يتحمس الفلسطينيون ومعهم الكثير من القوميين والإسلاميين للنواح الإيراني على القدس، بل ويهونون من شأن سقوط الحواضر الإسلامية بيد إيران: البصرة، بغداد، دمشق، وبيروت.
الإجابة على هذا السؤال [الطائفي] أو [الصهيوني–الأميركي] محسومة عند كثير من النخب والمثقفين العرب، فمجرد طرح مثل هذا النوع من الأسئلة يعني خيانة للقضية الفلسطينية وتحويل بوصلة العداء وجبهة المواجهة نحو عدو مفترض استجابة لرغبات الغرب والصهاينة، وتفريق صف الأمة.
هذا هو بالضبط خطاب الإعلام الشيعي المعادي الذي يحاول تأمين إسناد الحملة الإيرانية على المنطقة السنية.
لم تجرف أمواج الخيانة والعمالة لإيران كل القوميين والإسلاميين فهناك فئة تؤمن بوجود عدوان إيراني ومشروع ديني وسياسي يسعى للهيمنة على المنطقة السنية، لكن هذه القراءة لا تولي الخطر الإيراني اهتماماً متميزاً، وهي نظرة لم تبنَ على قراءة منطقية للأحداث السياسية منذ نيسان 2003، وإنما هو انحياز عاطفي وحاجز نفسي يُبقي قضية "القدس وفلسطين" أولى الأولويات وأم القضايا ومحور حياة المسلمين، فالهوس بالقضية الفلسطينية وتقديسها يجمع كثير من المخالفات والتجاوزات بل والطامات من الناحية الشرعية والعقلية.
فالقضية الجامدة منذ عقود يسعى أنصارها لتجميد الأمة وتعطيل مصالحها في التخلص من أعدائها والنهوض بأهلها، بحجة مواجهة العدو الأخطر دون يكون هناك أي استراتيجيه واقعية لمواجهة هذا العدو، بل كل المعطيات تشير إلى أن فرسان المواجهة والممانعة (إيران ومن دخل في حلفها) منشغلون بتأمين مصالحهم وتعزيز مواقعهم والتفاهم مع الغرب "الامبريالي" على اقتسام السيطرة والنفوذ في المنطقة المشلولة بالتفكير في قضية فلسطين وحصار غزة.
لا يمكننا التماس العذر لمن جهل حقيقة التشيع الفارسي ومشروعه العدواني الذي توجهه إيران كيفما تشاء. فما فعلته إيران -وما زالت- يكفي لإفاقة وتنبيه المجنون والمخمور والطفل الرضيع والشيخ الخرف، ليس الجهل والغفلة لكنه السفه الذي يقتل صاحبه كما كان العرب يقتلون أبنائهم ويفنون قبائلهم ويتمرغون في أوحال الذل والجهل ثم يدعون بعد ذلك الفخر والمجد لأهلهم وقومهم.
إن التردد في الإجابة على السؤال المطروح آنفاً يعكس النزعة إلى الخيانة والتفريط وموالاة العدو تحت مسميات مزوقة وعناوين مزخرفة، فمن يؤثر السكوت أو يميل إلى التهوين من شأن سقوط الحواضر الإسلامية بيد إيران (البصرة، بغداد، دمشق، بيروت) ويرضى بتسلط جند التشيع الفارسي وحلفائه عليها فهذه هي الخيانة بعينها، وينطبق على أصحابها القول المأثور "بيعُ من لا يملك لمن لا يستحق". وإن من يسمون أنفسهم مثقفين اسلاميين أو قوميين لا يملكون حقاً في إرث لا يقدرون قيمته حينما ارتضوا هيمنة إيران، وزيادة على ذلك فهم يبيعون –بفكرهم وآراءهم الفاسدة- الأرض التي فتحها أسلاف المسلمين من الصحابة والتابعين وأجناد الأمصار إلى الإيرانيين المارقين.
عودة إلى المقارنة المطروحة في أول المقال لنبسط الأمر لمن تعذر عليه فهم المقدمة السابقة أو ثقُل عليه التخلص من أغلال وأوهام القضية الفلسطينية.
