يتألّم الإنسان كل يوم، ولا تكاد تخلو ساعة من يومه دون أن تتجلى فيها جدلية الألم والراحة، التي تُلازم ابن آدم منذ لحظة ولادته حتى لحظة رحيله. فمعظمنا يخشى الألم ويرغب في الراحة وهو يعلم أنها مؤقتة، أوليس الألم مؤقتاً أيضاً؟ كلما حكى لي أحدهم عن صراعاته في عمله، أُدرِكُ أن الألم الذي تجلبه لنا تلك الصراعات، هو من صنعنا نحن لا من صنع الحياة.
فالصراع حكاية، ولكل حكاية نهاية، والعاقل هو الذي يعرف كيف يلمّ شتات نفسه خلال الأزمات، ويخرج منها بأقل الخسائر. عندما يخرج أحدنا من مشكلة ما وينظر وراءه، يُدرك مدى جهله لأنه عذّب نفسه كثيراً وأشقاها خلال تلك المرحلة، رغم علمه بأن المشكلة ستنتهي حتماً. يقول الدلاي لاما: «لا تقلق، فإن لكل مشكلة طريقين، الأول أن يكون لها حل، ولذلك لا تقلق، والثاني ألا يكون لها حل، فلماذا تقلق؟».
إن الألم هو مرحلة تمر في حياة الإنسان، مثل المراحل الدراسية، ولكنها مرحلة متكررة، تكون غالباً من اختيار الإنسان نفسه. ولكن المشكلة ليست في الألم ذاته، بل في كيفية التعامل معه، فالإنسان هو الذي يقرر إلى أي مدى يسمح للألم بأن يتمكن من نفسه أو من جسده.
الألم هو حالة ذهنية تصل فيها النفس إلى الحضيض، حتى يشعر الإنسان بأنه منسحقٌ تحت كومة أفكار ومشاعر سلبية تكاد تنفجر في رأسه. ولكي يتخلص المرء من تلك الحالة، فإنه يحتاج إلى أن يحلم.. نعم، يحلم بمرحلة ما بعد الألم، حتى يستشعر الراحة التي ستحل عليه عند بلوغه تلك المرحلة. أُصبتُ مرّة بمغص حاد فاسودّت الدنيا في عيني، وبعد أن رحل، شعرت بأنني قد عدت إلى الحياة، وفي اليوم التالي باغتني نفس المغص، وعندما تذكرت كيف سيكون شعوري بعده، بدأ الألم بالانحسار تدريجياً. قد لا يفارقك الألم، ولكنك تستطيع أن تفارقه.
إن كثرة تفكيرنا في آلامنا تحيلها إلى واقع حتى وإن كانت وهماً، وتضخّمها في أعيننا رغم ضآلتها أحياناً. ألم تتساءل لماذا لا تموت القردة المصابة بمرض الإيدز بسرعة؟ الجواب هو؛ لأنها لا تعلم بأنها مريضة. إن من يستحوذ الألم على حياته يفقد الأمل، ومن فقد الأمل مات مرتين. يقول الطُغرائي:
أُعلل النفس بالآمال أَرقُبها *** ما أضيق العيش لولا فُسحة الأَمَلِ
الألم أستاذ فَذّ، يخبرنا عن أنفسنا ويكشف لنا ما بَطَن من أسرارها وما احتجب منها عنا. والألم يقرّبنا من معرفة الحقيقة، فمعظم الحقائق مؤلمة، إلا أننا نسعى للوصول إليها. الألم مدرسة العظماء، وهو الطريق المؤدية إلى الحكمة، وكلما زادت الطرقات وعورة، كلما كانت نهايتها أجمل.
لا يهم الطريق الذي تسلكه في رحلة الألم، ولكن الأهم هي الطريقة التي تتعامل بها معه. فهناك من يتجاهل الألم وهناك من يُنكره.. أن تتجاهل الألم يعني أنك مدركٌ له إلا أنك غير آبه به، تُواجهه بالمضي عنه وبعدم التوقف عنده، أما إنكاره فيعني أنك خائف منه، والخوف من الشيء يؤدي إلى تعظيمه.
الانشغال بالألم هو توقّفٌ مؤقَتٌ عن الحياة، وهو إقحامٌ ساذج للعجز في عقولنا، والعظماء فقط من يرون في الألم أكبر دافع للمقاومة، فالجروح الغائرة تجعل الفرسان أكثر بسالة، ولو لم يوجد الألم لما كانت للنصر قيمة.
الألم لا يدمّر الإنسان، بل الإنسان هو الذي يدمر نفسه عندما يختار الخضوع للألم، وأبشع صورة لذلك الخضوع، هي كثرة رثاء الإنسان لحاله وكثرة حديثه عن آلامه. الفاشلون يتحدثون عن آلامهم.
والناجحون يتحدثون عن آمالهم. الناجحون يرون في الألم نعمة عظيمة، فكلما تألّموا أكثر كلما تحكموا في حياتهم أكثر، وعندما يتغلب الإنسان على آلامه يفهم المغزى من حياته. يتألم الإنسان عندما يختزل الحياة بكل معانيها وحكاياتها وأيامها، في ألم عضوي أو نفسي، وينسى أن الحياة أكبر من الألم بكثير، بشرط أن يفهمها جيداً.
تُعتبر الوحدة أشد أنواع الألم قسوة، ولذلك يسعى الإنسان إلى إحاطة نفسه بأناس يحبهم ويحبونه، فصدور الأحباب خير دروع ضد الصدمات. الحب أفضل رُقْيَةٍ ضد الألم، والحُزنُ مع الجماعة فرحة.
عندما تخلو النفس من أهداف، فإنها تكون أكثر عرضة للآلام، فالأهداف السامية تشغل الإنسان بعظمتها عن كل ما دونها، وكلّما عَلَت همّة الإنسان، كلّما تضاءلت الآلام في عينيه.
الألم يجعلنا نحلم دائماً بغدٍ أفضل، ولولا الألم لتشابهت أيامنا، وعندما تتشابه أيامك فاعلم أنها قد قاربت على الانتهاء، والحياة دون أحلام هي حياة مؤلمة بلا شك. لو لم يوجد الألم لما وُجد الصبر، ولو لم يوجد الصبر لما وُجدت الفضيلة.
إن الذي يتألم كثيراً يرحَمُ أكثر. الألم أفضل محفّز على الاستمرار، إنه ليس العصا وليس الجزرة أيضاً، بل هو الرغبة في التخلص منهما. لكي تتغلب على الألم، عليك أن تختار ذكرياتك ولا تجعلها تختارك، فذكرياتنا تصنع آلامنا وأفراحنا. قد لا نستطيع التغلب على الذكريات، لكننا نستطيع التغلب على الآلام.