الشوارع التي لا تسمح باحتضان مسيرة تحرق العلم الصهيوني، وتهتف من أجل غزة، لا تستطيع أن تستوعب أولادها المخلصين، الذين يغنون للحرية وللعدل وللكرامة.. للثورة.
الشوارع التي لا تتحمل "المسحراتي" لم يعد فيها متسع لأحفاد فؤاد حداد وصلاح جاهين.
لم يعد الشارع للثوار وللشعراء والحالمين الصغار، بعد أن استعمره البوم، وحوّله إلى خرابةٍ، يرتع فيها الشبيحة والبلطجية، فكان طبيعياً أن تكون الزنزانة مستقراً لكل حالمٍ بمستقبلٍ يليق بالبشر، ويتحول أعضاء فريق "أطفال شوارع" من فنانين ومبدعين إلى أرقام في سلسلة الحبس والاعتقال.
ليس مسموحاً لك بأن تغني للوطن وللإنسان، ليس مقبولاً أن تكون إنساناً من الأساس. تلك هي الرسالة. السجن مصير كل من ينشد الحرية، مغنياً صغيراً كان، أم محامياً يبحث عن قبس من العدل في بحر الظلمات. كلكم إلى السجون والقبور، أيها الأوغاد، المطالبون بالكرامة والحرية.
كلكم إلى الجحيم، أيها المارقون المعترضون على بيع سيادة الوطن على أرضه وقراره. سنريكم العذاب حتى تكفوا عن الهتاف، وعن الأذان وقرع الأجراس. سنجعلكم عبرةً لكل من يحتج على أقانيم الخراب. سنعلن الحرب على المجاز وعلى التجريد، وعلى كل أشكال البلاغة، وسنقطع ألسنة الذين يذكرونكم، ونقتلع كل عينٍ تدمع على وطن خبأتموه، في أغنيةٍ أو قصيدة، من التتار.
سنسلخ جلد الوطن، ونبيع لمن يصنع منه لافتاتٍ وملصقاتٍ للدعاية لزعيم الليكود في انتخابات الآباء الروحيين للانقلاب، ونشعل الحرائق في كل مكان، فلا يتذكّركم أحد.
غنيتم للفقراء والمطحونين، حسناً، سنحرق بيوت الفقراء وورشهم الصغيرة، ونعلق الجثث المتفحمة على أبواب زنازينكم. سنبيد الفقراء، لكي لا يكون هناك فقر، ونسحق المظلومين، فلا يبقى على قيد الحياة مظلوم تغنون له. سننسف الحدائق ونقيم سجوناً، ونزرع شوارعكم قيوداً حديدية وماكينات تعذيب.
*** لا تنفصل عمليات حرق القاهرة، في العتبة والغورية وعداهما من المناطق التاريخية، عن محاولات حرق نقابة الصحافيين، وإنشاء "نقابةٍ مسخ" على أنقاضها، في خطٍّ موازٍ مع عملية التمكين لإبادة "مصري يناير"، وإحلال "مصري يونيو" مكانه، بزراعة وجدانٍ آخر، تحرّك صاحبه غريزتا الخوف والطمع. ولذلك، يصبح غناء "أطفال شوارع" هدفاً لأسلحتهم الثقيلة، وتنشط عمليات الهدم والإزالة في كل مفاصل الدولة، من القضاء إلى الإعلام إلى التعليم. لا يسمحون بالبقاء إلا لمن يعبد أصنامهم، ويعتنق أساطيرهم، مطلقين العنان لمروجي الدجل والخرافة، مثل ذلك الإعلامي الهزيل الذي انفرد بوثائق مسؤولية "الإخوان" عن سقوط الأندلس، وتفاصيل أسر قائد الأسطول الأميركي، ليقدم أحدث روائعه، على لسان باحثٍ عثر على اسم عبد الفتاح السيسي في القرآن الكريم والتوراة تؤكد زوال إسرائيل على يد عبد الفتاح السيسي، استناداً إلى أن عدد حروف اسم السيسي مذكور في سورة الإسراء.
هدم السيسي بناء ديمقراطياً، سليماً من الناحية القانونية والإجرائية، وبنى فوق أنقاضه هذه السلطة القبيحة الشائهة، بمساعدة الغير وتمويله، هذا الـ"غير" الذي يفضل هذا اللون من الواجهات، غير الحضارية، لدولة صاحبة حضارة عريقة.
