5 - أن لكل عملية تأثير محددات خاصة تتفاعل الأفعال وردود الأفعال المتصلة بها فى إطار مجال أو نطاق معين ، وفق قواعد لعبة معينة تحكم كل عملية، وهو عنصر شديد الأهمية فى فهم معنى القوة سيتم تناوله تفصيلا فى الفصول التالية، فالفيل (المهاجم) يمكنه أن يحطم أى عائق يقف أمامه ، لكنه لا يستطيع التخلص من حشرة تقف على ظهره ، أو حسب تشبيه شائع لا يمكنه إدخال خيط فى ثقب إبرة، بل إن شخصا قوى بدنيا (كأن يكون بطل كمال أجسام على سبيل المثال) يمكنه أن يلقى هزيمة ساحقة فى مباراة ملاكمة أو كاراتيه ضد أشخاص أقل قوة، ناهيك عن مباراة شطرنج أو تنس طاولة ، كما أن القوة المطلوبة لمحاصرة مدينة معينة، أو قصفها ، خلال حرب ، لا تتيح للطرف القائم بالحصار أو القصف نفس درجة (أو كمية) القوة المطلوبة لكسب ولاء سكان تلك المدينة ، ولا يمكن تحويلها ببساطة الى نوعية القوة اللازمة للقيام بالمهمة الأخيرة ، والتطبيقات العملية استراتيجيا لكل ذلك شديدة التنوع .
إن وصف دولة ما ـ فى سياق تلك النقطة ـ بأنها قوية ، لا يعنى أنها قادرة على التأثير فى سلوك الآخرين فى كل المجالات ، وبشأن كل القضايا ، أى أنها قادرة على هزيمتهم عسكريا ومنحهم ماليا والسيطرة عليهم ثقافيا وإختراقهم سياسيا ، فكوريا الشمالية يمكنها أن تؤثر فى سلوك كوريا الجنوبية بتهديدها عسكريا ، لكن ليس لديها ما تؤثر به اقتصاديا أو ثقافيا ، كما أن حيازة دولة ما لعنصر قوة محدد لا يعنى أنها قادرة على استخدامه للتأثير على كل أنماط السلوك المحيطة بها ، بما فى ذلك سلوكيات ترتبط بالهدف الواسع من امتلاك هذا العنصر ذاته ، فامتلاك اسرائيل سلاحا نوويا يكسبها حصانة إزاء تهديدات الدول العربية لوجودها ، لكنه لا يمكنها من ردع الاستخدامات منخفضة الشدة للقوة المسلحة أو العنف المسلح ضدها ، بما فى ذلك الحروب المحدودة كما حدث فى أكتوبر 1973 . ولا تستطيع دولة ـ بما فى ذلك الولايات المتحدة المسيطرة فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة ـ أن تخوض عمليات ممارسة تأثير فى كل اتجاه ، على كل المستويات ، فى وقت واحد ، دون أن تخاطر بالتورط فى المشكلات ، أو فقدان الهيبة أو المصداقية ، ثم تدهور القوة .
لكن تظل النقطة الأساسية المرتبطة بمفهوم القوة ـ والتى ستكون محور تركيز الفصلين التاليين ـ هى أن تأثير أى دولة فى توجهات أو سلوك الدول الأخرى ، لا يحقق أية نتائج ذات أهمية (إلا إذا كان الآخرون بلهاء) سوى بالاستناد على إمكانيات مادية أو معنوية مختلفة، تتم تعبئة عناصر معينة منها ، كأدوات للتأثير، سواء بالإقناع أو الإغراء أو التهديد أو المعاقبة ، فى مواجهة الأطراف المستهدف التأثير فيها . فمحاولة التأثير أو تصور إمكانية التأثير ، دون إمتلاك قدرات مناسبة، لن تفرز سوى ظواهر صوتية ، أو حسب التعبير العامى جعجعة ، على غرار صيحة المخمورين فى الأفلام السينمائية القديمة أنا جدع، أو قد تؤدى الى تورط الدول فى مشكلات .
وهناك تشبيه شائع يطرح فى كتابات كثيرة بهذا الشأن ، حول رجل غير مسلح يقوم باقتحام بنك ، ويطلب من أحد العاملين إعطائه كل النقود التى بحوزته ، غير أن الموظف يلاحظ أنه غير مسلح ، ولا يشكل أى تهديد ، فيرفض الخضوع لأمره ، وتفشل العملية ، ولا يجد الرجل أمامه سوى الإنسحاب (الهروب) بسرعة قبل أن يجد نفسه فى ورطة . لكن نفس الرجل يعود مرة أخرى ـ بعد فترة ـ إلى تكرار عمليته باقتحام البنك ، حاملا مسدسا هذه المرة ، ولا يجد الموظف أمامه ، بعد تردد ، خياراً آخر سوى تسليمه النقود فقد استخدم اللص قدرات معينة (السلاح) أدت إلى إجبار الموظف على تغيير سلوكه .
ولقد وصلت أهمية توافر الإمكانيات كعنصر من عناصر مفهوم القوة الى حد تبلور تيار بين محللى القوة يطرح تعريفا آخر للقوة لا يستند على كونها عملية تأثير فى الإرادات ، وإنما رمز لامتلاك القدرات ، فمن يمتلك عناصر قوة (موارد ـ قدرات) معينة يصبح قويا ، ومن لا يمتلكها لا يعد كذلك ، على نمط ماهو متصور فى الذهن العام بشأن القوة ، خاصة وأن الإمكانيات يمكن رؤيتها أو لمسها أو قياسها ، بخلاف التأثيرات التى تصعب الإحاطة بأبعادها المختلفة ، ورغم أن التعريفات القائمة على إمتلاك القدرات لم تصبح تعريفات سائدة ، لأنها لا تقدم تفسيرات كافية لظاهر القوة ، كما أنها تطرح إشكاليات أعقد بكثير مما تطرحه التعريفات المتداولة بشأن فكرة التأثير ، إلا أن أى تعريف للقوة لا يتجاوز أبدا مسألة أن أحد عناصرها الأساسية القليلة ـ التى تضاف إلى الأفعال وردود الأفعال ـ هو امتلاك القدرات التى تجعل محاولة التأثير ممكنة أو فعالة .

المصدر: أ. محمد عبد السلام - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/YOUN62.HTM
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 188 مشاهدة
نشرت فى 13 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

284,183