهم عن الروائع، وتشويه ما تم جمعه، وقطع النص عن سياقه؛ مما أدى إلى خطأ في الاستنتاج. هذا إضافة إلى كون كثير من دارسي العربية أعاجم وليسوا عربًا!

فالمنهجية تقتضي تحليل النص من خلال مزج عناصره مع أفكاره في بوتقة واحدة لتخرج لنا الصورة الكلية الجميلة التي أبدعها المنشئ وتعلل لنا اختياره لما اختار منها وترك ما ترك؛ فقلة من المحللين استطاعت أن تجسد الصورة البديعة التي قصد المنشئ إليها عندما أبدع ما أبدع أن يجعلها تمثل أمام أعيننا أو في مخيلتنا.؛ فالمنطق العلمي يفرض درس الصورة الكلية الحاصلة من مجموع هذه الجزئيات ودرس العلاقات بين هذه وتلك من وجهة تكوين الصورة وإبداعها، ومعالم هذا البناء وسماته وما يحسن فيه فيعليه وما لايحسن فيضر به ويحطه. ومن ثم درس السمات الفارقة بين جنس وجنس من الأجناس الأدبية. أي الانتقال من درس العناصر الجزئية إلى درس الصورة الكلية للبناء الفني للنص الأدبي.  

كما أخذ أستاذنا يعدد ما أسماه إشراقات البناء الفني أو جذوره في تراثنا، والتي تمثلت في: التحام أجزاء النص والتئامها عند المرزوقي شارح الحماسة، وتشبيه القدماء للقصيدة بالبناء وبالكائن الحي(كما في العمدة لابن رشيق). ومقولة الجاحظ في ثنائية الصائد والطريدة، ومقولة ابن قتيبة في المطالع الطللية والغزلية، ونظرية العلاقات أو النظم عند عبدالقاهر، ورد الأعجاز على الصدور، وحسن الابتداء والتخلص والختام، وتجربة برهان الدين البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، وحديث الشيخ حسين المرصفي عن معرفة الأديب الفنون الأدبية... وقرر أستاذنا أن هذه الإشراقات وغيرها لم ت}ت ثمارها المرجوة بسبب انحرافنا عن إدراك الوجه الأمثل للتعامل مع التراث الأدبي، وقد ترتب على هذا القصور في البلاغة والنقد لدينا أن كان عندنا قصور في دراسة الفنون الأدبية الحديثة.

ثم أشار أستاذنا إلى دور الغربيين في إخراجهم علم النص وإحساسهم بهذه المشكلة في دراسة النص دراسة جزئية.

و جاء القسم الثاني بعنوان : (التصور الجمالي والبناء الفني)[37-41]، ليقرر ضرورة التعامل مع الأدب من منظور جمالي في المقام الأول، والتعامل مع النص الأدبي باعتباره صورة كلية متكاملة الأجزاء وتعقبه بتحليل بنائه الفني وتعقب تراثه بالاستقراء والنقد واستنباط الأحكام، وهذا هو السبيل الموصل إلى استنباط النظرية المنشودة لعلم البناء الفني للنص الأدبي من حيث هو صورة مادية متكاملة للصورة الماثلة في نفس المنشئ ومخيلته.  ثم أصل أستاذنا للرمز أو المعادل الموضوعي في تراثنا من خلال مقولة للجاحظ في الحيوان يلاحظ فيها الفرق بين غرض الرثاء والوعظ الذي تكون الكلاب فيه قاتلة، وغرض المديح الذي تكون فيه الكلاب مقتولة! وقرر أستاذنا أن إدراك ما في القصيدة من إبداع ومن ربط بين عناصرها هو رهن بالتفسير الموفق لرموزها، ودعا إلى تتبع ما أسماه (مفاتيح تفسير العمل الأدبي).

 والقسم الثالث بعنوان : (نماذج تحليلية للبناء الفني) [43-80] حيث حلل معلقة لبيد، رضي الله عنه ، ثم بردة كعب بن زهير رضي الله عنه. محاولاً تطبيق الرؤية الكلية للنص على القصيدتين، معددًا الروابط والمفاتيح في النصين.

 والقسم الرابع بعنوان : (موازنات كاشفة) [81-106]، عرض فيه أستاذنا بالتعقيب على ما رآه الإمام عبدالقاهر الجرجاني في بعض ما أبيات شعرية ورجزية عند حديثه عن تقسيم الاستعارة إلى مفيدة وغير مفيدة، وأرجع خطأ الاستشهاد عند الإمام إلى النظرة الجزئية عنده، والاجتزاء للبيت المستشهد به من سياقه!

 والقسم الخامس بعنوان : (مقاصد علم البناء الفني) [107-115]،

وبين فيه أن البناء الفني لو طبق في تحليل النصوص وتفسير مضامينها لأحدث تحولا في النظرة إلى الأدب، وأننا نحتاج إلى تطبيقها في تفهم إعجاز النظم القرآني على وجه لم يتطرق إليه كثير من مفسري القرآن الكريم وعلماء إعجازه، وضرب مثالا لذلك بالترتيب البديع في سورة الواقعة، والحبكة القصصية في سورة يوس عليه السلام، ودعا أستاذنا إلى أن استنباط الأسس العامة للبناء الفني للنص الأدبي هو الخطوة الأكثر إلحاحًا في تأسيس هذا العلم الوليد. ولا تكاد تنفصل هذه الخطوة عن التعرف على الفروق الدقيق والجوهرية بين الأجناس الأدبية، والسمات الخاصة للبناء الفني لكل جنس، والتي يتحقق بها انتماؤه لهذا الجنس دون غيره، والتعرف على عناصر البناء الجيد لكل جنس أدبي التي يجب توافرها فيه والتي إذا قصر في شيء منها أخل ذلك به ووضع منه، ومن ثم تعرف العيوب التي يختص بها كل جنس من الأجناس الأدبية.      

