إن أهمية تحليل علاقات القوة تأتى من أن تحليل دور القوة فى علاقة ثنائية بين دولتين، أو تحديد اتجاهات تأثيرها فى صراع ما ، أو حتى عملية تنافس معتادة ، يتوقف بصورة شبه كاملة، ليس على حجم ونوعية عناصر قوة طرف واحد ، وإنما على شكل ومضمون ميزان القوة Balance of Power بين قدرات الطرفين . فالقدرات التى تمتلكها دولة من الدول ، مقارنة بقدرات الدول الأخرى المشاركة فى التفاعل ، تعد حجر الأساس فى العملية التساومية التى تشكل جوهر صدام / حوار الإرادات الدولية ، فموازين القوة تمثل إحدى أهم الكلمات الكودية Password المهيمنة فى مجال ممارسة القوة .
إن أهمية موازين القوة كمفتاح لفهم التفاعلات الدولية تأتى من أنه لم تكن هناك فى معظم فترات التاريخ قواعد ملزمة وأدوات تنفيذية عامة ، تحكم علاقات الدول ، مثل القانون والشرطة داخل الدول ، فأى شخص يقوم بارتكاب جريمة قتل يعلم يقينا ـ مالم يكن مصابا باضطرابات عقلية ـ أنه قد خالف القانون ، وأنه قد يتم إلقاء القبض عليه ، والتحقيق معه ، ومحاكمته ، وعقابه بأحكام قد تصل إلى إعدامه ، أما على المستوى الدولى ، فإن ذلك لا يحدث إلا فى حالات إستثنائية لا يمكن التعويل عليها ، فالدول قد تقصف الأطراف الأخرى ، أو تحاصرها إقتصاديا ، وربما تغزوها ، دون أن تجد بالضرورة (بعيدا عن الشجب والإدانة) ما يوقفها .
إن الرادع الوحيد المؤثر لسلوك الدول على المستوى الدولى ـ فى ظل هذا الوضع ـ هو موازين القوى مع الأطراف المتضررة مما ترغب فى القيام به ، فقوة أى دولة لا يمكن مواجهتها إلا بقوة الدول الأخرى فقط ، التى قد تتخذ مظاهر دبلوماسية أو إقتصادية أو عسكرية حسب طبيعة الواقعة . وبالتالى ، لا يوجد أمام الدول خيارات أخرى بعيدة عن ضرورة الإعتماد على نفسها (قوتها الخاصة) ، مدعومة أحيانا بقوة الدول المتحالفة معها ، للتعامل مع المشكلات التى تواجهها ، فالقيود التى تفرضها قواعد القانون الدولى أو مواثيق المنظمات الدولية قد تكون غير كافية ، ولا يمكن التأكد من فعاليتها بدرجة تتيح الإعتماد عليها بصورة أساسية .
وبالطبع ، فإن العقود الأخيرة ، وصولا إلى مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة التى تتشكل فيها أسس العولمة ، قد شهدت نوعا من التبلور لما يسمى مجازا قواعد لعبة تحيط بسلوكيات الدول ، وتنظم بعض أنماط علاقاتها ، فى ظل ما يبدو أنه قيم عالمية كالتدخل الإنسانى والأمن الجماعى ، و ضبط التسلح و الإعتماد المتبادل ، وهو ما جعل العالم أقل فوضى بكثير مما كان عليه فى مراحل سابقة ، لكن انضباط العلاقات الدولية لم يصل إلى الدرجة التى تجعل من العالم أشبه بدولة ذات حكومة مركزية ، فلا تزال القوة تستخدم استنادا على رؤى الدول لمصالحها الخاصة ، لا يزال من المتعذر الاستناد على نوايا أو أخلاقيات الآخرين ، وبالتالى ظلت قدرات الدول هى المعيار الأكثر استقرارا . فلم تعد الدول ـ بفعل التطورات الحديثة ـ تفترض دائما أن الآخرين سوف يهاجمونها عند أول فرصة سانحة ، كما كان الحال فى الغابة ، لكنها لا تملك إلا أن تكون مستعدة لمواجهتها إذا قامت بذلك .
