أهمية تدريس الأفكار السياسية في العلوم السياسية
و تأثير الأفكار السياسية على تطور الحياة والمؤسسات السياسية
- مطبوعة مقدمة من طرف الدكتوراه نبيلة بن يوسف إلى طلبة العلوم السياسي
- في مقياس تاريخ الأفكار السياسية
- تعد الأفكار السياسية المرآة العاكسة للظروف التي عايشها المفكر، محاولا تقديم حلول و تجاوز أزمات نخــرت المجتمع السياسي و الاجتماعي الذي يعيش فيه، فهي عبارة عن خبرات سابقة لمشكلات عاصرها المفكرون.
- إنّ الأفكار خلاصة الإبداع البشري و نتاج للمحيط البيئي، تنتج عن الأفكار السياسية نظريات سياسية تبقى خالدة في ذاكرة الفكر و العلوم السياسية و تسيير شؤون الحكم، و لا تزال عماد القضايا السياسية الكبرى ( داخلية كانت أم خارجية)، كرؤية المفكر الايطالي "نيكولا مكيافيلي" للقيم في ميزان العلاقات الدولية التي لا يزال يعتمد عليها في رسم معالم ميزان القوى. كما بقيت دراسات العلامة "ابن خلدون" صرحا قائما لاسيما في نشأة الدول و مراحل تكوينها و أسباب أفولها، و أفكار أصحاب العقد الاجتماعي لا تزال هي الأخرى سائرة.
- لا يمكن الاستغناء عن الفكر السياسي كمقياس أساس في دراسة العلوم السياسية، بل يجب اعتباره مادة أساسية في عملية التحليل السياسي الواضح و العميق. فالتعرف على الحضارات البشرية لاسيما الكبرى و دراسة نشأة الإمبراطوريات العظمى و أفولها و تقسيم العالم لدول ، و نشأة جمعية تشمل كل أمم العالم "عصبة الأمم " التي تحولت بعد الحرب العالمية الثانية الى "منظمة الأمم المتحدة"، و تلتها عملية اندماجها في تكتلات عسكرية و اقتصادية كبرى ، و الأزمات الداعية لكل ظرف و طريقة عرض المفكرين للحلول و معرفة إلى أي حد أخذ بها هي أساس تحليل ما يحدث في عالمنا المعاصر ، اذ لا يمكن الانطلاق من العدم كما لا يمكن الانطلاق مما هو عليه من ظروف ، إنما الأمر يقتضي معرفة خلفيات سياسية و بيئية أخرى . فتحليل حالة الاتحاد الأوروبي تستدعي معرفة شاملة للظروف التي ولد فيها الاتحاد و العراقيل التي واجهها منذ مولده و كيفيات مواجهتها بفضل ما كتبه أهل الفكر السياسي و قدموه من حلول و تنبؤات. و إن كان التحليل السياسي الجيد لا يستدعي الأعمال الكبرى للفكر السياسي التي قدمها كبار المؤلفين ومؤرخي الفكر السياسي، بل أيضا الشكل الذي فيه نقرأ تفكير الناس حول الفعل السياسي وكيفية معايشتهم للازمات التي ضربت مجتمعاتهم. و يقول في هذا الباحث "جان توشار" الذي يقول:" إن تاريخ الأفكار السياسية عليه أن يتساءل في كل عصر عن ماهية الأفكار السياسية عند الجميع، الفلاحين، العمال، الموظفين،البرجوازية،الارستقراطية.....الخ".
