بعد أسبوع واحد من انقلاب عبد الفتاح السيسي على رئيسه المنتخب، واستيلائه على الحكم بالقوة، قلت، من القاهرة، إننا عدنا إلى مرحلة "الجيش مصدر السلطات، وليس الشعب"، تعليقاً على الاقتحام العنيف من المؤسسة العسكرية للسياسة، "حيث عيّنت رئيسًا مؤقتًا وأعطته صلاحيات مطلقة، ووضعت خارطة طريق فرضتها على الجميع".
إذن، ذبح العسكر السياسة، مجدّداً، فهل نلوم الجزّار وحده، أم نلوم، قبله، أولئك التجار الذين قيدوا السياسة بالحبال، ومشوا بها لتسليمها إلى الجزار، بحجة حماية "مدنية الدولة".
تدفعك الأمور، كل يوم، إلى استعادة "الحكايات الأيسوبية" التي تسكن كتب الأساطير، منسوبة للحكيم اليوناني، صاحب حكاية "الجزار والتجار والذبائح"، فلا يمكن أن يمر أمامك مشهد الاحتفالات بوصول جنرال عسكري جديد إلى موقع وزاري جديد "وزارة التموين"، من دون أن تتذكّر نضال القوى "المدنية الليبرالية الديمقراطية" المزيفة ضد بقاء وزير التموين الشاب، باسم عودة، في منصبه، والتهمة أنه ناجح وكفؤ، ووجوده في مكانه يدعم تجربة حكم الرئيس المنتخب، بل ويشترط رموزهم إقالة باسم عودة، قبل أي حوار سياسي مع الرئيس.
تدهشك حقاً محاولة بعض الذين اقتادوا السياسة، بمفهومها المدني الصريح، إلى مذبح العسكري، إظهار دهشتهم واستغرابهم وامتعاضهم من نتائج تمرير سكين "العسكرة" على رقبة البلاد والعباد، فإذا كنت أنت سبباً ومقدمة، بكامل وعيك واختيارك، فكيف تدّعي أنك ضد النتائج الكارثية لمقدماتك التي ناضلت لفرضها؟
منذ سقراط وأفلاطون، قبل بداية التقويم الميلادي بخمسة قرون على الأقل، والفكر الإنساني البسيط أدرك أن طغيان طبقة الجنود الذين جبلوا على الحماسة والجوع الغريزي للمجد الشخصي، على السياسة فيه خراب للدول والمجتمعات، ومع تطور الفكر السياسي والاجتماعي، وبالتجارب المعاشة، بات محسوماً، بالبداهة، أن الجيش في أي مجتمع بشري سليم هو جيش الدولة، وليس جيش السلطة، لا يتدخل في الصراعات السياسية، ولا ينحاز لفريق أو تيار، بمعنى أنه ينبغي أن يكون حيادياً، حياد الدولة التي يختلف معناها تماماً عن السلطة، ومجال عمله هو حماية الأوطان من الخطر القادم من الخارج.
لكنه، ومن أسف، أن رموزاً سياسية مدنية وليبرالية هي التي اخترعت لنا وهماً ندفع ثمنه الآن، يقول إن الجيش حامي الاستقرار السياسي، بينما تجارب التاريخ تنبئنا بأن حضور، أو استحضار الجيش الصراع السياسي، هو ما ينسف أي استقرار سياسي، ويمكنك الرجوع إلى تاريخ إيطاليا، مثلاً، في الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينات، حيث سقطت عشرات الحكومات المتعاقبة، في إطار الصراع السياسي، تقريباً بمعدل حكومة كل عام. وعلى الرغم من ذلك، لم نسمع أن الجيش الإيطالي تدخل، ولم نعرف أن الدولة الإيطالية انهارت وسقطت، كما يحاول فاشيست السيسي تفزيع المصريين الآن بشبح سقوط الدولة، إن ودعت الفاشية العسكرية.
في الدول المحترمة، يكون الجيش ملكية عامة للدولة، بمعنى الأمة لا السلطة، يحميها ويحافظ على كيانها من الخطر الخارجي، لا أن يتحارب مع المجتمع الداخلي، والنتيجة أن مصر تنحدر الآن من حالة "الجيش الذي هو أداة في يد السلطة" إلى وضعية "السلطة التي هي أداة في يد الجيش"، إذ بات هو منتج السلطة، ومستهلكها، ومحتكرها، وموزعها، يمنح المناصب ويمنعها، ويعطيها ويسحبها، يرفع أشخاصاً، ثم يهوي بهم إلى الحضيض. وفي قصة الوزير الفندقي النموذج الصارخ، وفي ذلك منتهى الخطورة على الجيش وعلى الدولة معاً.
وصلنا إلى مرحلةٍ من البؤس، صارت معها النكتة "أو القلشة" بلغة السوشيال ميديا، تتحوّل إلى واقعٍ وحقيقة، إذ لم تمر أيام على سخرية الجماهير "التي تعدّها السلطة افتراضية"، باقتراح وزير تموين عسكري، حتى كان صاحب السلطات الوحيد يعين جنرالاً جديداً في الموقع، ومع تواصل المسخرة في شؤون الحكم، لا ينبغي لأحدٍ أن يعتبر السخرية من المسخرة عيباً أو نقيصة وطنية.
أكرّر هنا أن الذي يهين العسكرية المصرية حقاً هو الذي يجرّدها من ملابس المحاربين، ويلبسها أثواب التجار والباعة الجائلين، ولا تصدّق أن الذين يغضبهم هتاف "يسقط حكم العسكر" يحبون مصر وجيشها، بل هم طامعون في عطايا جنرالاته، خائفون من غضبهم، بينما لو أبحرت في وجدان الذين يردّدون هذا الهتاف، منذ سالت دماء الشعب بفعل مجازر الجنرالات كارهي الثورة، ستجدهم الأشد احتراماً وفهماً لمفهوم الجيش في الدول المحترمة، والأكثر حرصاً على حماية الجندية من عبث جنرالات السلطة الذين ورّطوا الجيش في معارك مع الشعب.
ويا ويل مصر من استمرار واقعٍ ينتج أجيالاً متعدّدة، كل خبرتها بالجيش أنه القوة الباطشة التي تطارد المتظاهرين (أعداء الوطن) في الشوارع، أو توزع لحوم السيسي وبقولياته وزيوته على الناس، أمام كاميرات التلفزيون، أو تنافس القطاعين الخاص والعام في الصفقات والمقاولات.