استخدم أهل الخليج وخاصة في دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، حركة نجوم السماء والطوالع والأبراج تقويماً حسابياً لحساب دخول وخروج الفصول وتوقع هطول الأمطار. ومع الشمس والنهار والإنسان وحركة الحياة اليومية للأجداد والآباء في الإمارات ماضياً، كان المزارعين يستخدمون المقاييس الشمسية وبدرجة أساسية مع أنظمة ري مزارع النخيل من أفلاج المياه العذبة التي كانت تتدفق في الماضي من العيون الطبيعية ويشرف على توزيعها رجال متخصصون في معرفة حسابات حركات النجوم وقياس الظلال التي تعكسها أشعة الشمس وغير ذلك من الفنون المعتمدة على النجوم والشمس والظل والغروب والشرق ويسمى الواحد منها (عرّيفاً).
ومن خلال حساب النجوم يعرف المزارعون متى يتم قلع وزراعة فسائل النخيل، ومتى يحرثون أراضيهم ومتى يبذرون. فأهل البر يعرفون مواسم الزراعة والرعي والسفر، وأهل البحر يعرفون مواسم الصيد والسفر. ويتعرفون من خلالها على أوقات دخول فصول السنة ووقت نزول المطر ووقت البرد والحر.
ولا يفوتنا أن نشير أيضاً إلى خبرات أبناء البادية من الأجداد والآباء وخاصة سكان مناطق رؤوس الجبال منهم أولئك الذين كانوا كثيري الاهتمام والحرص على جمع منتجات (النحل) من العسل للتغذية عليه والتجارة به وبالتالي تتبع تحركات هذه الحشرة والبحث عن قفيرة بين الكهوف والمغارات الجبلية. كان الأجداد قديماً يعتمدون على الحسابات العشرية التي يطلق عليها محليًا (حسابات الدرور) ويحسبون أوقاتها من خلال المشاهدة وتكرار حدوث الحالة والعوامل المصاحبة لها ومن حساباتهم الطويلة والمتوارثة لديهم واحتكاكهم. نظراً لتنوع تضاريس الدولة في البيئات سواء البحرية أو الزراعية والصحراوية, والجبلية اختلفت حسابات الدرور حسب البيئة.
- إسهامات أجدادنا في علم البحر:
إن الحديث عن إسهامات أجدادنا عرب الخليج في علوم البحر ذو شجون وجذور متغلغلة في أعماق وروح أهل الخليج منذ القدم، ولم لا وقد كانت العوامل التي دفعتهم لذلك ذات دوافع تتعلق بأمر حياتهم ومعيشتهم، والدافعان الرئيسان هما ما يتعلق بأمر دينهم وعلاقتهم بربهم كمسلمين، والآخر يتعلق بأمر رزقهم واقتصادهم.
ففي الوقت الذي يحتاج فيه البحار أو البدوي الذي يقطع الصحراء في بيئة يصعب على المرء أن يحدد فيها اتجاهه عليه أن يعلم بالدقة أسماء بعض النجوم ومواقعها في المواقيت المختلفة. ومن الأمثلة على ذلك استخدامهم للتقويم القديم وهي حسابات لأيام السنة وفصولها ابتداءً من مطلع النجم (سهيل) في الخامس عشر من شهر أغسطس من كل عام قبيل شروق الشمس – كما سنشرحه لاحقاً في القسم المخصص له، وكذلك استخدامهم للديرة (البوصلة البحرية) لمعرفة الاتجاهات للإبحار في مياه الخليج.
كما كان أجدادنا يفرقون بين الأجرام السماوية التي تتحرك بشكل مختلف عن باقي النجوم الثابتة ويسمونها بـ (النجوم المتحركة أو السيارة) وهي الكواكب الخمسة السيارة، عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل، والنجوم الأخرى تسمى النجوم الثابتة، مثل : (نعش والواقع والسماك).
لذلك نجد أن تاريخنا حافل بالأخبار والأحداث، ومن الواضح أننا لم نعطه العناية الكافية لاستخراج الكثير منه لنعلم حقيقة ما حصل، فهناك الكثير من الوقائع والأحداث التاريخية المهمة التي لم نستطع أن نحصل عليها بشكل واضح ومفصل.
- الاهتداء بالنجوم في البحر عند الأجداد:
لقد كان للبحر دوراً فاعلاً وحيوياً في بلاد الخليج العربية، وكان له دور اجتماعي وثقافي واقتصادي لا يستهان به، إذ كان اهتمام كل أهل الخليج ممن عاشوا على شواطئه، ينصب على الأعمال البحرية سواء كانت أعمال غوص للبحث عن اللؤلؤ أو صيد الأسماك أو الإبحار للبلاد المجاورة بغرض التجارة. بينما الأجداد كان تركيزهم على استخدامهم للتقويم القديم في معرفة أنسب المواقيت للقيام بالأعمال البحرية، كما يطلق عليها (حسابات الدرور) وهي حسابات لأيام السنة وفصولها ابتداءً من مطلع النجم (سهيل) في الخامس عشر من أغسطس من كل عام قبيل شروق الشمس.