على مستوى الأداء والممارسة، كل ما يفعله السيسي عشوائي، يشيد قصوراً من الوهم، ويحفر قنوات من الأكاذيب، يتحدّث عن القوة، وهو يتسوّل بضعفه وهشاشته، ويردّد كلاماً عن التنمية، وهو يهدم ما تبقى من ملامح دولة، وصفها هو شخصيا بأنها "شبه دولة".
تضرب العشوائية بجذورها في مجال حركته السياسية، فلا مبادئ مستقرّة، ولا قيم محترمة، تحكم حركته، هو مع "أهل الأرز" ما دام متدفقا، وضدهم، إذا توقف الضخ، مع السعودية وضدّها، ومع إيران وضدّها، يومئ لأتباعه بمهاجمة أميركا التي ترتعد خوفاً من قوته، ثم فجأةً يدلي بأحاديث، يعلن فيها أنه لا يستطيع البعد عن واشنطن، حتى لو أعطته واشنطن ظهرها، غير أنه وللإنصاف، لديه ثابت وحيد لا يحيد عنه، هو الحفاظ على الرضا الصهيوني، وكأن شعاره بات "ماذا يفيد الجنرال إذا كسب العالم وخسر إسرائيل".
دبلوماسيته تكذب كما تتنفس، وليس آخر هذه الأكاذيب وقوف وزير خارجيته أمام الصحافة الأميركية ليردّد روايةً مغلوطةً ومزيفةً عن اقتحام نقابة الصحافيين، واختطاف اثنين من محرّريها المعتصمين، غير أنهم لا يكذبون بحرفية جوبلز والآلة النازية، وإنما هم عشوائيون في أكاذيبهم أيضاً.
*** أن الأرض في عهد الانقلابي عبد الفتاح السيسي فقدت قدسيتها، وصارت الأرض لا تساوي أكثر من فرصة واعدة لاستثمار سياحي، فتهدى وتُباع، ما دام في ذلك دعم لفرص بقاء الحاكم، وصار بمقدور أفيخاي أدرعي أن يتحرّك على الرحب والسعة على شواطئ سيناء، والساحل الشمالي، فيما تشوي حرارة الزنازين جلود ثوار الأرض.
*** من يحكم في القاهرة الآن ليس خصماً لدولة الاحتلال الصهيوني، بل يسلك، في أحيان كثيرة، وكأنه أكثر تحمساً للمصالح الإسرائيلية، على نحو يُحرج الإسرائيليين أنفسهم وقبل أكثر من عامين، كتبت أن نظاماً أقيمت الأفراح في تل أبيب ابتهاجاً بوصوله إلى السلطة انقلاباً لا يستقيم، منطقاً ولا تاريخاً، أن يكون طرفاً في إنجاز مصالحة فلسطينية، هي مصلحة قومية ضرورية بالأساس.
حين يعرض السيسي خدماته للعب دور الوسيط، وليس الرائد، في لعبة المصالحة الفصائلية الفلسطينية، فالثابت أن فصائل المقاومة تدرك أن هذا آخر شخص يمكن أن يهتم بمصلحةٍ فلسطينية، أو عربية، فضلاً عن أنه لا يجتهد، ولا يأتي بشيءٍ من عندياته، بل يردّد ما يُملى عليه، مع ملاحظة أن هذا النشاط المفاجئ في تدفئة "العملية" يأتي بعد الإعلان عن حضور وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى القاهرة الأربعاء.
*** لا يخاطب السيسي شعباً فلسطينياً، أو عربياً، هو لا يعترف بكيان اسمه "الشعب" مثل أي مستبد، بل وجهته وقبلته، دائماً، شعب الاحتلال الإسرائيلي. ولذلك، يطلب من الحكومة الإسرائيلية أن تذيع كلامه للإسرائيليين، مرة واثنتين وثلاثاً، تماماً كما كان أنور السادات يفعل ويقول، باحثاً عن النجومية الزائفة لدى جمهور الاحتلال، غير أن الكارثي، هنا، أن سلام السيسي أخطر من سلام السادات، فالجنرال الصغير لا يمانع في اللهو بالخرائط، والعبث في الحدود التاريخية، بحيث لا يصبح مستبعداً أن تدخل أراضي سيناء لعبة "البوكر" الجديدة التي يريد أن يكون "الديلر" الوحيد لها، ولا يمكن إهمال موضوع جزيرتي تيران وصنافير، في هذا الصدد، إذ تؤسس هذه الخطوة المجنونة إلى عقيدةٍ جديدةٍ حيال مفهوم الأرض، بما ينزع عنها القدسية، ويحولها إلى سلعةٍ قابلة للتداول، والتبادل.
