ثم يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير , وأسباب الانشراح , ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل:(فإذا فرغت فانصب . وإلى ربك فارغب). .

إن مع العسر يسرا . . فخذ في أسباب اليسر والتيسير . فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض , ومع شواغل الحياة . . إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد . . العبادة والتجرد والتطلع والتوجه . .(وإلى ربك فارغب). . إلى ربك وحده خاليا من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم . . إنه لا بد من الزاد للطريق . وهنا الزاد . ولا بد من العدة للجهاد . وهنا العدة . . وهنا ستجد يسرا مع كل عسر , وفرجا مع كل ضيق . . هذا هو الطريق !

وتتضمن هذه السورة العديد من الإشارات التربوية التي تساعد على توجيه السلوك. ومن ذلك أن آية (فإذا فرغت فانصب)تفتح للمسلم نافذة على جانب من فلسفة الإسلام ودستوره في الحياة. إنه جانب يتعلق بالحركة المستمرة والنشاط الذي لا ينقطع. فالآية تحمل إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون في حركة دؤوب تصاحبه في كل آونة وحين. إنه يتحرك عندما يعمل، ويتحرك عندما يرتاح. فعمله راحة وراحته عمل. نعم، إن حاجة الإنسان الفطرية إلى الراحة لا تنتفي، وترسيخا لهذا الحق الفطري فقد جعل الإسلام لأبداننا علينا حقا. ولكن الراحة المعنية هنا هي الراحة النشيطة الإيجابية التي يتحول بها وقت الفراغ من نعمة مغبونة إلى نعمة مضمونة، يستفيد منها صاحبها متعة بالراحة وأجرا أخرويا على تلك الراحة. فيكون له بدل الأجر أجران؛ أجر على الراحة مع أجره على العمل. والراحة المأجورة هي التي توضع في موضعها الصحيح، ولا تستثمر فيما يعود على صاحبها وعلى محيطه بالضرر. فهذه مرتبة. وهناك مرتبة أعلى منها وهي مرتبة من يرتاح بالعمل، ويجعل وقت راحته مقدمة لعمل آخر دون كلل أو ملل. الذي يعيش في هذه المرتبة هو الذي يعيش اليسر في العسر. وهو الذي يعيش حياته كاملة بلا فجوات.


ولي أن أختم الإبحار في تدبر وتذوق إيقاع البيان القرآني بسبحة في إيقاع سورة (الشرح) وهي سورة حبيبة إلى نفسي أسكن إليها حين تضيق النفس بما حولها أو مما حولها .
{ بسم الله الرحمن الرحيم * ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب }
سورة مكية يمتد فيها المعنى المنساب من سورة (الضحى) امتدادا كالمفسر للنعمة التي حث الله - عز وجل - نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - على أن يتحدث بها ، فما ذكر في سورة الشرح من أجل ما أفاض عليه من النعم .
والسورة شأنها شأن السور المكية تمنح القيم الصوتية فيها مكانة في تكوين صورة المعنى وتشكيلها،على تنوع هذه القيم الصوتية فيها ،ومن أبرز تلك القيم ما تواطأت عليه رؤوس الآيات من التناغم المتنوع تنوعا مرهونا بالجو الذي يشيع في كل مقطع من مقاطعها على قصرها وقلة عدد آياتها .مما يدل على أن تنوع الفواصل ليس معياره كثرة الآيات في السورة وامتداد سياقها بل مرده اقتضاء المعنى والغرض المنصوب له الخطاب .
انتهت فواصل الآيات الأربع الأولى بالكاف المسبوقة بالراء المفتوحة : ( صدرك – وزرك – ظهرك – ذكرك) ولو أنك أصغيت إلى وزن هذه الفواصل وجدت الفاصلة الأولى والثالثة ( صدرك – ظهرك ) على زنة ( فعلك) بفتح فسكون ففتح..والفاصلة الثانية والرابعة ( وزرك – ذكرك) على زنة ( فعلك) بكسر الفاء وسكون العين . وهذا ضرب من التنسيق لطيف طريف . هذا التوازي والتوازن والتساوي أيضا يتناغم مع المعنى الذي تضمنته الآيات كما سيتبين لك .

