لايقدس الله أمة لا تنصر مظلوميها -عبد الله المبرد
الحمد لله العزيز القاهر، الحمد لله القوي القادر، الحمد لله قاصم الجبابرة الظالمين وناصر الضعفة المظلومين، الحمد لله القائل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [200 سورة آل عمران]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله حُوصر في الشعب وأخرج من بلاده ثم نصره ربه وأخضع له رقاب أعدائه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [33 سورة لقمان].
عن جابر رضي الله عنهما قال: لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال: "ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ " قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قُلةً من ماء، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قُلَتها فلما ارتفعت، التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غداً. قال يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدقت صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم " كيف يقدس الله أمة يظلم فيها الضعيف فلا يجد له ناصراً ولا معيناً؟! كيف يقدس الله أمة ترى ألوان الظلم والعدوان تصب على أهل بلدة مؤمنة فلا يتحرك لنصرتهم أحد؟! بل كيف يقدس الله أمة يشارك بعضها في ظلم المظلوم ويسكت عن الظالم أو ينصره؟!
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلق على حادثة فريدة يرتكبها غلام غر في أرض الحبشة فلا يلوح بالعقوبة الإلهية على الغلام الأرعن مرتكب الزلة العرضية، وإنما يلوح على الأمة بأسرها التي تقع على أرضها المظلمة ويعيش بين ظهرانيها المظلوم المخذول الذي تسلمه أمته لظالمه وتخذله في قضيته.
فالظلم إذا وقع في أمة أو على أرض، ثم تساكتت عليه، وأغضت عنه، داهنت الظالم أو شاركت معه في ظلمه - فإنها أمة تخاطر ببقائها، تتعرض لعقوبة الله لها بالمحق والزوال.
وأمة الإسلام هي أمة النصرة والإيواء والأخوة، وما قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة إلا بعد أن قام أهلها بواجب النصرة على صورة عزَّ في تاريخ البشرية مثيلها.. عندما قام الأنصار الأحرار بنصرة المهاجرين المظلومين، فشاطروهم أموالهم ودورهم ودماءهم، ومنعوهم مما يمنعون منه نساءهم وذراريهم حتى أشاد بهم القرآن العظيم (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [9 سورة الحشر].
عزت أمة الإسلام وسادت في سنوات قلائل عندما تناصرت وآوى بعضها بعضاً وذاد بعضها عن بعض... انتصرت عندما اشتركت في الزاد والماء والأرض والمصير ولذلك كان المسلمين بعضهم لبعض علامة الإيمان وشرطه "إنما المؤمنون إخوة" قال صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " متفق عليه.
واليوم ترون عباد الله كيف تفككت عرى الولاء بين المؤمنين، وكيف هان عليهم بعضهم، وكيف رخص الدم المسلم العزيز على المسلمين أنفسهم فضلاً عن عددهم..
ترون كيف ظلت غزة تذوب في مخنقة الحصار والقطيعة أعواماً متتالية والمستضعفون هناك يقتلون وهم ليسوا أقلية مسلمة في بلاد كفار بعيدة ولا بداة في أرض معزولة؛ إنهم في قلب العالم الإسلامي وبين أكبر دولة والأقرب إلى أرضه المباركة! وقد ضجت الآفاق بأصوات استغاثتهم، ورأى الناس في مشارق الأرض ومغاربها كيف يموت مرضاهم، ويختنقون حين تنقطع الكهرباء، وتتوقف أجهزة المستشفيات، ورأى الناس كيف تصل لهم لقمة العيش المعفرة بالتراب من تحت الأنفاق وكأنها قنبلة نووية؛ لخطورة وصولها! والمسلمون يرون كل ذلك، ويسمعون نواح الثكالى وأنين المرضى، ولما سكتت الأمة على المذبحة الصامتة والإبادة البطيئة... ولما استمرت رؤية مشاهد القهر والإذلال خطت يهود خطوتها الأخرى -وهي آمنة- فملأت سماء الضعفاء العزل بالطائرات الغادرة تصب على رؤوس الجياع حمم الموت الأحمر في مشاهد إبادة جماعية بشعة ونقلت يهود -لعنها الله- أنها بعد أيام ستحرك آلتها البرية؛ لاجتياح البلدة المهدمة المظلومة والقرية الجريحة القريحة التي طواها الجوع والخذلان، اليهود قتلهم الله لا يستكثر منهم ذلك ولا يستغرب فهم عدد صريح جبان وجد ضعفاً وهوناً وتخاذلاً فمال على المستضعفين ميلة واحدة.