*** يريد عبد الفتاح السيسي "سلاماً أكثر دفئاً" مع إسرائيل، يطرح نفسه في الأسواق، عبوة أقل كلفة وأرخص سعراً من أنور السادات، معلناً رغبته في أن يكون سمساراً لتوسيع "عملية السلام" وتسخينها، بحيث تشمل الجميع.
"لا نسعى إلى أي دور ريادي"، هكذا يلخص السيسي الموضوع كله، هو فقط وسيط للعملية، لننتقل من "سلام الشجعان"، بتعبير ياسر عرفات، إلى "سلام الغلمان" بمنطق السيسي.
الدوافع هي نفسها التي وضعت أنور السادات في طائرة إلى "الكنيست ذاته"، وضع داخلي مأزوم، واحتقان متصاعد للغضب، وغليان في الصدور، كل ذلك جعله يبحث عن طوق نجاةٍ خارج الحدود، مرتمياً في الحضن الإسرائيلي الدافئ.
*** منذ البداية، يغيّب نظام عبد الفتاح السيسي العلم والعقل والمنطق، والحجة أنه يريد أن يقفز، إلى أعلى وإلى الأمام، من دون خطة، وفي ظل غياب كامل للكفاءة والمهارة.. كم مرة سمعت منه هراءً سخيفاً حين يخبره الاختصاصيون، في أي مشروع، أن فترة التنفيذ تحتاج سنوات، فيستجمع كل مهاراته في "الفهلوة"، ويضم قبضة يده، ويقول أريد التنفيذ في شهور؟ كان المنطق نفسه حاضراً في "حفلة أسيوط" داخل الخيمة الصهيونية، المغطاة بألوان العلم الإسرائيلي، حين تقمّص شخصية أنور السادات، وتحدث كرجل للحرب وللسلام، على الرغم من أنه كان طفلاً، بليدا دراسيا بالطبع، لم يتجاوز عامه الثاني عشر، إبّان نكسة 1967 التي يتحدّث عنها باعتباره كان شاهدا عليها، وفي أكتوبر 1973 لم يكن قد أنهى عامه الأول في الدراسة في الكلية الحربية.. ومع ذلك، يصفق المصفقون، ويهلل المهللون لبطل الحرب والسلام، الوهمي، ويمعن هو في تمثيل الدور. كان يتحدث باعتباره جاء بالجديد الذي سيقلب موازين التاريخ والجغرافيا، ثم نكتشف أن المسرحية كلها، تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً، صناعة إسرائيلية، تحت إشراف توني بلير، لمصلحة بنيامين نتنياهو، المحاصر بأزماتٍ سياسية، في الداخل الإسرائيلي. ثم يصحو الجميع على استعادة نتنياهو، مجرم الحرب العريق، ليبرمان وزيراً للحرب مرة أخرى، في اللحظة التي يبيع فيها السيسي بضاعة السلام، من داخل هذا الشادر الفقير في أسيوط، ليتضح أن الرجل مشغول بالمصالحة بين القوى السياسية الإسرائيلية أكثر من انشغاله بموضوع المصالحة الفلسطينية.
*** لم يكذب الجنرال البائس وهو يردد، غير مرة، قصة "أهل الشر" الذين لا يريدون لمصر أن تتعافى وتتحرك وتنطلق. المؤامرة كانت حاضرةً في ملف مياه النيل وسد النهضة، تقودها أطراف شتى، بذلت جهداً خرافياً لتعطيش مصر وتركيعها، وإصابة نيلها العفي بالشحوب والهزال، حتى يكاد لا يستطيع الركض في مجراه، متسلقاً خارطة مصر من الجنوب إلى شمال الدلتا. المؤامرة متحققة في مأساة سيناء، الأرض والشعب، والتي تتمدّد على المائدة، ذبيحة مشوية، على نار الحرب على الإرهاب، بعد أن عصف بها الجنون من الجهتين، تنظيم الدولة، ودولة التنظيم، في ظل حفاوةٍ صهيونيةٍ بالحريق، ورعايةٍ كاملة له، بتنا نسمع ونقرأ معها عن أهوال جحيم التهجير القسري، والقتل بالجملة والمفرد، بقصف الطائرات، وتوحش الجرافات والمدرعات.