فى هذا السياق ، تأتى أهمية موازين القوة التى تحكم التفاعلات بين الدول فى إقليم معين أو على المستوى الدولى ، إذ أنه مفهوم متعدد الأبعاد يستخدم ـ فى ظل عدم وجود تعريف دقيق له ـ فى الإشارة إلى المستوى المقارن (الأوضاع أو الحالات) لقدرات القوة بين الدول أو الأحلاف ، كما يشير تبعا لكثير من التعريفات إلى نمط توزيع القوة بين أطراف إقليم معين، أو فى النظام الدولى ، بل أن بعض الكتابات تستخدمه بمعنى توازن القوى الذى تحكمه نظريات وقواعد معقدة تتصل بالتحالفات أو التحالفات المضادة التى تقوم بها الدول لمنع الهيمنة والحفاظ على الاستقرار. وبعيدا عن المعنى الأخير ، يمكن رصد أهم الإشكاليات المتصلة بموازين القوة فى نقطتين :
الأولى : مستويات علاقات القوة بين الدول .
إن عناصر القوة المقارنة للدول تطرح ـ بصفة عامة ـ عدة مفاهيم أساسية ترتبط بعلاقات القوة بين الدول على مستوى قدراتها الشاملة ، وقدراتها العسكرية ، أهمها ما يلى :
1 - مفهوم التوازن (الميزان) الاستراتيجى:
ويقصد بالتوازن ـ أو بصورة أدق الميزان ـ الاستراتيجى العلاقة بين محصلة القوة لأطراف علاقة دولية ما ، وهو بهذا المعنى يتخطى مفهوم الميزان العسكرى شائع الاستخدام ، ويتضمن أبعادا إقتصادية وثقافية وسياسية ، إضافة إلى البعد العسكرى ، فهو حالة التوازن الناتجة عن قياس عناصر القوة القومية لطرف ما مقارنة بقياس نفس العناصر لدى الطرف الآخر، بما فى ذلك تحالفاتها الدولية وعلاقاتها الثنائية ومتعددة الأطراف فى النظام الإقليمى الذى ينتميان إليه .
ويكتسب هذا المفهوم أهميته فى مجال إدارة الصراع تحديدا ، فالصراعات هى مواجهة شاملة بين دولتين أو مجتمعين متقابلين، يستخدم كل منهما فى إدارتها عناصر قوته الشاملة، وليس قوته العسكرية فقط ، وحتى فى حالة نشوب حرب ، فإن نتيجة الحرب لا تتوقف فقط على موازين القوة المسلحة فى مسرح العمليات ، وإنما علاقات القوة الشاملة بين الجانبين وقد وضح ذلك خلال حرب السادس من أكتوبر 1973 على أكثر من مستوى ، أسهم كل منها فى تحديد النتائج النهائية للحرب .
ويرتبط ذلك المفهوم بمفهومين فرعيين يعبران عن حالة الميزان الإستراتيجى ، وتتحدد من خلالهما الخيارات والبدائل المتاحة لكل دولة فى إدارتها لتفاعلاتها مع الدول الأخرى . فحالة التوازن أو التعادل أو التكافؤ فى القوى تخلق موقفا من الشعور بالقدرة على الحركة، وإمكانية المناورة والمساومة ، وتوجد فرصا وبدائل متعددة ، أما حالة الاختلال الإستراتيجى، فإنها تخلق وضعا مختلفا ، ففيها يشعر أحد الأطراف أن بوسعه حسم الأمور بالقوة ، وأن الطرف/ الأطراف الأخرى لن تغامر باللجوء إلى السلاح ، بحكم كون النتيجة معروفة مسبقا ، أما ذلك الطرف الآخر ، فإنه يجد نفسه فى مأزق عليه أن يكافح باستمرار للبقاء فى اللعبة فى إطاره ، بأقل خسائر ممكنة. وبينما تؤدى حالة التوازن إلى نوع من الردع المتبادل والحسابات الدقيقة لكل طرف قبل الإقدام على خطوة حادة ، فإن حالة الإختلال تفتح الطريق إلى إحتمالات عدم الإستقرار فى ظل رغبة طرف فى الهيمنة ، ومقاومة الطرف الآخر لذلك .
ساحة النقاش