أدب المعاملة وأثره في بناء العلاقات الإنسانية
من منظور قرآني
الإنسان مدنيٌّ بطبعه، يجنح إلى تكوين العلاقات مع بني جنسه، ومن هنا فقد أقرَّ القرآن الكريم المبادئ الأساسية للعلاقات الإنسانية، وأصَّل لأدب التعامل مع الآخرين، لأنَّ الأدب يُعدُّ عاملاً مهماً في بناء حياة اجتماعية صالحة، قائمة على أساس العدل الاجتماعي، والعلاقات الإنسانية النظيفة المبنيّة على التعاون والتناصر ومراعاة المشاعر والأحاسيس.
العلاقات الإنسانية في ضوء القرآن الكريم
أولاً: مفهوم العلاقات الإنسانية
يُطلق مصطلح «العلاقات الإنسانية» على أساليب التعامل بين الناس وتفاعلهم في المجتمع الذي يعيشون فيه، في شتى جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، ومرافقه العملية والتعليمية والأسرية. وينطبق ذلك بطبيعة الحال على المؤسسة أو المنظمة التي تجمع الناس في شكلٍ من أشكال التنظيم بغرض الوصول إلى هدف معين مشترك[1]. فالعلاقات الإنسانية تتعلق بتفاعل الأفراد في جميع أنواع المجالات، ويُشاهد هذا التفاعل بصفة عامة في تنظيمات العمل، حيث يرتبط الأفراد بنوع من البناء والنظام الشكلي في سبيل تحقيق هدف معين من خلال الترابط والانسجام والتعاون فيما بينهم[2].
ويُنظر إلى العلاقات الإنسانية من وجهة نظر علماء الإدارة على أنها: "دمج الأفراد في موقف العمل الذي يدفعهم إلى العمل سوياً كجماعة منتجة متعاونة، مع ضمان الحصول على الإشباع الاقتصادي والنفسي والاجتماعي. وهدفها هو جعل الأفراد منتجين متعاونين، من خلال الميول المشتركة، والحصول على الإشباع عن طريق تنمية علاقاتهم وتوطيدها. وعندما يتم تحقيق هذه الأهداف تبرز الجهود الموفقة للجماعة، حيث يعمل الأفراد سويّاً بطريقة منتجة مشبعة"[3].
وبعبارة أكثر وضوحاً فإنَّ «العلاقات الإنسانية» تُطلق على تلك الروابط القائمة بين الناس أفراداً وجماعات، سواء كان ذلك على مستوى الأسرة، كالعلاقة بين الزوجين، والعلاقة بين الآباء والأبناء، أو على مستوى المجتمع على اتساعه، أو على مستوى الاتصال الإنساني والتفاهم البشري بشكل عام، في كافة جوانب الحياة ومجالاتها.
والحديث عن العلاقات الإنسانية في هذا البحث، هو حديثٌ عن هذه الروابط الإنسانية، من ناحية تأثّرها إيجاباً وسلباً بأسلوب المعاملة، والطريقة التي تتم بها، وتوجيهات الآيات القرآنية في هذا السياق.
ثانياً: التصوّر القرآني للعلاقات الإنسانية
[1] انظر: عبد الشكور، محيي الدين: «نحو مدخل إسلامي لتطوير وتنظيم العلاقات الإنسانية»، بحث مطبوع ضمن كتاب: الإعلام الإسلامي والعلاقات الإنسانية، والذي يضم أبحاث اللقاء الثالث للندوة العالمية للشباب الإسلامي، المنعقد في الرياض بتاريخ 16 أكتوبر 1976م، ط2، 1405هـ، ص123.
[2] انظر: مرسي، سيد عبد الحميد: العلاقات الإنسانية، (مكتبة وهبة)، ص11.
[3] أبو العلا، محمد: علم النفس الاجتماعي، (بدون)، ص196.
أدب المعاملة في ضوء القرآن الكريم
أولاً: مفهوم الأدب وفضله
الأدب لغةً هو الظَرْفُ وحُسْن التناول. يُقال: تأدّب الغلام في كلامه مع أبيه؛ أي تحاشى الكلامَ الخارج عن حدود الأدب. وسُمّيَ الأدب أدباً لأنه يُوجّه الناسَ إلى المحامد وينهاهم عن القبائح. وأصل الأدب الدعاء، ومنه قيل للطعام الذي يُدعى إليه الناس مَدْعاة
[1]. ومصطلح الأدب كما يرى ابن القيم يدل على معنى الاجتماع؛ فالأدب اجتماع خصال الخير في العبد. ومنه المأدُبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس[2].
