يخرج هؤلاء الثائرون كل جمعة، منذ 18 شهراً، وأحياناً يضيفون إلى الجمعة يوماً آخر من الأسبوع. وفي أحيان أخرى، يتقاطرون على الشوارع الرئيسية والميادين في أسابيع كاملة، غير عابئين بما يدور في صالونات الثوار المتقاعدين من سفسطةٍ، تلتهم أطناناً من الكلام والنظريات والاختلاف حول جدوى التظاهر وشكل الحراك.
يمضي هؤلاء دقائق في الميادين والشوارع الرئيسية، يرفعون شعارات قضية إنسانية بالأساس، وسياسية بالطبع، وثورية، رغم أنف المتقعرين، حتى يشتعل جنون الآلة القمعية المدججة بالرصاص الحي وقنابل الغاز، فيكملون تظاهراتهم وفعالياتهم في الشوارع الجانبية المتربة.
يصعد منهم شهداء كل يوم غضب، ويتساقط عشرات المصابين، وحين يعودون إلى بيوتهم - إذا عادوا - يكون العسس قد سبقوهم، واعتقلوا من تطاله أيديهم من ذويهم، ويعربدون ويكسرون، بعد حملة ترويع عنيفة، تكفي لإلزام أشجع الشجعان بيته في جمعة مقبلة.
من يقع منهم في قبضة الأمن يجد نفسه بمواجهة أبشع عمليات الإهانة والتنكيل والتعذيب، حتى يحال إلى محكمةٍ يرأسها قاض، لا يضيع وقتاً، ويصدر أحكام الإعدام والسجن المشدد بسرعة تناول المرطبات والتسالي.
لا يواجه هؤلاء فظاعة الممارسات البوليسية والانتهاكات الأمنية فقط، بل تجلدهم كذلك ألسنة حداد لمتسربين من فصول الثورة، يستخفون بقوة حراكهم، ويهزأون من ديمومة صمودهم. والأسوأ من ذلك تلك العنصرية الطافحة في تصنيف المتظاهرين، فلا يكون ثورياً في نظر "بكوات الثورة العاطلين" من يرفع شعار رابعة، ولا يرتدي الجينز المقطع والمثقوب، ولا يقل عدد متابعيه على "تويتر" عن مائة ألف من العصافير.
يواجه هؤلاء، أيضاً، ضميراً عالمياً معطلاً، أو معطوباً، يغزل من نفعية الأمر الواقع غذاء للقتلة السفاحين، ويسبح في برك الحرب على الإرهاب.. لا يعرفهم الاتحاد الأوروبي، ولا تذكر أسماء الشهداء منهم الميديا العالمية، وحين تغتصب منهم الفتيات في معتقلات الجلادين تعلو أصوات معركة الحرب على "داعش".
يواجهون، أيضاً، مليارات الدولارات، تتدفق على قاتليهم، تكافئهم على جرائمهم، وتعوّمهم وتسوّقهم وتتبناهم في المحافل الدولية، بذريعة أنهم أدواتهم الطيعة في الحرب على الإرهاب.
لم يتسلل اليأس إليهم، ولم يهتز يقينهم في عدالة قضيتهم، ولم تثنهم السخرية وسخافات المسرّحين من الخدمة في معسكر الانقلاب عن مواصلة النضال، ولم يلتفتوا إلى الجدل العقيم بين "الثوار بالوراثة" حول توقيتات التظاهر وتكتيكاته، واشتراطات الذين فضحت صمتهم وسكوتهم المتواطئ، بعد تبرئة حسني مبارك ونظامه للعودة إلى الميادين.
كان الجميع هاربين في غابات النقاش، مختبئين في سراديب الخلاف على الشعارات المرفوعة والهتافات المزمع ترديدها، إن تواضعوا وقرروا التظاهر، فيما يواصل هؤلاء الصامدون المبدعون نضالهم المستمر لأكثر من 73 أسبوعاً، بلا كلل أو ملل، أو تراجع أمام قسوة الضربات وفظاظة الكلمات وانحطاط التقديرات لحجمهم وكثافتهم.
منهم "أيقونات" حقيقية ضربت المثل في التضحية والبطولة، لكن الإعلام المشغول بالنجوم لا يلتفت إليهم، لا تذهب الكاميرات لتغطية حراكهم، فقط مقاطع بالموبايل تعرضها "الجزيرة مباشر مصر"، وتجدها على "يوتيوب"، فيما تنكر وجودهم، أصلاً، عشرات القنوات التابعة لسلطة الانقلاب، وإن ذكرتهم فهم دائماً لا يزيدون عن عشرات.
كان من المفترض أن ينضمّ إليهم أولئك الذين تصنعوا الصدمة، ورسموا على وجوههم علامات المفاجأة من حكم تبرئة مبارك، وإدانة ثورة يناير، وبعد أسبوع كامل من الكلام في الشروط والمواصفات ودراسات الجدوى الخاصة بالعودة إلى الميادين، لم يحضر أحد، باستثناء أعداد قليلة من ثوار حقيقيين، عادوا إلى أطراف الميادين مع ذوي شهداء يناير.
وبالأمس، كانوا يضيئون الميادين مجدداً. لم يستكينوا لحواديت غلق السفارات، ليقولوا لأصحاب المضخات التي تغرق سلطة الانقلاب إن تدفق المليارات لن ينجح في تعويم سلطة جاءت مشياً فوق الدم، ولن يفلح في تسويق انقلاب مكتمل الأركان.
وأكرر: إن صمود هؤلاء هو الدليل الوحيد الباقي على أن مصر شهدت، قبل أربعة أعوام، ثورة.. وإن هذه الثورة، على الرغم القتل والقمع، مستمرة.
(العربي الجديد)
المصدر: وائل قنديل
نشرت فى 13 ديسمبر 2014
بواسطة news2012
صحافة على الهواء
نتناول الموضوعات السياسية والعلمية والدينية والإجتماعية على الساحة الداخلية والخارجية وتأثيرها على المجتمع المصرى »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
125,313