• تهويد القدس :
يشمل المشروع تهجير أهلها (المقدسيين) وتوطين اليهود وطمس الآثار والأسماء العربية والإسلامية، وغاية هذا المشروع هو هدم المسجد الأقصى. ربما يجهل من عزف عن قراءة التاريخ ان القدس وما حولها قد استبيحت من قبل الأوربيين الصليبيين وظلت بحوزتهم قرابة 100 عام، مُنع فيها المسلمون من الصلاة في المسجد الأقصى الذي تحول الى اسطبل للخيل والبهائم النجسة كالخنازير، أي فُعل بالقدس أضعاف ما يخشى المسلمون اليوم وقوعه مستقبلاً.
لست أهون من المشكلة، لكن لا بد من توجيه المشكلة في إطارها الصحيح. فقداسة المدينة كفيلة بأن نبقى مطمئنين بأنها ستعود إلى حوزة الدين وهذا الاطمئنان لا يتأتى إلا بوجود "عسكر عُمري" يفعل نحو ما فعل الناصر صلاح الدين، أما أن نعول على ثقافة "اللعن والطعن والقبور" في تحرير المقدسات فهذا يعني أن التهويد سيقترب أكثر، وان الجهل في ديار المسلمين سيتمدد أكثر وأكثر.
مواجهة التهويد تتطلب الإعداد والتهيئة للمواجهة الموعودة، وذلك وفق استراتيجية متكاملة لا تقتصر على المواجهة العسكرية وإنما ترتكز على الإعداد المعنوي الفكري، ولا تنتهي عند استرجاع المقدسات وتتوقف عند تحرير الأرض على أنها آخر الأهداف وغاية الغايات، ففلسطين جبهة واحدة ضمن جبهات كثيرة على الأمة القتال عليها.
• تشييع بغداد :
لا بد من تعريف بسيط بهذا المشروع الذي لا يود كثير من النخب العربية والإسلامية الاعتراف بخطورته والاستعداد لمواجهة آثاره فضلاً عن التصدي لمحاوله إتمامه وانجازه.
- بإمكاننا القول ان مشروع تشييع بغداد بدأ منذ يوم الاحتلال الأول (9 نيسان 2003) حيث سقطت الدولة وبقي "العرب السنة" يواجهون العواصف الشيعية والاميركية دون أي مرجعية دينية او سياسية تقودهم نحو بر الأمان، فالنظام البعثي السابق منع ظهور أي قيادة سنية (سياسية او دينية او عشائرية) في مقابل ذلك كانت ايران تعد رجالها ومشروعها للهيمنة.
- سيطر الشيعة على كثير من الأبنية والمنشآت الحكومية وقصور النظام البعثي في بغداد، وذلك بعد عمليات واسعة من السرقة والنهب، وتحولت كثير من أبنية الحكومة السابقة إلى مقرات للأحزاب السياسية والجمعيات الدينية والثقافية والخيرية الشيعية (مكاتب الشهيد الصدر، مكاتب المراجع الدينية، مكاتب الأحزاب السياسية).
- أصبح للشيعة قوة عسكرية رسمية في بغداد وذلك مع بدء تشكيل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية في حكومة أياد علاوي 2004، وقد انخرط كثير من أبناء محافظات الجنوب والوسط في صفوف القوات العاملة في بغداد.
- مع تسلّم ابراهيم الجعفري (رئيس حزب الدعوة آنذاك) رئاسة الحكومة في نيسان 2005، بدأت حرب الاجتثات والتطهير ضد "العرب السنة" التي قادتها وزارة الداخلية برئاسة بيان جبر صولاغ (القيادي في المجلس الأعلى). وأسفرت الحملات الأمنية وعمليات فرق الموت (القوات الخاصة في وزارة الداخلية) عن قتل واعتقال وتهجير الآلاف من أبناء السنة من بغداد.
- في 22 شباط 2006 فجر مسلحون مرقد الشيعة في سامراء (شمال بغداد) ليكون هذا التفجير بمثابة ساعة الصفر لعملية الاكتساح الشيعي الشامل للعاصمة، حيث تولت مليشيا الصدر (جيش المهدي) عمليات حرق المساجد ومهاجمة الأحياء وتهجير أهلها وتنفيذ الإعدامات في الشوارع والساحات العامة وإقامة نقاط التفتيش الوهمية، وتحولت مدينة الصدر (شرق بغداد) الى اكبر قاعدة لفرق الموت الصدرية، والتي ضمت كذلك معتقلات للمختطفين السنة.