*** المؤامرة واضحة في كارثة "تصحير" مستقبل مصر الاجتماعي، من خلال عمليات "ترانسفير" لا تتوقف، تقذف بثروة مصر الشبابية والعلمية، إلى عتمة الزنازين، وظلام القبور. أيهما أقرب وأسرع، كما جرى في ما عرفت بقضية "حرق ترام النزهة"، والتي نال فيها واحدٌ من علماء الطب الأفذاذ عقوبتين، السجن والقتل بالإهمال الطبي، ثم بعد استشهاده بعامين، تأتي محكمة النقض، وتصدر حكمها ببراءته، وجميع المتهمين في القضية، من دون أن يهتز للعدالة رمش، أو يستشعر القضاء الخجل من استخدامه على هذا النحو المشين، من مؤسسة الأمن والنظام السياسي.
*** المؤامرة ثابتة بالأفعال والأقوال، في موضوع الاحتلال الصهيوني الكامل لرأس النظام ومصادرة قراره السياسي، وحركته الدبلوماسية، حتى وصلنا إلى حالة أنه لو امتنعت إسرائيل عن التصويت على قرار أممي لمصلحة إسرائيل سوف تناضل "قاهرة السيسي" لإقناع الجميع بالتصويت لصالح "تل أبيب".
المؤامرة أكثر وضوحاً مع انتشار أعضاء تنظيم "الخبراء الاستراتيجيين" في الصحف والفضائيات، يفترسون ما تبقى من سلامة مصر العقلية واتزانها النفسي، مقدمين وجهاً مجنوناً مخيفاً لها، في كل محنةٍ تتعرّض لها، من كوارث الطيران، إلى فواجع الاكتشافات والاختراعات العلمية، حتى بدا الوطن وكأنه غابة مزروعة بأشجار الجنون والدجل والخرافة.
*** المؤامرة على مصر تتجلى في اجتثاث كل أشجار الكفاءة، وإعدام كل بذور التفوق والنبوغ، من أجل التوسع في محاصيل الرداءة والبلادة، وغرس ثقافة قلة القيمة، ورفع شعار "الطاعة قبل النجاعة" ومطاردة كل من تسوّل له نفسه ارتكاب خطيئة الفهم والمناقشة والاختلاف والتمرّد على نصوص "تلمود 30 يونيو"، واعتبار كل انتقاد خيانة للوطن، أو على الأقل شماتة فيه. نعم هي مؤامرة على مصر..وهل هناك أكثر تآمراً على مصر من أن يعبر نظامها السياسي عن ارتياحه بأن ترجح كفة احتمالات العمل الإرهابي في إسقاط طائرة الشركة المصرية؟ هل قابلت حكومة تكرّس وقتها كله لكي تثبت للعالم أنها حكومة دولة غير آمنة، يضربها الإرهاب جواً وبحراً وأرضاً، فتقول هل من مزيد، لمواصلة لعبة الابتزاز، وكأنها تحذّر سكان العالم من زيارتها، وتكتب شهادة وفاة رسمية للنشاط السياحي بها؟
*** هذا النظام اعتمد سياسة العقاب الجماعي، والاستباحة الكاملة لأسر معارضيه وعائلاتهم، وحرض مواطنيه الشرفاء عليها، فأحرقوا بيوتاً ومؤسساتٍ لكل من لا ترضى عنهم السلطة.
لقد ابتذلوا مفهوم الشرف، حين جعلوا وصف "الشريف" حكراً على من يطرب لجرائمهم، ويصفق لها، ويشارك فيها، بالسواعد، وإن لم يستطع، فعن طريق هز الأكتاف والأرداف، على إيقاعات "تسلم الأيادي"، الأمر الذي أفضى إلى ابتذال مفهوم الدفاع عن الشرف، بالتبعية، ليتحول إلى هذه الحالة الهمجية البهيمية التي تناقلتها الأخبار من صعيد مصر.