ولكن العجب كل العجب من الأمة المسلمة التي بعض دولها تتورط في إحكام الحصار، ومحاصرة القضية، وحبك المؤامرة..
العجب من الأمة المسلمة التي قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة " وزاد الطبراني " لا يسلمه في مصيبة نزلت به " وقال لهم نبيهم: " والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع ".
العجب من أمة أسلمت أهلها وأعراضها وذراريها ودماءها لطغمة يهودية تناصرها حثالة علمانية فاسدة.
العجب من أمة أسلمت أهلها وأعراضها وذراريها ودماءها لطغمة يهودية تناصرها حثالة علمانية فاسدة.
العجب ممن يرى نفوس الأبرياء تتطاير من تحت حمم الموت الإسرائيلية ثم لا يرفع رأساً بنصرة إخوته، ولا بذم عدوهم الصهيوني المجرم ولا ظهيره العلماني المتآمر، وإن حرك لسانه فما يفتأ يؤذي المرابطين الصابرين الباذلين دماءهم وأموالهم وأولادهم في الدفاع عن المسجد الأقصى وحفظ قضيته.
قال الإمام مالك: " على المسلمين أن يفكوا ويفدوهم ولو استغرق ذلك جميع أموالهم؛ فكيف وشعب بأكمله أسير محكوم بالإعدام قد بدأ العدو ينفذ حكمه الأثيم تحت أعين المسلمين!.
بلغ عمر ابن عبد العزيز -رحمه الله- أن رجلاً مسلماً استنزل في بلاد الروم فكتب إلى ملك الروم يهدده ويتوعده يقول: إذا بلغك كتابي هذا فأطلق سراح هذا الرجل، وإلا غزوتك بجنود أولها عندك وآخرها عندي.
أيها المؤمنون....
منذ عام 48 السنة التي أعلن فيها قيام الدولة الإسرائيلية، واليهود يرتكبون أعنف المجازر، ويوْقعون بالمسلمين المقاتل العظيمة، ولكنهم كانوا آنذاك يقولون: إننا نواجه جيلاً لم يعهد الاحتلال ولم يألف ولم نقم نحن بتشكيل ثقافته، وكانوا ينظرون إلى تلك المواقع على أنها ضرورة للحفاظ على الكيان الجديد.
وكانوا يقولون إن جيل السبعينات -أي الجيل المولود بين عامي 1390هـ إلى عام 1400هجري- يقولون إن هذا الجيل سيكون هو الجيل الذي نربيه على أعيننا، كانوا يراهنون على تدجين هذا الجيل، وترويضه على قبول الأمر الواقع، والتعايش مع الثقافة اليهودية ومسالمتها، بل المشاركة في بناء حضارتها، وفرحوا بما حصلوا عليه في كامبديفد وأوسلوا وغيرها من معاهدات الذل والتنازل والسلام الرخيص الذي كانوا يحصلون عليه على موائد المفاوضات الخانعة...
وكبرت وساوسهم وتطلعوا إلى إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل... لعب خمر الأحلام في رؤوسهم فما استفاقوا إلا على همهمة الصغار من أبناء السبعينيات محل الرهان اليهودي وهم يجمعون الحجارة ويرتلون سورة الأنفال وآيات الجهاد وأهازيج الحرب... فجاءهم الشيخ أحمد ياسين الشيخ الكسيح المبحوح الذي يجر جسده الخامد، ولكن حشوه النفس المتوقدة والقلب اللاهب... وإذا بالجيل المستهدف يروعهم ويمزق أوراق المعاهدات الذليلة وصكوك البيع الرخيصة للقضية الغالية... وإذا به يخرج عليهم بالشباب الملتحي المتسابق للصفوف الأولى في صلاة الفجر المفاخر بما يحفظ من القرآن... يكسر طوق الخوف ويضرب بكل ما تحت يده... وإذ بالفتوح تأتيه فيطور سلاحه وخطابه وآلة إعلامه، فإذا به يعيد القضية لمربعها الأول... لا حق لليهود في فلسطين، ليس لهم حدود محترمة لا في السبعة والستين ولا في الثمانية والأربعين، وكل ما حصلوا عليه من وعود وعهود زور من بلفور إلى أوسلو... وإذا بالفتية يهتفون:
حاجز الخوف تهدم
فتقدم
يا أخا الإسلام والحق تقدم
فجر الأرض على الباغين ناراً وسعيراً، واملأ الدنيا زئيراً
شوكة في حلق صهيون وزلزالاً خطيراً
أقرع الخصم بآيات الجهاد
قل لهم هذه بلادي
أنت من باع لوجه الله دنياه وأسلم
خيلنا تزحف فوق الجمر
نحو الصبح والفتح المؤزر
سوف تهوى تحت أقدامك خيبر
إن تكن أحلامهم كبرى فإن الله أكبر
وإن يكن لهم مكر عظيم فإن الله أعظم
وتحت دفع الصواريخ الصغيرة تتوقف هجرة اليهود، بل ويفر مئات الألوف من إسرائيل ومن أكابرهم من الفتية والجيل الجديد.