وقد جاء في كتاب (الفوائد في معرفة علم البحر والقواعد) للبحار العربي أحمد ابن ماجد، قوله: (اعلم أيها الطالب أن لركوب البحر أسباباً كثيرة، فأولها معرفة الشمس والقمر والرياح ومواسمها وآلات السفينة). كما يوضح ابن ماجد فيه كيفية الاستدلال بمهمة الرياح والبروج ومنازل القمر كوسيلة يستدل بها البحارة – وسنوضح ذلك لاحقاً في الفصل الخاص بالرياح. ويقول أسد البحار أحمد بن ماجد عن علم الملاحة عند العرب، مقارنة مع الشعوب الأخرى : (ونحن أخناناً اثنان وثلاثون خناً، ولنا ترفات وأزوام وقياسات لا يقدرون عليها، وليست هي عندهم ولا يقدرون أن يحملوا دركنا، ونحمل نحن دركهم وندرك معرفتهم ونسافر بمراكبهم، لأن البحر الهندي هو متعلق بالبحر المحيط وله علم في الكتب، وقياس علمهم ليس له قياس ولا علم ولا كتاب إلا في قنباص وعدة أميال، ليس له قيد. ونحن يسهل علينا أن نسافر بمراكبهم في بحورهم، وقد كابرنا لبعضهم في ذلك حتى طلعوا عندنا فأقروا لنا بالمعرفة في البحر وعلومه والحكم على النجوم في أودية البحر، ومعرفة قطع المركب طولاً وعرضاً، لأن طولنا وعرضنا له قيود بالإبرة وهي الحقنة، وليس عندهم قياس يهتدون به في الميل يميناً ويساراً، فبهذا أقروا لنا بالمعرفة والدلالة).
وقد كان أثر مواسم الغوص واضحاً في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وترجمت هذه الآثار وما ينجم عنها من مشاعر بالأهازيج والأشعار الجميلة، فعند الذهاب إلى الغوص كانوا يرددون :
سرت بغرب المصايف وبيت بشمل بعشور على فراق الولايف كن يا قلبي صبور
وعند العودة من موسم الغوص وتبدأ درجة الحرارة بالانخفاض يرددون المثل :
إلى طلعت السابعة البرد وايد يقفل الغواص من قاص البعايد
- الدرور وكيفية حسابها في الإمارات:
تعتبر حسابات الدرور، من الحسابات المهمة والضرورية لأصحاب الزراعة وأهالي البحر، حيث تمثل أهمية بالغة في حياتهم اليومية بحثاً عن مصدر الرزق، وبها استطاع الأهالي الاستمرار في الزراعة وتحسن محاصيلهم والمحافظة على الثروة الزراعية، كما كانت الدرور عاملاً مساعداً للبحارة في خروجهم للصيد وتلمس الرزق بمعرفتهم لحسابات الدرور يستعدون لموسم الصيد وتكاثر الأسماك.
وحسابات الدرور تختلف من منطقة لأخرى ومن دولة لأخرى فأهالي الخليج والجزيرة العربية معظمهم لديهم حسابات يعرفها وينظمها حسب ما توارثوه عن الأجداد ولم يعرف تاريخ بداية اعتماد أهالي المنطقة على هذه الحسابات ولا المنطقة أو السكان الذين نظموا هذه الحسابات.
ويشير كثير من الأهالي الذين حفظوا هذه الدرور إلى أنهم تناقلوها عن أجدادهم، وكانت مصدر افتخار لهم عندما يسألهم أحد عنها، ويجد الأهالي اليوم صعوبة في حفظ هذه الدورة ، خاصة بعد أن توفي الكثير من حفظتها، وبين الحين والآخر ينسى من يحفظ الدرور الحسابات الصحيحة نسبة لكثرة الانشغال وتطور الحياة العصرية في الوقت الحاضر.
في الماضي لم يكن هناك شيء أكثر من معرفة مواقع النجوم لتحديد حركة الطقس ودخول الشتاء ومواسم العواصف، أو انقضائها وتعامد الشمس في كبد السماء. وكان الأجداد يستخدمون هذا التقويم في معرفة أنسب الأوقات للزراعة، وجني الثمار وخاصة التمور والمتغيرات المناخية من رياح وأمطار، وكذلك معرفة أوقات الحبل في السمك وموسمه وأنسب أوقات للصيد وغيره وكذلك هجرة وقدوم الطيور البرية والبحرية.
ويبدأ حساب الدرور مع ظهور نجم سهيل، فمنهم من يبدأ الحساب بتاريخ 15/8 أي نصف أغسطس ومنهم من يبدأ في 20/8 ومنهم من يبدأ بتاريخ 24/8. وتقسم السنة طبقاً لحسابات الدرور إلى 36 قسم إذا حسبناها بكل در يعني بالحساب العشري.
ومن خلال بحثنا عمن يعلم عن حسابات الدرور، فوجئنا بأن أغلب المواطنين من فئة الشباب لم يسمعوا عن هذا الحساب من قبل عدا عن أن يعلموا عنه شيئاً. فالفجوة التاريخية الحاصلة الآن تنبهنا إلى وجود فجوات حقيقية بين الشباب المواطن وعلاقتهم بالتراث. فالمشكلة هنا ليست عدم علمهم بحسابات الدرور، فذلك قد يكون أمر به فسحة من الارتباط بالتراث، ولكن المشكلة تكمن في (عدم رغبتهم) في تعلم تلك العادات من التراث الأصيل الذي يبني هوية المرء، ومعرفته بتاريخه المليء بروح البطولة والبناء ومكارم الأخلاق.
وهكذا أصبحت (حسابات الدرور) وما تعنيها من كلمات غامضة لدى العديد من شباب الخليج شيء من الماضي المنسي. وأصبحت الكلمات مجهولة في بيئة غريبة. وكلما سألت عنها شخصاً يلتفت مستغرباً ثم يطلب مني إعادة الكلمة كي يتأكد من سماعها بطريقة صحيحة! ثم تكون الإجابة المتوقعة (لا أعرف).
وغني عن القول، فإن تراثنا يتعرض لمحوه من الذاكرة بوفاة كبار السن، وبالطغيان الإعلامي القوي الذي يأتي من خارج الحدود لأغراض كثيرة، ومنها كتحصيل حاصل نسيان تراثنا وأصولنا، وبالتالي والذي نرجو ألا يحدث، فقدان هويتنا.
ساحة النقاش