وعَرّف الجرجاني الأدب بأنه "عبارة عن معرفة ما يُحترز به عن جميع أنواع الخطأ"[3]. ووَردَ عن عبد الله بن المبارك أنه عرّف الأدب بأنه معرفة النفس ورعونتها، وتجنب تلك الرعونة[4].
ولا بد هنا من التمييز بين الأدب بمفهومه العام، وعلم الأدب بمفهومه الخاص. فعلم الأدب هو "علم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه، وصيانته عن الأخطاء والخلل"[5]. فهذا المفهوم كما يقول ابن القيم هو "شعبة من الأدب العام"[6].
والأدب الذي يعنينا في هذا البحث هو الأدب بمفهومه العام والذي أشرنا إليه أولاً، وهو المختص بالجانب الخُلُقي والسلوكي لا بدلالات اللسان ودلالات الألفاظ في حالاتها الإفرادية والتركيبية.
وبالنظر إلى أهمية الأدب وفضله في الإسلام، فإننا نجد أن الإسلام قد وضع قواعد في التربية والتهذيب، ومبادئ للقيم والسلوك والأخلاق، ليقيم عليها مجتمعاً نقيّ السريرة، عفّ اللسان، ذا أدبٍ وذوقٍ رفيع. فقد عُنيَ الإسلام بموضوع الأدب بشكل عام.[1] انظر: ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، (بيروت:دار صادر، د.ط، د.ت)، ج1، ص206. الفيرززآبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، (بيروت: دار الفكر، 1403هـ/ 1983م)، ج1، ص36.
[2] انظر: ابن القيم، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي: مدارج السالكين، تحقيق: محمد حامد الفقي، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط2، 1393هـ/1973م)، ج2، ص375.
[3] الجرجاني، علي بن محمد بن علي: التعريفات، تحقيق: إبراهيم الابياري، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ)، ص29.
[4] انظر: الشرباصي، أحمد: موسوعة أخلاق القرآن، (بيروت: دار الرائد العربي، ط1، 1979م)، ج6، ص157.
[5] ابن القيم: مدارج السالكين، ج2، ص376.
[6] المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
[1]. ومصطلح الأدب كما يرى ابن القيم يدل على معنى الاجتماع؛ فالأدب اجتماع خصال الخير في العبد. ومنه المأدُبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس[2].
وعَرّف الجرجاني الأدب بأنه "عبارة عن معرفة ما يُحترز به عن جميع أنواع الخطأ"[3]. ووَردَ عن عبد الله بن المبارك أنه عرّف الأدب بأنه معرفة النفس ورعونتها، وتجنب تلك الرعونة[4].
ولا بد هنا من التمييز بين الأدب بمفهومه العام، وعلم الأدب بمفهومه الخاص. فعلم الأدب هو "علم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه، وصيانته عن الأخطاء والخلل"[5]. فهذا المفهوم كما يقول ابن القيم هو "شعبة من الأدب العام"[6].
والأدب الذي يعنينا في هذا البحث هو الأدب بمفهومه العام والذي أشرنا إليه أولاً، وهو المختص بالجانب الخُلُقي والسلوكي لا بدلالات اللسان ودلالات الألفاظ في حالاتها الإفرادية والتركيبية.
وبالنظر إلى أهمية الأدب وفضله في الإسلام، فإننا نجد أن الإسلام قد وضع قواعد في التربية والتهذيب، ومبادئ للقيم والسلوك والأخلاق، ليقيم عليها مجتمعاً نقيّ السريرة، عفّ اللسان، ذا أدبٍ وذوقٍ رفيع. فقد عُنيَ الإسلام بموضوع الأدب بشكل عام.[1] انظر: ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، (بيروت:دار صادر، د.ط، د.ت)، ج1، ص206. الفيرززآبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، (بيروت: دار الفكر، 1403هـ/ 1983م)، ج1، ص36.
[2] انظر: ابن القيم، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي: مدارج السالكين، تحقيق: محمد حامد الفقي، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط2، 1393هـ/1973م)، ج2، ص375.
[3] الجرجاني، علي بن محمد بن علي: التعريفات، تحقيق: إبراهيم الابياري، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ)، ص29.
[4] انظر: الشرباصي، أحمد: موسوعة أخلاق القرآن، (بيروت: دار الرائد العربي، ط1، 1979م)، ج6، ص157.
[5] ابن القيم: مدارج السالكين، ج2، ص376.