- استمرت الحرب التي يقودها جيش المهدي على الأحياء السنية في بغداد عامين كاملين (2006-2007) تمكن فيها من فرض سيطرته على معظم أحياء بغداد بجانبيها الشرقي والغربي. ونقل بيان لجبهة التوافق السنية (رقم 49) عن احد السياسيين الشيعة قوله: "لم يبق في بغداد من العرب السنة سوى 15%". أما ضواحي العاصمة وهي الحزام السني المحيط ببغداد فقد تعرضت لحملات كثيرة منذ نيسان 2005، حيث بدأ الأمر بافتعال أزمة الرهائن الشيعة في منطقة المدائن (سلمان باك) جنوب شرق بغداد، وهي منطقة سنية ومعقل مهم للمقاومة، ومنذ ذلك الحين والاستهداف متواصل للعشائر السنية القاطنة في تلك المناطق، ومما يزيد رغبة الشيعة في الاستيلاء على هذه المنطقة وجود مقام الصحابي سلمان الفارسي المقدس عندهم.
- كما تعرضت الضواحي الشمالية الشرقية للعاصمة لهجمات كثيرة من قبل جيش المهدي وقوات الحكومية لا سيما المليشيات التابعة لعشيرة البو عامر في الراشدية، ولا تزال مناطق الطارمية والراشدية والتاجي مستهدفة من قبل القوات الرسمية بالاعتقالات والاغتيالات.
- وإلى الغرب من بغداد حيث قضاء أبو غريب السني، والذي يتمركز فيه أسوأ الألوية العسكرية التابعة للجيش العراقي (لواء 24) التابع للفرقة السادسة والذي يعرف بلواء المثنى منذ عام 2005. عُرف هذا اللواء بطائفيته فعناصره من أبناء محافظات الجنوب أو من الموالين لمقتدى الصدر، وهو يمارس دور المليشيا الصدرية في تلك المناطق حيث يقوم باعتقالات عشوائية جماعية لأبناء القضاء في مختلف النواحي، فضلاً عن عمليات التعذيب للمعتقلين، والاهانات "الطائفية"، ويقوم بين الحين والآخر بقتل قرويين في تلك النواحي بشكل جماعي وقد تكرر هذا عدة مرات خلال عامي 2009، 2010.
وعلى إثر الاعتقالات والتضييق الممنهج هاجرت المئات من العوائل السنية حتى أصبحت هذه الظاهرة ملحوظة ومحل اهتمام المتابعين للشأن السني في العراق.
- والى الجنوب الغربي حيث قضاء المحمودية وتوابعه، فقد تعرضت تلك النواحي لمجازر وحملات تطهير ديني لا مثيل لها، وكشف النقاب في ربيع عام 2008 عن عدد من المقابر الجماعية للضحايا السنة في منطقة المحمودية، أما مناطق اللطيفية واليوسفية وغيرها فتعرضت لحملات شرسة منذ استلام الجعفري منصب رئاسة الوزارة وقد طالتها أولى الحملات الأمنية (عملية البرق)، وقد توافرت أسباب كثيرة لينصب البلاء الشيعي على تلك المناطق منها (شراسة أبناء تلك المناطق ضد القوات الأميركية وقوات جيش المهدي، وجود تنظيم القاعدة الذي فاقم الأمر وأصبح يلاحق الجماعات الجهادية ويشن حربه على مخالفيه من السنة، وقوع هذه المناطق على طريق كربلاء).
• القدس أحسن حالاً من أخواتها :
أكرر ما أسلفت ذكره في مطلع المقال، فإني لا أهوّن من شأن البلاء الذي يقع على زهرة المدائن "القدس" فكثرة البكاء والعويل على القدس والأقصى لن يعجل النصر ولن يستنزل الفرج، لكن قيدها ليس أشد من القيود المطوقة للمدائن العربية الإسلامية المحتلة من قبل إيران.
فدمشق الشام أصبحت قاعدة للحكام العلويين الذين فتحوا ديار بني أمية لحركة التشيع الفارسي، كما احتضنوا المعارضة الشيعية العراقية سنوات طويلة، وتحولت دمشق العروبة إلى مركزاً لتصدير المشاكل والأزمات والاضطرابات ضد السنة في العراق ولبنان والأردن، وقبل ذلك فهي الجار المسالم لإسرائيل "الصهيونية".