كان إدخال التعرية، في قاموس الشرف المزيّف، على يد هذه السلطة، حين أطلقت جنودها "الأشدّاء" على تلك المتظاهرة في ميدان التحرير، إبّان أحداث مجلس الوزراء في ديسمبر/ كانون الأول 2011، لكي يعرّوها ويدهسوها بأحذيتهم الثقيلة، ثم تأتي حلقاتٌ أخرى من العري، في حماية السلطة، وبتشجيعٍ منها، حين يطلقون مذيعاً تلفزيونياً، بدرجة مخبر، للنهش في أعراض الثوار والسياسيين، على الهواء مباشرةً، بعد أن منحوه كل ما لديهم من تسجيلاتٍ وصور عن الحياة الخاصة، لكل من يعارضهم.
هو سياق من العري الأخلاقي العام، بدأ بتشجيع الوضاعة الإنسانية واستحسانها، من خلال ترقية السفلة الذين تحدثوا عن "نكاح الجهاد" في اعتصام رابعة العدوية، ومكافأة "الشرفاء" الذين انتهكوا كل الحرمات الإنسانية، حتى حرمة الموت، وامتد إلى الرقص احتفالاً بنزع السيادة عن قطعتين من الشرف الوطني، تيران وصنافير، وفي تلك السيدة المسنّة التي جاؤوا بها من بين أنياب الفقر والحاجة لترقص، مثل طائرٍ ذبيح، وسط فريقٍ من رافعي الأصابع، بإشاراتٍ بذيئة، في وجه متظاهرين يدافعون عن تراب الوطن المباع في سوق النخاسة السياسية.
كرّست الدولة التي ولدت، سفاحاً، في صيف 2013 معظم طاقتها لتصنيع وإنتاج "المواطن الوغد"، ورعته واهتمت به، وفتحت له الباب واسعاً لاستعمال كل مخزون القبح الإنساني المزروع داخله، في محطاتٍ عديدة، حتى تألق في التعبير عن إتلاف الفطرة الإنسانية، في واقعة السيدة الصعيدية العجوز.
ليس مسموحاً هنا بالتفكير في حال حاكمٍ لا يترك مناسبةً إلا ويتحدّث فيها عن تآكل الدولة، حتى توشك أن تصبح "شبه دولة" منهارة اقتصاديا، إلى درجة أنها تبيع المستقبل في سوق نخاسة القروض التعجيزية، أو النقاش حول معقولية إن يبدّد مواردها المالية في صفقات أسلحة لصالح نظام يقتات على طرح نفسه سمسار سلام على الطريقة الصهيونية، حتى وإن كان آخرون هم الذين دفعوا ثمن الصفقة.
هم يريدونها حفلة "هلوسة قومية"، تدور فيها الرؤوس، وتغيب العقول عن الوعي، على إيقاعات "الوطنية الملوثة"، بالتزامن مع اصطناع مهرجان الدجل التلفزيوني الكاذب عن نقل سكان العشوائيات إلى "جنة الجنرال".
*** يقول لكم أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم جيش الاحتلال الصهيوني، "لطّختم اسم الدين الحنيف بالإرهاب"، ثم يسألكم "منذ متى كان شهر رمضان مصحوباً بالقتل والإرهاب؟".
الآن، أنت بصدد تطوّر مذهل، يتمثل في أن الناطق بلسان الإرهاب الإسرائيلي ينتقل من مرحلة الاستظراف على معتنقي "الدين الحنيف" إلى تنصيب نفسه متحدّثاً باسم الدين الإسلامي، مزاحماً علي جمعة وخالد الجندي، وهو يعلق على العملية الفدائية، البطولية، التي نفّذها شابان فلسطينيان في متجر قريبٍ من مقر وزارة الحرب الإسرائيلية، وأسفرت عن أربعة قتلى، وإصاباتٍ عديدة
.يثرثر هذا المستعمر الوضيع عما يجب، ولا يجب في رمضان، الشهر الذي ارتبط في الذاكرة بالانتصار على غطرسة العدو الصهيوني في حرب 1973، ثم يتسافل أكثر وأكثر، حين يصف المقاومين بالإرهابيين السفلة.. وإذا كانت العملية قد أوجعته، كونها استهدفت عسكريين صهاينة، فما الذي يجعل إعلاميةً مصريةً، مثل بثينة كامل، تقاسمه الرأي والرؤية، وتعتبر المقاومة إجراماً؟
"أفيخاي" المتلطخ بالجهل والإجرام لن يعدم أن يجد من يعلّمه أن كل ما يرضي إسرائيل هو الإرهاب بعينه، وأن كل ما يؤلمها هو البطولة والمقاومة الباسلة، المشروعة، لكنه في احتياج أكثر لمن يُفهمه أنه، بهذا الخطاب، يُحرج أصدقاءه وأحباءه من مشايخ الإجرام والقتل في القاهرة، إذ إن الإرهاب الفعلي، والتلطيخ الحقيقي للدين الحنيف به، وقع في رمضان قبل ثلاث سنوات، على أيدي السفاحين الذين تتبناهم إسرائيل دبلوماسياً واستخبارياً، حين قتلوا مئات من سكان البلاد الأصليين، في أحداث الحرس الجمهوري، ثم عند النصب التذكاري للجندي المجهول، ثم أكملوا حفلهم الدموي، المدعوم صهيونياً في عيد الفطر المبارك، في ظل تصفيق حاد من عصابات الإجرام الإسرائيلي، التي اعتبرت صعود القتلة إلى حكم مصر بمثابة انتصار للصهاينة.
