جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
( ثقوب في جدار الصمت ) الكاتبة الفلسطينية ناديا كمال - القدس
تجولت في شوارع حينا الفقير ، كل زاوية فيه تحكي حكاية ، فتخيلت وجه جدي المتعب الذي أنهكته السنين وأعياه الألم والقهر ،وتذكرت قوله لأولاده قبل وفاته ، مهما حصل يا أولادي ومهما فعلوا بكم ، تشبثوا بهذه الأرض لا تهجروها ولا تعيدوا الماضي حيث تم تهجيرنا عنوة من أراضينا ومساكننا لنعيش لاجئين أينما كنّا ،إبقوا صامدين وارفضوا الخنوع والركوع ، وقاوموا حتى اّخر أنفاسكم . نعم جدي ما زلنا نقاوم ونتحمل ونصبر ، وما زال فينا إرادة وعزيمة لا تنتهي أبدا ، بل تزيد قوة وصمودا ، كلما زاد المحتل في جبروته وعنفوانه ، وكلما أغلق لنا بابا ، فتحنا من الأمل أبوابا . أكملت تجوالي وسط توصيات جدي الحالمة ، وإذا بي أفاجأ بالحاضر يكتب بأنامله الغضة الصغيرة حكاية الماضي ، ويسطّر للتاريخ أروع ملحمة تربط بين الأجيال ، صبية صغار يلعبون بجانب الجدار الحقير ألعابا لا تخطر على بال أحد ، يحملون بأيديهم الصغيرة أدوات مختلفه ليكملوا بها رحلة الماضي ، منهم من يحمل ألوانا يرسم بها على الجدار حكاية الأمس ، صورا للمجازر والبيوت المهدمة ودماء وأشلاء في كل مكان ، وصورا للأبطال وهم يقاومون المحتل ببسالة وتحدي وكبرياء ، ومنهم من يرسم صورا لأحلام وردية يتمنى أن يعيشها واقعا .ولكن اكثر شيء لفت إنتباهي هو ذلك الطفل الصغير ، في تلك الزاوية من الجدار ، يحمل بيده مسمارا ويخربش على الجدار بقوة وكأنه يخاطبه ويقول له : إما ان تكون أنت او أكون أنا ، قادني فضولي إليه لأسأله عمّا يفعل ، فأجابني ببراءة الأطفال وقوة الكبار ، وعيون يشع منها الأمل وتبرق فيها الدموع ، قائلا: أصنع ثقبا لأرى من خلاله مدرستي الجميلة التي كنت أرتادها كل صباح أنا وزملائي ، إلى أن مزقها الجدار ومزق معها أحلامي وأحلامهم ، ففكرت في رسم ثقب أبحث فيه عن أمل يعيد لي مدرستي ومعها أحلامي ، وسأبقى أرسم الثقوب حتى ينهار هذا الجدار اللعين . كم أدهشني هذا الطفل الصغير في تفكيره ، وتمنيت لو أنني أحمل مثله مسمارا لأحفر به ثقبا وأرى من خلاله بيت جدي القديم وبستانه الأخضر الذي لم يكتفي المحتل بعزله بالجدار ، ولكنه طردنا منه ليسكن مكاننا الغرباء .
كثرت الجدران في وطني ، أو لنقل أنه جدار واحد ممتد على طول بلادي وعرضها ، ولكن قلما نجد فيه ثقوبا تشع بالأمل ، فكل شيء خانق ، جدار إسمنتي حقير يقطع أرضي ، شارعي ، بقالتي ، حتى بيتي ، ما أحقره من جدار ، كم تمنيت أن يحدث زلزال قوي يحطم هذا الجدار ،ليس مهما أن يدمّر بيتي به ،ولكن المهم ان يزول هذا الجدار اللعين الذي بات كحاجز سجن ممنوع تخطيه ، وإذا تخطيته كان جزاؤك رصاصة حاقدة من صهيوني حقير كل همه سحقك ، تدميرك ، نعم ، هكذا نعيش في وطني ، جدار يتخلل حياتنا ، يخترق خصوصياتنا ، مدارسنا جوامعنا كنائسنا ، كلها تحولت لتصبح جزءا من الجدار ، وكل هذا من أجل أن يعيش هذا الصهيوني الحقير بأمان في وطني أنا ، نعم وطني أنا لا وطنه هو كما يدعي . ومن الجدار إلى الحاجز ، وهما يكملان بعضهما فما يعجز عن إعاقته الجدار ، يكمله الحاجز، وما أكثر الحواجز في وطني ، في كل ركن حاجز ، حتى أن أغلب شعبي يقضون نهارهم فقط بالتنقل من حاجز الى حاجز ، كحاجز قلنديا اللعين ، حيث كتب علينا ان نجتازه كلّما أردنا الذهاب إلى القدس الحبيب كل في مجاله ، فمنا من يجتازه قاصدا الأقصى الحبيب للصلاة ، ومنا من يذهب لزيارة أقاربه ومنا الطالب الذي يذهب إلى مدرسته كل صباح ويعاني ما يعاني على هذا الحاجز ، ومنا المريض قاصدا العلاج ويمكن ان يموت قبل ان يصل المشفى ، ومنا المعلم والأب والإبن والموظف ، والعامل ، وكثير كثير ، كلنا نصطف كالأنعام في ذلك القفص الحديدي ، حتى اذا ما اجتزناه ننتقل إلى القفص الذي يليه ، ننتظر الدور لنمر بعدها على هذه الالة الحقيرة ،التي تسمى ماكينة التفتيش ، نعم فهم يخافون من كل شيء فلسطيني ، لو طالوا لمنعوا الهواء أن يمر دون تفتيش ، حتى العصافير والحمام والدواب ، كلّها تثير خوفهم وقلقهم . اليوم ذهبت لزيارة والدتي التي تعيش داخل القدس الحبيبة ، خرجت من بيتي وكلي لهفة وشوق للقاء الغالية ، وكان علي ان أجتاز هذا الحاجز اللعين ، وقفت أكثر من ساعة في ذلك القفص الحديدي أنتظر الدور ومثلي الكثيرون ، ملل وضجر وشعور بالقهر سيطر على خاطري وخاطرهم ، وما أن جاء دوري لأجتاز هذا الحاجز اللعين ، حتى انهكني التعب ، وانطفأ بي الشوق واللهفة اللذان حملتهما من بيتي . وبعد جهد وتعب نفسي وصلت إلى والدتي وقد بدى على محياي التعب والقهر ، ولكنني رغم أنف الحاجز وحراسه الحمقى وصلت حيث أريد . وما زال طفلي الصغير يخربش بمسماره ، ولديّ أمل أن يشتد ساعده يوما ليهدم الجدار ، ليشرق عندها شعاع أمل يضيئ لنا من بعيد ، ليبشرنا بفجر جديد يطل على سمائنا الحالكة بالسواد ، ويخبرنا بأن ليل السجن والسجان زائل لا محالة ، وننام ونحلم بحبيبتي فلسطين ، وشوارعها كلها مزينه بالورود والياسمين ، نتنقل بها حسبما نريد وأينما نريد دون إبراز الهوية الحقيرة ، ولا إضطرار للوقوف ساعات خلف حاجز ولا جدار .هذا حلمي وحلم شعبي ، ويبقى لدينا شعاع أمل .
بقلم عاشقة القدس ناديا كمال ,,,,,,,القدس
|
ساحة النقاش