أما بيروت فهي رهينة بيد مليشيات المقاومة اللبنانية الشيعية، ليس فيها للعرب السنة كلمة مسموعة أو راية مرفوعة، بل قُتل فيها زعيمهم رفيق الحريري "رحمه الله" والقاتل حر طليق في الضاحية الجنوبية يهدد ويتوعد ويرسل عصاباته إلى الشمال لمساندة العلويين (في منطقة جبل محسن) ضد الطرابلسيين السنة، واليوم ترسل بيروت ومدائن الشيعة في لبنان المقاتلين إلى سوريا لمساندة حكام دمشق في عمليات الإبادة لأبناء العرب السنة.
وأما حلب فهي أيضاً مطوقة بأغلال العلويين والإيرانيين الشيعة، والعتب كل العتب على من تخاذل وارتضى الاستظلال بسيوف النظام المجرم وآثر المصلحة المادية على الكرامة والحرية والمصلحة الأخروية.
وسائر الثغور الساحلية قد غدت قلاعاً للعلويين ينطلقون منها للصولة على ديار السنة في سائر النواحي والمدن السورية.
والبصرة قبل ذلك، قد حلّ الخراب بها بعد أن طُرد السنة منها وهدمت بعض مساجدها وجاهر شيعتها بسب الصحابة، وأصبحت نسخة عراقية للعاصمة الإيرانية طهران كما وصفتها إحدى الصحف البريطانية عام 2006.
• قُدس محررة وأوطان مدمرة :
هذه الحالة اللامنطقية التي يحلم بها كثير من أنصار ما يسمى "بالقضية الفلسطينية"، رغم أنهم لا يصرّحون بها لكن سبيلهم الأعوج الذي يسلكون ومنطقهم الأعور الذي يزنون به الأمور يؤدي إلى هذه النتيجة المستحيلة والكارثية إن وقعت.
لنتخيل مشهد رايات إيران أو مليشيا "حزب الله" مرفوعة على أسوار القدس، وقد طُهرت من اليهود، كيف سيكون الحال؟ سيفرح المغفلون وسيبكي العقلاء المؤمنون؛ لأن الفتنة ستجتاح ديار المسلمين وينقسم الناس إلا فريقين – إلا من رحم الله :
- سيغتر كثير من الناس بالتشيع الفارسي كعقيدة أعادت الأرض المقدسة بعد احتلال طويل، وسيُفتن الناس عن ملة إبراهيم ودين النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويُقبلون على ديانة جديدة قوامها "الطعن واللعن والوثنية القبورية"، وإن كان الجهلة اغتروا بالتشيع الفارسي بعد حرب تموز 2006، فإن الحال المتخيلة ستكون أدهى وأمر.
- ستعمل إيران على فرض مذهبها على الناس بعد أن تخطف زعامة المنطقة باعتبارها القوة الحامية للمقدسات الإسلامية، وهي عملية تأخذ شكلين: الإكراه، والترغيب ووسائله كثيرة، وربما تُحرم القدس على أبناء أهل السنة.
- وستنتقل القدس من احتلال يهودي إلى آخر شيعي أنكى وأشد على المسلمين، وسيأتي على المدينة المقدسة ما أتى على بغداد ودمشق من قبل، وعلينا أن نذكر أن القدس طُهرت إفساد اليهود حينما نكبها البابليون وسبوا اهلها، لكنهم دمروها وخربوا مقدساتها، وانتصار الشيعة "المفترض" لو وقع سيكون من جنس انتصار البابليين على اليهود.
إن القراءة الشرعية الدينية والتاريخية والتي تعضدها الرؤية العسكرية والسياسية توجب على العقلاء الاهتمام بتحرير البلدان العربية من هيمنة إيران المباشرة وغيرها قبل التفكير بنصرة الأقصى وفك الحصار عن غزة فضلاً عن تحرير فلسطين وغير ذلك فإنما هي محض أوهام ينساق خلفها المغفلون ويروج لها المتربصون.
فأكثر من 60 عاماً من الاحتلال اليهودي إنما جاءت بسبب ضلال العاملين عن سلوك الطريق الصحيح، وستطول هذه المدة وتتضاعف إن ارتضينا هيمنة إيران ومذهبها على ديارنا وعقول أبنائنا.
المصدر: صبا بغداد
نشرت فى 15 إبريل 2012
بواسطة sababaghdad
ارض الغرباء
- إن استطعـــت ألا يسبقـــك إلى الله أحـــد فافعــــــل »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
24,253