إن العلاقة بين امتلاك عناصر القوة والقدرة على التأثير فى سلوك الأطراف الأخرى ، تشكل ـ كما كانت دائما ـ أهم المعضلات المطروحة فى الدراسات الاستراتيجية ، إذ أنها ترتبط بواحدة من أهم ظواهر العلاقات الدولية ، وهى عجز القوة . فقد أثبتت الأحداث التى شهدتها مناطق مختلفة من العالم أن هناك بالفعل نوعا من عدم الإتساق بين أساس القوة ومقدار التأثير ، فبعض الدول القوية لم تكن قادرة على تحقيق أهدافها تجاه دول أقل قدرة منها ، كحالة الولايات المتحدة فى فيتنام ، وحالة الاتحاد السوفيتى السابق فى أفغانستان ، وحالة إسرائيل فى لبنان . كما أن بعض الدول الصغيرة كانت قادرة على مقاومة ضغوط وتهديدات الدول الكبرى ، كما كانت قادرة على الحصول على إمتيازات تجارية أو تنازلات دبلوماسية إزاء أطراف تمتلك قدرات إقتصادية أو عسكرية ضخمة ، وهو ما طرح فى مجمله أسئلة متكررة مثل : كيف تفشل القوى الكبرى فى تحقيق أهدافها تجاه دول أضعف ؟ وكيف تتمكن القوى الضعيفة من التأثير فى الدول الأكبر قوة ؟، ويثير ذلك مباشرة مسألة محددات التأثير .

وبداية ، يجب التذكير بأن القاعدة هى أن القوة تؤثر ، لكن ـ كما سبق القول ـ فإن العلاقة بين امتلاك عناصر القوة والقدرة على التأثير ليست مباشرة ، فهناك متغيرات وسيطة تؤثر على ممارسة التأثير ، منها ـ على سبيل المثال ـ ما يلى :
1 -
تأثير العوامل الخارجية :
فعملية التأثير لا تتم فى فراغ ، وإنما فى بيئة دولية أو إقليمية تفرض بعض القيود عليها، وبالتالى فإنها ليست فقط محصلة لعناصر القوة الذاتية لأطرافها المباشرة ، وإنما قوى وتفاعلات متشابكة ، فقد كان الغزو العراقى للكويت فى أغسطس 1990 عملية ثنائية كويتية ـ عراقية عبرت عن نمط علاقات القوة بين الطرفين ، إلا أن حرب تحرير الكويت فى يناير 1991 شهدت دخول أطراف ثالثة فى لعبة القوة ، أهمها الولايات المتحدة التى أصبحت هى ـ وليست الكويت ـ الفاعل الرئيسى فى الجانب المضاد للعراق . وتشهد معظم الصراعات الدولية مثل هذه التدخلات (كما حدث فى البلقان) المباشرة (بالقوات) أو غير المباشرة (عن طريق الإمداد بالأسلحة مثلا) ، مما يؤدى إلى تغيرات حقيقية فى النتائج المتصورة لعملية ممارسة القوة .