أيها المؤمنون: تذكرون قبل ثلاثين سنة كيف يئس المسلمون من مواجهة اليهود، وكيف ضاعت ثقة العالم الإسلامي في حملة القضية والمتحدثين باسمها آنذاك... واليوم انظروا كيف تغيرت موازيين القوى ما عادت اليهود تحلم بإسرائيلها الكبرى... إنها لا تتمنى سوى عيش آمن من وراء جدار صخري عازل؛ فما كان يدور بخلد اليهود أنهم بعد ستين عاماً من الحروب والمعاناة من أجل البقاء أنهم سيجدون من يُهَوِّد كيانهم، ويعيدهم إلى مشاعر السنوات الأولى؛ من الخوف والقلق والترقب وصدق الله العزيز " ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ " [112 سورة آل عمران].
الخطبة الثانية
يقول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [200 سورة آل عمران].
أجل إنها وصية الله لعباده المؤمنين بالصبر والمطاولة والمرابطة والثبات والاستمرار في درب الجهاد ومنازلة العدو وعدم الاستسلام والاستكانة مهما كثرت الجراح ومهما ضج النواح " وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" [140-142سورة آل عمران].
أجل إنها دعوة للمرابطين هناك، ولإخوانهم من خلفهم هنا في كل بلاد الله، ولكل محزون ما أصاب إخوته..
إن النصر مع المصابرة والمرابطة والعلو والعزة للمؤمن، وإنها سنة الله أن يتخذ من عباده شهداء، ويمحص ما في قلوب الناس بالبلاء؛ فمنهم مكلوم أسيف على ما أصاب إخوته، ومنهم منافق مغموص عليه في النفاق؛ يرى ما يفعله اليهود، ثم يستل قلمه ولسانه؛ ليطعن إخوة الدين المجاهدين المرابطين هناك.
والجنة ورضى الله لمن جاهد بدمه وماله ودعائه وقلمه ولسانه.
أخوة الإسلام ولعله من الفأل الحسن والبشرى العاجلة أن يأتينا عاشوراء ونحن نواجه اليهود قتلة الأنبياء ومحرفي كلام الله فهو يوم النصر المؤزر -بإذن الله- للأمة المستضعفة المقهورة على الأمة الباغية المتجبرة، وإنه يوم صرع الله فيه الطغيان، وذاق الكفر فيه بطشة الله الشديدة وأخذته الأليمة.
إنه اليوم الذي صام فيه موسى وقومه وقد يئسوا من النجاة وضاقت بهم الحيل (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: من الآية62]..
إنه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجودي، وطهر الله فيه الأرض من الظلمة..
فصبراً إخوة الإسلام في غزة الصامدة؛ فإن معكم ربكم سيهديكم..
وصبراً عباد الله هنا على نصرة الدين.. هبوا إلى نصرة الإسلام والذود عن القضية، ولا ينبغي أن تكون الأحداث موسماً لتفريغ الانفعالات، ولا مهرجاناً لشتم اليهود، لكن اجعل لك التزاماً واضحاً دائماً مستمراً نحو الأقصى وقضيته حتى تلقى. فقد عادت القضية إلى الواجهة بعد ما أرادها اليهود في خلفية العقل المسلم