توجد عبارة ذات رنين خاص ذكرها المفكر الصينى القديم صن تزو ، وتم تناقلها عبر الزمن بصياغات مختلفة ، هى إعرف عدوك إعرف نفسك : فى مائة معركة لن تكون أبدا فى مأزق، وهى عبارة مركبة رغم ما تتسم به شكليا من بساطة ، فقد لا تكون معرفة العدو كافية ، إذ لابد أيضا من معرفة الذات ، الوجه الآخر لنفس العملة. ولكن مشكلتها الحقيقية ترتبط بالكيفية التى يمكن التوصل بها إلى تقدير سليم لإمكانيات (ناهيك عن نوايا) الطرف الآخر ، أو ما يمتلكه الطرف المعنى ذاته من إمكانيات ، على نحو يتيح تصور ما يمكن أن يحدث فى اللقاءات الفعلية ، أو بعبارة أخرى : قياس القوة .
لقد ساد اتجاه مؤثر فى تحليلات القوة يؤكد أن من الممكن تقدير قوة دولة ما ، بأبعادها المختلفة ، وتوقع ما يمكن أن تقوم أو لا تقوم به تجاه الآخرين بتقييم أو قياس أوزان عناصر (موارد + موارد / قدرات + قدرات) قوتها القومية ، طالما أن قوة الدولة تستند على إمكانياتها فى الغالب ، واتسع نطاق استخدام هذه التقديرات فى أبحاث الاستراتيجية الشاملة وتخطيط الأمن القومى، كأسلوب يتيح تحليل طبيعة موازين القوة القائمة بين الأطراف المختلفة ، والتى يمكن على أساسها استنتاج المسارات المحتملة لعملية التأثير .
إن الأصل فى تقييم قوة الدول هو يقينا اللقاءات الفعلية أو الميدانية بينها على الأرض ، على غرار ما يحدث فى مباريات الدورى العام لكرة القدم ، حيث تسفر المباريات المتتالية عن نتائج محددة (فوز ، تعادل ، هزيمة) ، ونقاط مختلفة تعبر عن وزن كل نتيجة ، بما يتيح تحديد قوة الفرق المشاركة فى اللعبة . لكن لأن الحروب أو اختبارات القوة الحادة ليست مباريات ، وعادة مالا تتكرر كثيرا ( إلا فى مناطق غير مستقرة كالشرق الأوسط ) ، وبالتالى لا توجد دائما إمكانية لإدراك القوة الحقيقية للدول ، فإن ذلك يستبدل بالاستناد على أسس افتراضية ـ على غرار نتائج اللقاءات السابقة فى كرة القدم ـ كالإمكانيات الحالية (أو المتوقعة) للطرفين المتقابلين ، من خلال معادلات تحاول صهر المقومات الكلية لقوة الدولة ، مادية ومعنوية ، ثابتة ومتغيرة ، للوصول الى تقدير تقريبى للقوة .
فى هذا السياق ، حاول تيار واسع فى الدراسات الأكاديمية ، إضافة الى أقسام التخطيط وجهات التقدير فى المؤسسات الرسمية، تطوير أساليب علمية يمكن من خلالها قياس قوة الدولة استنادا على الإمكانيات المتاحة لها ، بافتراض أن الدولة تكون قوية أو قادرة على تحقيق أهدافها بقدر ما تسمح به عناصر القوة المملوكة لها . وقد تشكلت ـ عبر تطور هذه التحليلات ـ مناهج متعددة لقياس القوة ، أهمها منهجان :
الأول : منهج يركز على قياس قوة الدولة إستنادا الى العوامل المادية التى يمكن قياسها مباشرة بمؤشرات كمية ، واعتمد بعض محلليه على عناصر الدخل القومى وعدد السكان وحجم القوات المسلحة كمؤشرات لقوة الدولة . بينما اعتمد آخرون على إجمالى الدخل القومى والنفقات العسكرية ، أو الناتج المحلى الإجمالى ، ومعدلات استهلاك الطاقة . وارتكز اتجاه ثالث على المؤشرات العامة للاقتصاد القومى (الزراعة ، الصناعة ، التعدين) والأرض والسكان والقوة العسكرية للدلالة على قوة الدولة .
الثانى : منهج يحاول الجمع بين العوامل المادية والعوامل المعنوية (التى لا يمكن قياسها ببساطة) ، كقياس قوة الدولة استنادا ـ حسب بعض المحللين ـ إلى 8 عناصر أساسية هى الجغرافيا والسكان والموارد الطبيعية والقوة الإقتصادية والقوة العسكرية والوظائف الحكومية وعملية صنع القرار ، وأدخلت اتجاهات أخرى عوامل مثل الأخلاق القومية أو القدرات الثقافية أو العمل الجماعى ونظام القيم والقدرات التنظيمية ، إضافة إلى القدرات التقليدية فى عملية التقييم ، استنادا إلى أوزان مفترضة لكل منها .
وعادة ، ما تتم حسابات قياس القوة بالمقارنة (لعناصر القوة الشاملة الرئيسية والفرعية) بين مجموعة دول ، مع اعتبار أقوى دولة فى المجموعة كنموذج قياس أو معيار ، بحيث يتم تحديد رقم معين (وزن) لكل عنصر من عناصر قوتها ، ويقاس بالنسبة له وزن نفس العنصر المناظر الخاص بباقى الدول ، أى أنها حسابات مطلقة، يمكن فى إطارها أن تتم مقارنة قوة الدولة بقوة دولة أخرى مناوئة أو صديقة لها .
وقد أفرزت هذه المحاولات معادلات رقمية مركبة على غرار معادلة كلاين الشهيرة (البسيطة نسبيا مقارنة بمعادلات أخرى) التى تشير إلى أن :
قوة الدولة = عناصر الكتلة الحيوية (الأرض والسكان) + القدرة الاقتصادية + القدرة العسكرية × الهدف الاستراتيجى + الإرادة القومية .
وعلى الرغم من أن مثل هذه المحاولات قد أفادت فى تعميق المدركات الخاصة بعناصر قوة الدول ، إضافة إلى ما تقدمه من تقديرات تقريبية قريبة من الواقع لقدرتها على التأثير ، فإن بعضاً من محللى قياس القوة أنفسهم يعترفون بأن مثل هذه المقارنات لا تقيس قوة الدولة (أو تأثيرها) ، ولكنها تقيس فقط القاعدة التى ترتكز عليها قدرتها على التأثير ، كقدرتها على شن حرب ، أو مكافأة دولة أخرى اقتصاديا ، أو التأثير فى توجهات الرأى العام داخلها ، وذلك للأسباب التالية :
1 - أن عناصر القوة القومية تتضمن ثوابت (كالمساحة الجغرافية) ومتغيرات (كالقوة العسكرية) متداخلة مع بعضها البعض ، ومتفاعلة بدرجة يصعب معها تقييم قوة الدولة على أساسها . فمن الصعب حصر التفاعلات بين العناصر المادية (كعدد السكان) وغير المادية (كالإرادة القومية) ، أو تحديد أدوات قياس وتحليل تضمن مستوى مقبول من الحياد ، فكثيرا ما استخدمت تلك القياسات لطرح تصورات تبتعد عن الحياد العلمى بغرض التقليل من قدرات طرف أو المبالغة فى قوة طرف آخر . وأحيانا ما يبدو أن تجميع عناصر ذات طبيعة مختلفة ، وضمها الى بعضها البعض ، كخلط التفاح بالبرتقال .
ساحة النقاش