لا شك أن الحضارات قد عايشت تجربة تعاقب أجيالها ووراثة إحداها الأخرى كما أنها نقلت عن غيرها أفكارها وعلومها وآدابها وفنونها وتكنولوجيتها. وكان المثال الأول لانطلاق حضارة من موقعها إلى موقع آخر هو تأثير الحضارة الهندية فى الصين بعد ستة قرون من ظهور أصول البوذية فى شمال الهند، كما جاء التفاعل الحميم والمكثف بين الحضارتين الإسلامية والهندية فى شبه الجزيرة الهندية لاحقا،ً وتلى موجات متعاقبة من العلاقات والتفاعل الذى راوح بين المد والجذر بين الحضارة الإسلامية وحضارات غربية متعددة سواء البيزنطية أو الرومانية أو اللاتينية. ومن جانبهم، لعب التجار وشيوخ الطرق الصوفية من مختلف الديانات دوراً بارزاً فى الاتصال السلمى غير المقيد بالاعتبارات السياسية وغير المحصور فى العمليات العسكرية بين أتباع الحضارات المختلفة. ومما يدل على استمرار التأثير السلبى لبطء الحركة وصعوبة وسائل المواصلات فى القرون السابقة على العلاقة والتأثير المتبادل بين الحضارات هو أن المطبعة التى تم اختراعها فى الصين فى القرن الثامن الميلادى قد استغرق الأمر سبعة قرون كاملة لتصل إلى أوروبا فى بداية نهضتها الحديثة، بل الأدهى من ذلك أن الورق الذى تمت صناعته فى الصين للمرة الأولى فى القرن الثانى الميلادى وصل إلى اليابان المجاورة بعد ذلك بخمسة قرون، ثم إلى آسيا الوسطى فى القرن الثامن وإلى شمال إفريقيا فى القرن العاشر، وإلى بلاد الأندلس فى القرن الثانى عشر، وأخيراً إلى شمال أوروبا فى القرن الثالث عشر.
وغنى عن البيان أن العلاقة العدائية فيما بين الحضارات شكلت عنصراً لا يجب التقليل من أهميته فى العديد من الحالات فى القرون السابقة، وكانت تتصف بالقصر الزمنى نسبياً، مع حدوثها من فترة إلى أخرى، إلا أنها كانت تتسم أيضاً بدرجة من العنف والحدة وسعى أبناء حضارة إلى غزو أتباع حضارة أخرى إما للسيطرة عليهم أو لنهب ثرواتهم أو لفرض عقيدتهم عليهم، أو للقضاء عليهم كلية. وتحضرنا هنا حالات المواجهة العسكرية بين الحضارات الإسلامية والغربية وبين الحضارتين الإسلامية والهندية. إلا أن ذلك لا ينكر وجود مثل هذه العلاقات العدائية، حتى بمكونها العسكرى، داخل كل حضارة وفيما بين أتباعها، وهو ما شهدته كافة الحضارات دون استثناء، ويذكر لنا التاريخ أمثلة على ذلك من الحضارتين الإغريقية والفارسية القديمتين وصولاً إلى الحضارة الإسلامية ومروراً بالحضارات الصينية والهندية والغربية.
كذلك فإن موقع كل حضارة على الصعيد العالمى يتغير من مرحلة تاريخية إلى أخرى، ففى حين كانت الحضارة الصينية الأبرز والأكثر تقدماً فى فجر تاريخ الحضارة البشرية كما هى معروفة لدينا اليوم، فقد انتقلت الصدارة للحضارة الفرعونية القديمة، ثم لحضارات بلاد ما بين النهرين، ثم للحضارة الرومانية، ثم الحضارة الإسلامية، وتزامن ذلك مع بزوغ حضارات الهند واليابان، ثم بدأ منحنى الصعود للحضارة الغربية الحديثة، مع اكتساب كل حضارة للعناصر التى تجدها ملائمة لها من حضارات أخرى أكثر تقدماً منها فى زمن ما وتكييف ميراثها مع الظروف والاحتياجات والمصالح الخاصة بتلك الحضارة، ويصدق ذلك على درجة التنظيم الاجتماعى وتطوره، وطبيعة الأنشطة الاقتصادية، واتجاه الانجازات العلمية والتكنولوجية التى توفر الأساس لتقدم كل حضارة.
وإذا كانت كل حضارة لها طابع توسعى من حيث السعى لبسط سيطرتها ونشر نفوذها على أكبر قدر ممكن من الأراضى والشعوب، فإن الخاصية المميزة للحضارة الغربية الحديثة هى حالة التزاوج بين نزعتها الاستكشافية من جهة ومسعاها الاستعمارى من جهة ثانية وارتباطها بالبحث عن مصادر مواد خام وعمالة رخيصة وأسواق واسعة لتصريف منتجاتها من جهة ثالثة، وهو ما دفع بالدول المنتمية لهذه الحضارة منذ مرحلة تاريخية مبكرة، أى منذ نهايات القرن الخامس عشر الميلادى، إلى بسط الهيمنة والاحتلال العسكرى المباشر على معظم أرجاء المعمورة سواء فى العالم الإسلامى أو بقية أفريقيا أو العالم الجديد (الأمريكتين واستراليا) أو آسيا بحضاراتها المختلفة أو أوراسيا بحضارتها الأرثوذكسية الشرقية. ولهذا لم يكن من المستغرب أن تظهر المقولات المتنبئة بصراع الحضارات، والتى ركزت على أن الغرب وحضارته طرف رئيسى فى هذا الصراع، من داخل الغرب ذاته ومن جانب بعض مفكريه وعلمائه - دون أن يعنى ذلك توجيه الاتهام إلى كافة أو حتى غالبية هؤلاء المفكرين والعلماء بالترويج لمقولة صدام الحضارات- وتأثير هذه المقولة أو ربما تأثرها بمصالح دوائر سياسية واقتصادية فى الغرب تتصل بظاهرة العولمة ونتائجها وتداعياتها، وذلك نظراً لأن الطرف الذى يشعر بزهو الانتصار والقوة هو الحضارة الغربية وبالتالى تسعى - سواء أسميناها حضارة أو نموذجياً فكرياً وسياسياً واقتصادياً- إلى إعادة تشكيل النظام العالمى والوحدات المكونة له على نمط يخدم مصالح الفئات المسيطرة لهذه الحضارة ومراكزها الأساسية المؤثرة على عملية صنع القرار بها.

المصدر: د. وليد عبد الناصر - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN16.HTM
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 215 مشاهدة

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

284,109