وإذا نظرت رأيت أن كل آية من هذه الأربع قد تعادلت في حركاتها وسكناتها ، وقد غلب على حركاتها صوت الفتحة ، ولم تأت الكسرة إلا في ثلاثة مواضع (وذرك – الذي- ذكرك) وهذا يبين لك أهمية الإتيان بقوله : ( لك) في الآية الأولى ، و(عنك) في الثانية، و(لك) في الرابعة ، ولو رفعت هذه الكلمات ، فقيل في غير القرآن الكريم : الم نشرح صدرك ووضعنا وزرك الذي انقض ظهرك ورفعنا ذكرك، لضاع التناسق النغمي ، واختل نسق الإيقاع الذي بنيت عليه الآيات .
وإذا نظرت ما بنيت عليه فواصل هذه الآيات الأربع رأيت ( الراء) المفتوحة ذات توقيع صوتي متميز : تحمل من صوت التكرار الكثير ، كما أنها صوت مجهور مفتوح ، ثم ما تضيفه حركة الفتح ، وهي نصف الألف من انطلاق ، فالفتح كما لا يخفى يمنح الجرس الصوتي انطلاقا يتلاءم مع حركة التكرير وتوقيعه في صوت (الراء) ليكون أكثر انطلاقا لخفة الفتحة ، وليتلاءم مع مخرج (الراء) فهو من طرف اللسان الأدنى إلى ظهره ومع ما فوق الثنايا حيث يتيح ذلك للنغم أن يتردد،ولكن هذا الانطلاق مقيد بصوت الكاف الساكنة .
يأتي(الكاف) وهي إلى أقصى اللسان أقرب مع ما لها من الهمس والشدة ، وما يعتريها من السكون بالوقف أحدث ضربا من التوقيع البديع المتنوع، فتكون نغمات صوت (الراء) أشبه بنغمات الحركة ، ونغمات صوت (الكاف) أشبه بالسكتة في التنغيم ، فيكاد يكون الكاف أشبه بقرار التنغيمات التي تتردد من صوت (الراء)
ساعد ذلك كله قصر الآيات .
كل هذا وفوقه تناسب دقيق وثيق بين عطاء صوت الكاف الساكن في الآيات الأربع الأولى وما تزخر به هذه الآيات من المعنى .
ألا ترى العبء المتثاقل في صوت (الكاف) والسكون متناسقا متناغما مع مضمون هذه الآيات الأربع حيث الصدر المفعم بالكمد والوزر المتثاقل على الكاهل والظهر الذي كاد يتهاوى تحت وطأته

الأيات الأربع تصورما كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الضيق والهم المتثاقل ، وما تجلت عليه الرحيمية الجليلة بالشرح ووضع الوز ورفع الذكر
تناسق بين صوت (الكاف) الساكن وقفا و الضيق الخانق والتوتر العارم المتردد في النفس من قبل الشرح كما يشير إليه صوت (الراء)من قبل (الكاف) فالسجع مصور لك ما كان في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل الشرح .
ثم تأتي بعد هذا فاصلتان اعتمدتا على التكرار ( يسرا) منتهيتان بصوت الراء المتلو بالألف لتقوم الألف بإطلاق حركة التردد والتكرار الذي كان محبوسا بدرجة ما بصوت الكاف الساكن في الفواصل الأربع السابقة ، وكأن في مجيء (الألف) هنا من بعد (الراء) تفريغا لما تبقى من شحنات التردد الصوتي الذي سيصاحب شحنات تردد داخلي لدى التالي إذا ما كان مؤديا حق الترتيل من انسجام جواني مع توقيعات الترتيل ، فالألف في ( يسرا ) حين تأتي وتتكرر في فاصلة آيتين قصيرتين تعتمدان على تكرير صوتي جملي تغييرا وتنويعا لتكرير صوتي حرفي ، وتسعى الألف في آخر الآيتين إلى استفراغه حتى تهيء المتلقى بهذا الاستفراغ إلى أن يستشرف عطاءات ما تبقى من السورة
الإيقاع في الآيتين الخامسة والسادسة يصور ما كان من إطلاق للضيق الذي كان يملأ نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يوحي به إطلاق صوت الألف من بعد (الراء) وكأن هذا يتواءم مع طبيعة المرحلة الثانية : مرحلة التكبليف بالرسالة حيث الهدي والتعهد الرباني بالرضا المطلق، فيفرغ الصدر مما كان قد أفعه من الهم في مبدأ المبعث ، وفي صوت (الألف) أيضا إشارة إلى امتداد اليسر في حياة الأمة ، وأنه لن ينقطع عنها ، وهذا يتآخى معه تكرير الآية ، فيقوم معناها ومغناها في القلب ، فلا يغفل عن هذا الوعد الرباني الكريم .