.يثرثر هذا المستعمر الوضيع عما يجب، ولا يجب في رمضان، الشهر الذي ارتبط في الذاكرة بالانتصار على غطرسة العدو الصهيوني في حرب 1973، ثم يتسافل أكثر وأكثر، حين يصف المقاومين بالإرهابيين السفلة.. وإذا كانت العملية قد أوجعته، كونها استهدفت عسكريين صهاينة، فما الذي يجعل إعلاميةً مصريةً، مثل بثينة كامل، تقاسمه الرأي والرؤية، وتعتبر المقاومة إجراماً؟
"أفيخاي" المتلطخ بالجهل والإجرام لن يعدم أن يجد من يعلّمه أن كل ما يرضي إسرائيل هو الإرهاب بعينه، وأن كل ما يؤلمها هو البطولة والمقاومة الباسلة، المشروعة، لكنه في احتياج أكثر لمن يُفهمه أنه، بهذا الخطاب، يُحرج أصدقاءه وأحباءه من مشايخ الإجرام والقتل في القاهرة، إذ إن الإرهاب الفعلي، والتلطيخ الحقيقي للدين الحنيف به، وقع في رمضان قبل ثلاث سنوات، على أيدي السفاحين الذين تتبناهم إسرائيل دبلوماسياً واستخبارياً، حين قتلوا مئات من سكان البلاد الأصليين، في أحداث الحرس الجمهوري، ثم عند النصب التذكاري للجندي المجهول، ثم أكملوا حفلهم الدموي، المدعوم صهيونياً في عيد الفطر المبارك، في ظل تصفيق حاد من عصابات الإجرام الإسرائيلي، التي اعتبرت صعود القتلة إلى حكم مصر بمثابة انتصار للصهاينة.
*** في شهر رمضان، من العام الماضي، كانت مصر الرسمية مشغولةً بالحرب على الشيخ محمد جبريل، وتأديبه، بعد أن ارتكب خطيئة الدعاء على الظالمين، والفاسدين وسافكي الدماء، وأعداء الأمة، حيث تم منعه من السفر، وإحالته إلى النيابة، ليأتي رمضان هذا العام وجبريل في المنفى، بينما أفيخاي في قلب المشهد الرمضاني مهنئاً الشعب بالشهر المبارك، مؤديا الواجب، بدلاً من عبد الفتاح السيسي الذي كان مشغولاً بمخاطبة شعب الاحتلال الإسرائيلي.
هل لاحظت أن الدعاء بالنصر "لإخواننا في فلسطين" لم يكن موجوداً في صدر لائحة الأدعية الرمضانية في المساجد؟بعضهم نسي الدعاء للأقصى، وبعضهم تناساه، إيثاراً للسلامة، من رقيبٍ يعد أنفاس المصلين، ويكاد يفرض ضرائب على عدد التسابيح والأدعية، وصنف ثالث تجاهل الأمر، كون الحكاية "حكاية فلسطين" ابتلعها الصمت الرسمي العربي المطبق، وبات لدى بعض الدول العربية حكام على درجة "سفير" للكيان الصهيوني.
