جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الدكتور : ثروت الخرباوي
المحاماة وسيف الجهالة
الناس تفنى والمعاني تبقى، والمباني تنتهي والأخلاق إلى بقاء، وحينما رأيت أن انتخابات نقابة المحامين تركت وراءها آفات، وانتهكت بسببها حرمات، لذلك آثرت أن أكتب دفاعا عن المحاماة التي أساء أصحابها إليها فأساء الناس فهمها، فلعنوا في سرائرهم المحاماة، رأى بعضهم أن المحامي مهما كان شرفه فهو لا يتورع عن مهاجمة القيم النبيلة ليحقق مصلحة من رأوه مجرما، قال الجاهلون عن المحامي إنه ذلك الذي يتلاعب بالكلمات، ويبحث عن ثغرات القانون ليساعد المجرم على الإفلات من العقاب، وياله من ظن بائس يفتقر إلى العدل والحق، هو مثل الظن الذي وقعت فيه مجموعة من جواري قصر الخديوي في نهايات القرن التاسع عشرعندما تزوجت إحداهن من المحامي النابه العبقري إبراهيم الهلباوي، فعندما قمن بزيارتها بعد زواجها بكين وأخذن يندبن حظها، فتعجبت العروس وقال لهن: ولم ذلك؟ قلن لها: لقد علمنا أن مهنة زوجك هي "احتراف الكذب والتزوير" فضحكت العروس وأفهمتهن أن المحاماة هي مهنة النبلاء.
وحين وقف الهلباوي مدعيا عاما في قضية دنشواي الشهيرة، كان يترافع بلسان حال الضباط الإنجليز، يشرح مشاعرهم وخوفهم إذ هجم عليهم الفلاحون في دنشواي، كانت المحكمة برئاسة بطرس غالي باشا، وكان الرأي العام كله ضد الانجليز، وأصبح الهلباوي بسبب مرافعته هذه عدوا للشعب، حتى أن حافظ إبراهيم كتب فيه شعرا قال فيه:
أنت جلادنا فلا تنسَ أنَّا **** قـــد لبسنا على يديك الحدادا
ولكن الهلباوي لم يحفل بالرأي العام، ولا بالهجوم الذي تعرض له، وأنَّى له أن يفعل وهو أحد الآباء المؤسسين للمحاماة في مصر في عهدها الحديث.
وبعد سنوات قليلة وقف الهلباوي مترافعا عن إبراهيم الورداني الذي اغتال بطرس باشا غالي الذي كان رئيسا لمحكمة دنشواي! وكانت هذه القضية من القضايا التي انحاز فيها الرأي العام للقاتل معتقدا أن دوافعه كانت وطنية، فسيطرت الدهشة على المجتمع المصري، أجلاد دنشواي يترافع عن مصري في قضية رأى الجمهور أنها قضية وطنية؟! ولكن من سيطرت عليهم الدهشة لم يعلموا أن المحاماة هي المهنة التي يتماهى فيها المحامي مع شخص موكله، فيكون لسان حاله، وترجمان مشاعره، ولكن إذا كان الناس قد جهلوا هذا فإن المحامين كانوا يعرفون ويعلمون ويألمون، لذلك حين أُنشأت نقابة المحامين عام 1912 انتخب المحامون بأغلبية ساحقة "الأستاذ" الهلباوي ليكون أول نقيبٍ للمحامين، وكأنهم يضمدون بهذا الموقع جراحه التي سببتها سكاكين الجهالة.
وحين يقف المحامي ليدافع عن المتهم، فإنه بالبداهة لا يدافع عن الجريمة، ولكنه يدافع عن ذلك الذي نُسبت إليه الجريمة، وهو حين يترافع عن موكله يبدو وكأنه يترافع عن نفسه، وأحيانا لا يستطيع المحامي أن يفصل نفسه أثناء المرافعة عن موكله، ويظهر ذلك جلياً عندما يندمج في مرافعته فيقول مثلاً: "إن التهمة التي وجهت إلىَّ تهمة باطلة" وهو يعنى بطبيعة الحال التهمة التي وجهت إلى موكله، هذا الاندماج في حقيقة الأمر هو ملمح من الملامح الرسالية في المحاماة، وأظن أن المحاماة في أمس الحاجة الآن إلى من يترافع عنها ويدافع عن رساليتها، تلك الرسالية التي يظنها الغافلون "صناعة الكذب والتلفيق والتزوير" ورغم أنني أجدني أتحدث عن بديهيات، إلا أنه عندما يسود الجهل تصبح البديهيات منكرة!
ويحكي لنا التاريخ الموقف الذي حدث مع المحامي الفرنسي الفذ "فرنسوا لاكارد" الذي وقف إبان الثورة الفرنسية مترافعا عن الملكة ماري انطوانيت، كانت الجماهير الغاضبة تقف خارج المحكمة في انتظار حكم الإعدام، كانت تتوق شوقا لفصل رقبتها بالمقصلة، وكانت الصيحات الغاضبة تصل إلى "لاكارد" ولكنه لم يهتم بالجماهير التي من الممكن أن تفتك به، وأخذ يفند الاتهامات ببراعة شديدة، فما كان من المدعي العام "فوكيه" إلا أن أمر بإلقاء القبض عليه بزعم أنه ببراعته هذه يكون قد وضع نفسه في صف أعداء الثورة!.
لذلك يحق لي أن أقول في غير مبالغة أن المحاماة هي "المهنة الرسالية" بحسب أن أصحابها يحملون على كاهلهم رسالة إنسانية هي رسالة النجدة، وهي رسالة تجعل صاحبها من أصحاب المروءة والشهامة والنخوة، هي رسالة أقوى من السيف، فحين أراد نابليون أن يجور على المحاماة قال: " طالما السيف الى جانبي، سيكون ضمن سلطاني قطع لسان كل محام يتجرأ على استخدامه ضد الحكومة"وقد علق المؤرخون فيما بعد على ذلك بقولهم: "لقد برهن الزمن أن لسان المحامي كان أكثر صلابة من سيف الجنرال" والمحامي حين يمارس مهنته يتعرض لأخطار شتى حتى أن المحامي الفرنسي الشهير "بيريه" قال وهو يترافع أمام محاكم الثورة الفرنسية "أتقدم إليكم بالحقيقة وبرأسي، تصرفوا في احدهما بعد أن تستمعوا للأخرى" وقد تعلمت من المحاماة أن المحامي يجب أن يدفع ولو عمره من أجل أن يهب لنجدة متهم استعان به، وهكذا هي المحاماة، وهكذا هو المحامي.