إن العلاقات الدولية لا تسير فى كثير من الأحيان تبعا لمثل هذه الفروض البسيطة ، فهناك تأثيرات مركبة لعوامل معنوية وإدراكية ذات طابع انسانى يصعب قياس أوزانها أو توقع اتجاهات تأثيراتها ، على عملية التأثير ، رغم وجود يقين بأنها قائمة وفاعلة ، كالعناد والكرامة ، واللاعقلانية ، والعقد النفسية والحساسيات التاريخية ، وأخطاء الحسابات وسوء الإدراك ، وقوة الإرادة ، إضافة إلى الغرور والكبرياء .
ولقد أدت تلك التعقيدات إلى محاولات أكثر عمقا لتحليل أبعاد Dimensions مفهوم القوة، على نحو يمكنه معه فهم محددات تأثيرها بصورة أدق ، إذ أنها تمثل مدخلا لتحديد أى قوة يمكن أن تؤثر على من ، فى إتجاه الحصول على ماذا ، بفعل ماذا ؟ فالفكرة العامة هى أن القوة تؤثر فى إطار أبعاد معينة يعبر كل منها عن مضمون مختلف ، بحيث يمثل كل منها محددا للتأثير ، ويمكن - بشكل عام ـ رصد أهم تلك الأبعاد ، ودلالاتها بشأن حدود القوة ، فى النقاط التالية :
1 - ثقل القوة The weight of power :
ويعنى ثقل القوة تأثير عامل ما على عملية معينة ، أى مدى قدرته على تغيير احتمالات النتائج التى يمكن أن تسفر عنها تلك العملية . كمدى تأثير موافقة أو معارضة مصر لعقد قمة عربية - قبل ان تصبح منتظمة - على احتمالات عقدها أو عدم عقدها ، ومدى تأثير تأييد أو اعتراض الولايات المتحدة على مشروع قرار يقدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة على نتائج التصويت عليه ، أو مدى تأثير تعاون أو معارضة باكستان على الحملة الأمريكية ضد أفغانستان ، فما يتم التركيز عليه فى هذه الحالة هو تحليل تأثير فعل محدد فى حالة معينة . ويكتسب ذلك أهميته من وجود مقولات مسيطرة أو أسئلة معينة بشأن أفعال أو إشكاليات محددة تتطلب التحليل ، كالقول ـ كما سبقت الإشارة فى البداية ـ أن استخدام الولايات المتحدة القنبلة الذرية ضد اليابان هو الذى أدى إلى استسلامها ، أو التساؤل حول مدى تأثير الاعتراضات الإيرانية فى فشل البعد العسكرى لإعلان دمشق خلال التسعينات . وثمة إمكانية نسبية للتوصل إلى نتائج أكثر تحديدا ـ وإن ظلت تقريبية ـ فى إطار التركيز على وزن القوة، فالقوة ـ بهذا التصور ـ تشبه السببية فى دراسات المنطق إلى حد كبير .
إن أهمية بعد ثقل القوة فى تحليل التأثير تأتى من أنه يلقى الضوء على ظاهرة أساسية ترتبط بقضايا تقليدية يتم تناولها فى إطارها عادة ، كأسس القوة أو استخدامات القوة، فثقل قوة الحكومات الحديثة أكبر بكثير مما كان متوافر لها فى الماضى ، وتأثيرات الدول الصناعية أكبر من تأثيرات دول الجنوب التى لاتزال فى المراحل الأولى من التطور الصناعى، بحكم تطور أسس (موارد ، أدوات) قوتها ، كما أن ثقل القوة لمعظم الحكومات ـ حتى فى الدول الكبرى ـ يتدهور عما كان عليه فى منتصف القرن العشرين ، فلم تعد فرنسا (على سبيل المثال) قادرة على أن تبدى رأيا ببساطة فى شأن جزائرى دون أن يعتبره الجزائريون تدخلا ، بينما كانت تدير شئونها بالكامل من قبل فى ظل احتلالها . كما أن القوة اللازمة لإحداث نتيجة معينة قد لا تكون هى القوة المطلوبة لتحقيق تأثيرات أخرى ، ولا يمكن تحويلها اليها دون خسائر ، فمن الممكن النظر بإهتمام إلى اعتراض إيران على الشق العسكرى من إعلان دمشق ، لكن يصعب تصور تأثيرات لمثل هذا الاعتراض على الشق الإقتصادى مثلا ، فنوعية القوة التى تتيح لها أن تنتقد عسكريا لا تتيح لها أن تفعل ذلك بالنسبة للتعاون الإقتصادى، والأهم أن ثقل القوة المحدودة بطبيعتها يجعلها فعالة نسبيا عندما تستخدم كقوة سلبية معارضة ، أكثر مما يمكن أن تكون فعالة كقوة إيجابية تفرض ترتيبات محددة مختلفة، فحتى إذا كان من الممكن تصور ـ تبعا للمثال السابق ـ أن ثقل الإعتراض الإيرانى كان مؤثرا على الترتيبات الأمنية المشار إليها ، لا يمكن تصور أن إيران قادرة على فرض ترتيبات بديلة تكون هى طرف فيها .
2 - نطاق القوة The domain of power :
ويعبر نطاق القوة عن عدد الدول التى يمكن أن تكون قابلة للتأثر بوجود أو استخدام تلك القوة ، أى مجموعة الأطراف الذين يتغير سلوكهم المحتمل بشكل ملموس عن طريق استخدام القوة من قبل دولة معينة، فميدان استخدام قوة حكومة أوكرانيا أو تشيلى ينحصر تقريبا فى سكانها، ومواطنيها وسفنها وطائراتها وسفاراتها فى الخارج ، أما بالنسبة لحكومة الولايات المتحدة، فإنها ـ إضافة إلى سكانها ومصالحها فى الخارج ـ تؤثر بطريقة ملموسة، ولو بشكل غير مباشر ، على كثير من الدول الأخرى (بسكانها ومصالحها) ، وكذلك فإن الفاتيكان تمارس نفوذا واسع النطاق ، فى مسائل مختلفة ، على الأتباع الكاثوليك على امتداد الساحة الدولية ، فلبعض أنواع القوة نطاقات تتجاوز الحدود ، ولقد كان للإتحاد السوفيتى السابق قدرة على إخماد ثورات الشعوب فى الدول التابعة له (كتشيكوسلوفاكيا عام 1968) ، وتوجيه معظم الأحزاب الشيوعية الموالية له فى دول العالم المختلفة ، وينطبق ذلك أيضا على الموارد كالبترول والماس واليورانيوم ، وليس السكان فقط ، فلبعض أنواع القوة نطاقات تتجاوز الحدود القومية بوسائل أخرى .
3 - مدى القوة The rang of power :
ويشير مدى القوة إلى الفارق بين أعلى درجات الثواب (المكافأة) وأسوأ درجات العقاب (العنف) الذى يستطيع طرف ما منحه أو توقيعه على طرف آخر داخل نطاق قوته ، فالسلطات السياسية فى دولة ما ـ تفترض أن سكانها داخل نطاق قوتها ـ لا تتمتع بنفس درجة السيطرة على كل الأفراد ، أو الجماعات ، فمدى قوتها يتفاوت (أكثر أو أقل) من جماعة لأخرى . وتكون القوة عند حدودها الدنيا بالنسبة لمن لا يريدون شيئا أو لا يخشون شيئا ، وكذلك الدول على الساحة العالمية ، فما تسميه الإدارة الأمريكية الدول المارقة هى فى الواقع الأطراف الخارجة عن نطاق السيطرة ، بغض النظر عن تقييم سياساتها .
ساحة النقاش