كل هذا إنما هو تهيئة لما هو آت في آخر السورة في الآية السابعة والثامنة : إذا فرغت من كل ما يعيقك من تخوف واضطراب من قبل الإرسال ، فانصب وشمر عن ساعدك وانصب قامتك للدعوة واتعب في تحقيق ما تصبو إليه واسكن إلى ربك الذي إليه المنتهى والمستقر والقرار كل القرار
هذه المعاني التي انتهت إليها السورة يتجاوب معها ويتناغى صوت (الباء) الساكن في فاصلةالآية السابعة والثامنة : انصب – ارغب
(الباء) صوت شفوي هو آخر مراحل الرحلة الصوتية ، وهذا السكون يتواءم مع صوت (الباء ) القوي المجهور، فإن في سكون الطمأنينة قوة ، وفي بلوغ الغاية سكينة .
هذا الذي رأيت في تآخي وتناغي القيم الصوتية ممثلا في فواصل السورة مع المعنى والغرض المساق له الخطاب يزيده ما يأتيك إذا ما بسطت النظر ، ومددت الإنصات إلى إيقاع مباني الكلمات ومعاني الآيات .
كيف إذا ما تحسست وقع إيقاع ذلك الاستفهام المستفتح به البيان ، والحامل إلى قلب المخاطب فيضا من اليقين بتحقيق الأمل ، ونشر النور الشارح للصدور.
صوت الهمزة في (ألم) الداخل على حرف النفي المحدث في الفعل جزما إعرابيا وفي القلب جزما إيمانيا بتحقيق الأمل المتآخي مع الوعد الإلهي في { ولسوف يعطيك ربك فترضى } (الضحى:5)هذا التفاعل الدلالي بين مدلول (الهمزة) ومدلول(لم) يصوره تناغ بين صوت (الهمزة ) بكل ما يحمله من قوة وجهارة ، وصوت الحسم والغنة في (لم).
وكيف إذا ما تحسست وقع إيقاع صوت التفشي في(شين):( نشرح) مع صفيرالصاد في (صدرك) مع تكرار(الراء) في ( نشرح – صدرك).

كل هذا تجده في الجملة المستفتح بها البيان المستفتح أبواب الأمل والفرج والطمأنينة والسكينة في قلب المخاطب ، وقلب كل تال لتلك السورة مصغيا بقلبه إلى إيقاع مغانيها الروحية ومعانيهاالإيمانية لينتهي به سبحه في فضاء السورة إلى الاستجابة إلى الحض الرباني للمخاطب بأن تكون رغبته إلى ربه - عز وجل - وحده { وإلى ربك فارغب } ، فيتصاعد في درجات العبودية لله رب العالمين
لهذا فإني أفزع إلى هذه السورة وإلى سورة الضحى في صلاتي حين تضيق النفس فأجد في ترتيلهما شيئا مما يعيد النفس إلى سكينتها وأنسها بخالقها ورازقها - عز وجل - .
والله الهادي إلى الصراط المستقيم

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 214 مشاهدة
نشرت فى 9 أغسطس 2011 بواسطة nezarramadan

ساحة النقاش

نزار رمضان حسن

nezarramadan
مدرب تنمية بشرية بالمملكة العربية السعودية / مدرب معتمد في الكورت من معهد ديبونو بالأردن / متخصص رعاية موهوبين وهندسة التفكير/ مستشار في حل المشكلات الأسرية والشبابية / معهد اعداد دعاة / عضو شبكة المدربين العرب /مدرب في نظرية سكامبر/مدرب في نظرية تريزمن معهد ديبونو بالأردن / دبلوم برمجة لغوية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

365,973