ثم كان الختام[116-117] دعا إلى حاجتنا إلى العناية بالجانب الجمالي في الأدب، وإلى التحول إلى نهج تحليل البناء الفني للنص الأدبي بديلاً أو مضافًا إلى التحليل اللغوي التقليدي، وأهمية العودة إلى نظرية المعاني الثواني عند الإمام عبدالقاهر، كما دعا إلى أن هذا العلم: علم البناء الفني للنص الأدبي يحتاج إلى جهد مؤسسي من جماعة البلاغيين والمتخصصين في الأدب لإرساء هذا العلم.

 

ثم قائمة بالمراجع. [119-122]، وتمثلت في خمسة وثلاثين مرجعًا.

هذا، وقد أفدت شخصيا من هذا الكتاب جملة معارف جديدة يمكن إجمالها في الآتي:

<!--قيام حياة الباحث على مشروع علمي يتغياه في كل مراحل حياته، ويخطط لإنجازه، منذ أول سطر دونه إلى آخر نفس عقلي له.

<!--المفهوم الجديد والعميق لعلم البناء الفني للنص الأدبي؛ فمعظم دارسي الأدب يستخدمون هذا المصطلح استخدامًا إنشائيًّا أو عشوائيًّا، ويطبقون بعض عناصره  تطبيقًا مبعثرًا ومشتتًا!

انتقاد السلف بطريقة علمية هادئة مقنعة، يعطيهم ما لهم ويأخذ عليهم ما قصروا، مراعيًا أحوالهم وظروفهم وأولوياتهم، وتمثل ذلك في: -الانصراف عن الروائع، وعدم العناية بالجمال الفني الذي تتسم به. فكثير من الروائع قد فقد بإهمالهم روايته وتدوينه، ولا ذنب له في ذلك إلا أنه غير نافع لهم لأن لغته سهلة لا غريب فيها، أو قدر الغريب فيها من القلة بمكان، بحيث لم يلفت أنظار الرواة.

- تشويه ما تم جمعه وتدوينه من النصوص، فهناك مئات من الأعمال التي كانت تستحق التخليد لم نجد منها إلا بقية من أبياتها أو نجدها تناثرت في المصادر، أو نسبت لغير واحد من الشعراء، أو تداخلت مع أشعار لغير صاحبها، وأكبر دليل على ذلك عينية الصمة القشيري الرائعة.

- أن قطع النص من سياقه كان سببًا في الخطأ في الاستنتاج في بعض الأحيان .

<!--الاعتماد في قراءة النص الأدبي على النظرة الجزئية أو الاستقراء الناقص، أو التمثل بالبيت مقطوعًا من سياقه يؤدي إلى أحكام نقدية خاطئة.

<!--عروبة الناقد الأدبي أداة ضرورية من أدوات النقد الأدبي السديد، وأن عجمة الناقد تؤدي إلى أحكام نقدية خاطئة، والعروبة هنا تعني عروبة الفهم وليس اللسان، والعجمة تعني الجهل بلسان العرب، انطلاقًا من قول أبي عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: إنك أعجمي، ولا أعني لسانك ولكن فهمك، وفي رواية إنك جاهل بلغة العرب، وقول الشاعر القديم:

كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم   وبين قوم على إعرابهم طُبعوا

<!--الفهم الجديد لوحدة البيت في النقد العربي التراثي، وهو أنه يقصد بها أن  ما دون البيت لا يعد شعرًا.

<!--ضرورة مزج عناصر العمل الأدبي مع أفكاره في قراءاته وتحليله والحكم عليه.

<!--أول مرة أقرأ نقدًا علميًّا للإمام عبد القاهر الجرجاني.

ولكن يبقى التحدي الكبير الآن في تلك المنطقة المهمة التي تركها لنا أستاذنا، وهي: الأسس العملية أو الإجراءات المنطقية لتطبيق هذا العلم على النص الأدبي.

كما يلاحظ أن أستاذنا لم يرصد جهد كل الباحثين المحدثين في تناول هذه الفكرة، لا سيما الشيخ أمين الخولي في كتابه فن القول، الذي دعا إلى النظرة الكلية والشمولية للنص، ووصم البلاغة العربية بالقدم والنظرة الجزئية، وكذا الأستاذ أحمد الشايب في كتابه الأسلوب الذي جعله، مع علم الفنون الأدبية بديلا للبلاغة، والدكتور صلاح فضل في كتابه البلاغة وعلم النًص.

كما أن هناك اصطلاحات متداخلة مع مصطلح علم البناء الفني مثل: التجربة الأدبية، الوحدة العضوية، نحو النص، علم النص، التماسك النصي...

 ولعلنا في قادم الأيام نقف وقفة ثانية مع هذه الفكرة العظيمة الشائكة.

 

بارك الله في أستاذنا:دينه، وعقله، وصحته، وأهله، وطلابه...  

 

المصدر: التحدي المنتظر أمام البلاغيين العرب: علم البناء الفني للنص الأدبي"، د/كاظم الظواهري، طبع دار الهداية سنة 2011م.
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 2709 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

295,687