2 -
رد الفعل المضاد :
فمن الصعب ـ كما تمت الإشارة من قبل ـ وجود موقف لا تتخذ فيه الدولة الهدف (ب) ـ مهما كانت نسب علاقات القوة ـ أشكالا للتأثير فى سلوك الدولة الفاعلة ، فقد لا تستجيب الدولة الهدف مطلقا ، أو بصورة فورية ، أو بشكل كامل ، لما يراد منها أن تفعله ، بما يفرز نتائج غير واضحة ، بل إنها قد تحاول التأثير بصورة مضادة قد تكون فعالة للغاية ، ليس لامتلاكها أدوات قوة إيجابية ، وإنما لقدرتها ـ أكثر من الدولة الفاعلة ـ على إحتمال قدر أكبر من الخسائر البشرية تحديدا ، بما يعنى اعتماداً على نقاط ضعف القوة الكبرى، خاصة إذا كانت الدولة الكبرى تواجه مشكلة شرعية أخلاقية فيما تقوم به ، بما يترتب على ذلك من تداعيات داخلية وخارجية محتملة ، والأمثلة واضحة فى حالة فيتنام ولبنان وأفغانستان (2001 )، إضافة إلى حالة انتفاضة الأقصى (2000ـ2001) بين الفلسطينيين وإسرائيل ، فبعض الشعوب (كما فعلت الجزائر فى مقاومتها لفرنسا سعيا للإستقلال) قد تكون على استعداد للتضحية بمليون شخص فى سبيل هدفها .
ويظل ثمة عامل هام يحدد بدرجة كبيرة احتمالات نجاح أو فشل عملية التأثير ، وهو موازين الاحتياجات بين الدولتين المتعاملتين معا ، والقاعدة العامة هى أنه كلما كانت الدولة (ب) فى حاجة أكبر ، أو معتمدة بشكل أوسع ، على الدولة(أ) ، فإن احتمال نجاح أعمال (أ) فى تغيير سلوك (ب) أو الإبقاء عليه يكون أكبر ، فالدولة الأضعف فى ميزان الإحتياجات تكون أكثر عرضة لأعمال التأثير ، مقارنة بالدولة الأخرى ، أو بعبارة أخرى ، تكون أكثر استعدادا للاستجابة ، أو ميلا للتصرف بالطريقة التى ترغب فيها الدولة الأخرى ، حتى لو كانت الدولة (أ) تعتمد على أعمال التأثير اللاشعورية ، التى لا ترتبط بأفعال (مطالب ، تهديدات) محددة .
لكن ذلك يفسر أيضا قدرة بعض الدول الصغيرة ، التى لا تمتلك قدرات متعددة ، على الحصول على بعض التنازلات ، أو تحقيق بعض الأهداف ، إزاء دول قوية ، فى حالة ما إذا كانت تلك الدولة (الصغيرة) تسيطر على موارد تمثل حاجة ملحة ، ترتبط بها مصالح حيوية للدولة الكبرى ، ففى ظل اعتماد الولايات المتحدة ، وبعض الدول الغربية على بترول الشرق الأوسط خلال السبعينات ، كانت دول الخليج العربية - وربما لاتزال - قادرة على ممارسة مستويات واسعة من التأثير ، أو مقاومة بعض عمليات التأثير المضادة . فبصرف النظر عن كم وكيف عناصر القوة الشاملة للدولة ، كلما زاد إعتماد (احتياج) الدولة (أ) أو (ب) على الدولة الأخرى ، اقتصاديا ، تجاريا ، أمنيا، كلما قلت معه قدرتها على مقاومة تأثيراتها، والعكس .
وثمة عامل إضافى ، يطلق عليه درجة التجاوب الداخلى فى دولة معينة إزاء الدول الأخرى ، يكتسب أهميته فى حالة تساوى احتياجات الدولة المعنية إزاء الدول الأخرى ، ويرتبط هذا العامل بمستوى العلاقات الخاصة القائم على أبعاد داخلية ، فقد تكون الولايات المتحدة على إستعداد للتجاوب مع مطالب تسليحية تقدمها اسرائيل بأكثر من استعدادها للتجاوب مع نفس المطالب التى تقدمها دولة عربية أخرى ، رغم وجود مصالح (إحتياجات) أمريكية حيوية لدى الطرفين ، بفعل التوجهات الداخلية السائدة فى الولايات المتحدة ، ونفوذ اللوبى اليهودى فى دوائر صنع القرار بواشنطن ، كما أنها قد تكون على استعداد للتجاوب مع مطالب بريطانية أكثر من استعدادها للتفاعل مع مطالب فرنسية ، لاعتبارات سياسية تاريخية أو ثقافية أو حتى عرقية، فنمط العلاقات السائد يمثل محددا ذا أهمية .
ولقد أدت التأثيرات الواضحة لتلك العوامل ببعض التحليلات إلى صياغة ما يشبه معادلات لقياس التأثير ، كالقول بأن قوة الدولة (أ) تعتمد على ثلاثة عوامل هى : مدى الحاجة (النسبية) للدولة (ب) لبعض القيم الأساسية التى تتحكم فيها (أ) بقدر مناسب + تحكم (ب) فى قدر مناسب من القيم النوعية فى مجال معين التى ترغب (أ) فيها، وتحاول الحصول عليها باستخدام قوتها ضد (ب) + مهارة وفعالية (أ) فى تحويل الطاقة الكامنة لأسس القوة لديه إلى قدرة فعلية تؤثر على سلوك (ب) .

 

 

المصدر: أ. محمد عبد السلام - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/YOUN68.HTM
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 77 مشاهدة
نشرت فى 12 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

284,128