- يعنى تاريخ الفكر السياسي بدراسة الحضارات البشرية القديمة الكبرى كالحضارة الفرعونية و البابلية تميزت بتشريعات الملك "حمو رابي" التنظيمية في مختلف الميادين، و الفارسية لاسيما أفكار زرادشت (قدمها في شكل وصايا) في الشرق الأدنى، و الحضارات البوذية و الكنفوشيوسية في الشرق الأقصى. استمد العقل البشري من أفكارا من الحراك الحضاري المساهم في بناء المعرفة الإنسانية الأولى و طورها إلى أن وصلت إلى معرفة علمية قائمة على مناهج صحيحة، كما اخذ من الحضارات أفكارا حول التنظيم السياسي و الإداري و الاقتصادي و الاجتماعي و طورها في الحضارات التي تلت الحضارات البشرية القديمة، كالحضارة اليونانية (الإغريقية) والأوروبية عامة (العهد المسيحي) و الحضارة الإسلامية . و تميزت كل واحدة بخصائص و صفات جعلتها تمتد في الزمن لقرون صامدة. و قد وصف الباحث "جان جاك شوفالييه" تاريخ الأفكار السياسية بأنها ؛ تاريخ العمل العقلي عبر العصور، وعبر التغيرات المتعاقبة في مختلف الأبعاد و البنى المتعلقة بالدولة .
- ترجح بعض الكتابات الفكرية بدايات الفكر السياسي الى ما بعد الحروب التي نشبت بين الفرس و اليونان في القرن الخامس للميلاد، و التي انتهت بفوز اليونان بانتصار ماراثون Marathon سنة 490ق.م ، و تلاه فوز "سالامس" Salamis عام 480ق.م.
- و تحوّل بلاد الاغريق الى أكبر قوة بحرية في العالم القديم تصارع إسبارطة، و يستدل التاريخ البشري بحرب البلوبونيز Pelonnese التي استمرت رحاها سبعة و عشرون سنة ، و هي الحرب التي لم تكن مجرد صراعات عسكرية، بل لعبت فيها الفنون دورا غير مستهان به و ساهمت في تخليد الحرب و أحوال المدينتين سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا في الذاكرة البشرية. فكما كان للفنون الحربية و القتالية دورا معروفا و واضحا في هذه الحرب، فقد كان للفنون المسرحية و الشعرية و القصصية دورا في تخليد الحرب و النظم العسكرية و السياسية آنذاك، و وصفت بأنها حربا بين نظام الحرية الإغريقي و نظام العبودية الفارسي.
- و ترجيح الفكرة السابقة ما هو الاّ خادم للفكر الغربي، الذي يرى ان اللبنات الاولى للفكر السياسي من وضع المفكرين اليونان امثال "سقراط" و "افلاطون" و "ارسطو" ، كما يستدلون بالتنظيم السياسي المحكم الذي عرف في عهد سولون Selon (عام 594ق.م)، واضع الحجر الاساس للديمقراطية اليونانية في شكلها المباشر، ذلك بما ادخله من اصلاحات في ميادين عدة قضت على نظام الحكم الارستقراطي و اعطت المواطن الحر ّ دورا في تسيير شؤون المدينة. و قد كان للفكر اليوناني الفضل على الفكر الروماني الذي نهل منه فكرة التنظيم السياسي و أضاف عليها.
- ففي نظر الفكر الغربي المعاصر الفكر اليوناني الذي يعتبر أوروبيا بانتماء اليونان جغرافيا الى القارة الاوروبية و أن الحضارات التي جاءت من بعهده أو حتى تلك المعاصرة له قد أخذت عنه الفكر السياسي و التنظيمي ، فهو بذلك ينفي الافكار السياسية الواردة في الحضارات الشرقية القديمة المختلفة ، و ما أتت به الحضارة الإسلامية من تنظيم سياسي، قال في ذلك الكاتب "جون بوتكا " في مؤلفه "أفلاطون و أوروبا" : " رأت الفلسفة النور في أوروبا فقط، و بدقة أكثر في اليونان هي التي صنعت عبقرية اوروبا".
- إنّ الفكر السياسي ذلك الموروث التاريخي والاجتماعي، و الوسيط بين التاريخ و حقل و العلوم السياسية، و الوسيط بين علم السياسة و سائر العلوم الإنسانية لاسيما العلوم القانونية و الإدارية، و علوم الاقتصاد و التاريخ و الفلسفة و الاجتماع، فهو المادة " المقياس" في العلوم السياسية. فدراسة العلوم السياسية تتأتى على ضوء دراسة التطور التاريخي للأفكار السياسية.