*** قلنا مبكراً إن السيسي هو الرئيس القادم من "حزب الجيش"، ومن ثم فولاؤه للحزب صاحب الفضل في وصوله إلى الحكم يسبق أي اعتبار آخر، ليتغير تعريف مصر من "جمهورية مصر العربية" إلى "جمهورية الهيئة الهندسية"، بالنظر إلى الحضور الطاغي للمؤسسة العسكرية في كل شيء على أرض البلاد، من أعمال "الباديكير والمانيكير" في الأندية التابعة لها، إلى تشغيل الطرق السريعة، لحسابها، بطول البلاد وعرضها، مروراً بأسواق الخضر واللحوم المستوردة.
لم تعد القوات المسلحة تزاحم القطاعين، العام والخاص، وتنازعهما في عملهما، بل صارت الكيان المخيف الذي يحتكر السوق، ويوزّع الفتات على الآخرين، أو إن شئت الدقة، باتت "الهيئة الهندسية" المقاول الكبير الذي يهيمن، ويمنح الآخرين فرصة المشاركة، بالقدر الذي يحدّده.
أغرقوا الناس بأحاديث "الحرب على الإرهاب"، ليتضح، مع مرور الوقت، أنه "الصراع على الكباب"، ومن يفتح فمه بكلمة، فهو في نظرهم خائن وعميل وبائع للوطن، ومفرّط في ترابه.
يعترف السيسي، في حواره التلفزيوني مع نفسه، بإنفاق ترليونات الجنيهات على مشاريع، أضخمها لا تهمه الجدوى الاقتصادية منها، بقدر ما يستهدف رفع الحالة المعنوية للشعب.. ربما كان يقصد إنعاش "الشؤون المعنوية"، وشقيقتها الكبرى "الهيئة الهندسية"، وكلتاهما سليلة النسب العسكري الذي يُراق على جوانبه الدم، إذا ما فكّر أحد في الاقتراب منه.
*** الحكم التاريخي الصادر عن محكمة القضاء الإداري التابعة لمجلس الدولة، ببطلان تنازل عبد الفتاح السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير
أهم ما في الحكم أنه يعرّي الجنرال المسكون بأوهام العبقرية والنبوة من كل قيمةٍ وطنيةٍ، أو جدارةٍ بالقيادة، ويضع المصريين أمام شخصٍ لديه استعداد للتفريط في أي شيء، مقابل إنعاش فرصه في البقاء في سدة الحكم، وأيضاً يفضح الأسطورة القائلة إن مصر دولة لديها مؤسسات لكن الحكم، قبل ذلك وبعده، يضع الذين غرّدوا وصرخوا: شرعيتك سقطت، في وجه رئيسٍ منتخبٍ بشكل ديمقراطي، أصدر إعلاناً دستورياً لعزل نائب عام الثورة المضادة، يضعهم في اختبار تاريخي في الأخلاق وفي السياسة، ويطرح عليهم سؤالاً: ما قولكم في شرعية حاكمٍ مغتصب للسلطة، باع قطعتين من لحم الوطن بقرار فردي، أبطله قضاء مجلس الدولة؟
*** كانوا يخاطبون المصري بعد يوليو/ تموز 1952 هكذا" ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار" وأظن أنه بعد ثلاث سنوات من الجريمة الكاملة في 30 يونيو/ حزيران 2013 من الجائز أن نقول لكل من شارك، وهو بكامل وعيه: اخفض رأسك فقد مضى عهد الحرية والكرامة.
أعيد التأكيد هنا على أنه يمكن بكثير من التسامح، تفهّم أن قطاعاً هائلاً من المصريين تعرّض لعملية خداع استراتيجي في ٣٠ يونيو/ حزيران من العام الماضي، فسقط في فخ ثورة مضادة دهست بسنابكها وأحذيتها الثقيلة ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١.
لكن لا يمكن على الإطلاق ابتلاع أكذوبة أن الطبقة العليا من النخبة السياسية في مصر كانت ضحية للخداع ذاته، ذلك أن هذه الطبقة كانت واعية ومدركة تماماً أنها حاشدة ومحتشدة ومحشودة لإسقاط ثورة يناير وليس لإسقاط نظام حكم الدكتور محمد مرسي. كل المقدمات كانت واضحة لا لبس فيها ولا تشويش، كان الأبيض واضحاً والأسود أوضح، بحيث كان الذين زأروا كأسود جائعة طلباً لرأس نظام الحكم المنتخب لأول مرة راضين تماماً بدور الأرانب، وربما الفئران، في ماكينة انقلاب الثورة المضادة، طمعاً في قليل من العشب، أو اختباء من جنون الماكينة المنطلقة بأقصى عنفوانها.