[6] المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
أدب المعاملة ودوره في الحفاظ على وحدة الصف وحلّ
المشكلات الاجتماعية
يمثّل أدب المعاملة وسيلة مهمة من وسائل توحيد الصف الإسلامي، لما يحققه من تآلف بين القلوب، وتناصر بين النفوس. ولما يتمخض عنه من حلِّ كثيرٍ من المشكلات الاجتماعية.
أولاً: أدب المعاملة وأثره على وحدة الصف ولَمِّ الشمل
يُوجِّه القرآن الكريم المؤمنين إلى ضرورة الالتزام بأدب المعاملة في بينهم، لأن الشيطان قد يستغل كلَّ كلمة طائشة. فبسبب كلمة قد يتفرَّق الشمل؛ فتحلُّ العداوة والبغضاء، وبسبب كلمة قد تتآلف قلوب؛ فتحلّ المودّة وتزول الأحقاد والكراهية. قال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾[1].
قال القرطبي: "أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة، بحُسن الأدب، وإِلانة القول، وخفض الجناح، واطّراح نزغات الشيطان، وقد قال صلى الله عليه وسلم «وكونوا عباد الله إخواناً»[2]"[3].
فالله يأمرنا بأن نتحكّم بأقوالنا وأفعالنا لتكون مسدَّدة صائبة، فلا نتفوّه من القول إلا بأحسنه، لنسدّ بذلك على الشيطان مسالكه، ونمنعه من التغلغل بين صفوفنا كمؤمنين متحابين متوادّين، كي لا يفسد علينا سعادتنا وطمأنينتنا "فالشيطان ينـزغ بين الأخوة بالكلمة الخشنة[1] سورة الإسراء: الآية 53.
[2] متفق عليه. انظر: البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الأدب، باب رقم 57، حديث رقم 5717، ج5، ص2253. مسلم: الجامع الصحيح، كاب البر والصلة والآداب، باب رقم 27، حديث رقم 2559، ج4، ص1983.
[3] القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، (القاهرة: دار الشعب، ط2، 1372هـ)، ج10، ص277.
"ولكي تصل البشرية إلى وحدتها فتكون أمة واحدة، وإلى تواصلها فتكون أسرة واحدة، أمر الله جلّت حكمته بحسن الأدب ولين القول وجميل الفعال، لأنه جميل يحب الجمال، طيّبٌ يحب الطيب. وما علينا في سبيل الفوز بمحبته إلا أن نسعى إلى ذلك بالتجمّل بأخلاق القرآن، والتحلّي بشمائل المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم، لأن أعلى مستوى من مستويات الكمال هو أن نتخلّق بأخلاق القرآن التي جسّدها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً حتى صار خُلُقُه القرآن"[1].
ويبيّن لنا القرآن الكريم أنّ أدب الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الآخرين، كان سبباً في تجميع القلوب وتوحيد الصفوف. قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[2].
[1] آقبيق، غازي صبحي: آيات قرآنية: ومضات من القرآن الكريم، (دمشق: دار الفكر، د.ط، د.ت)، ج2، ص103.
[2] سورة آل عمران: الآية 159.
ويبيِّن الإمام الشافعي بكلماتٍ بليغة منظومة، كيف أنَّ العفو وعدم الردّ على السيئة بمثلها، يجنِّب الإنسان الكثير من العداوات، الأمر الذي يسهم في حلّ الكثير من المشكلات الاجتماعية. يقول:
لَمَّا عفوْتُ ولمْ أحْقدْ على أحَدٍ |
|
أرَحْتُ نفسي مِنْ هَمِّ العداواتِ |
إنِّي أُحَيِّي عدُوِّي عِندَ رُؤيتهِ |
|
لأدفَعَ الشرَّ عنِّي بالتحيَّاتِ |
وأُظْهرُ البِشْرَ للإنسانِ أبغضُهُ |
|
كأنَّهُ قدْ حَشَى قلبي مَحبَّاتِ |
ولسْتُ أَسْلَمُ مِنْ خِلٍّ يُخالطني |
|
فكيفَ أَسْلَمُ من أهلِ العداواتِ |
الناسُ داءٌ وداءُ الناسِ قُرْبُهمُ |
|
وفي اعتزالهم قَطْعُ المَوَدَّاتِ[1] |
وعلى مستوى الأسرة يُبين لنا القرآن الكريم، أنَّ الوعظ بالكلمة هو الخطوة الأولى في رأب الصدع القائم بين الزوجين في حال النشوز
[1] الشافعي: الديوان، جمع وتحقيق: اِميل يعقوب، ص57.
ساحة النقاش