ثانيا : تطور المفهوم السياسى للدستور فى الدول العربية والإسلامية:

بالرغم من ان مدلول الحكومة أو السلطة المقيدة مدلول اصيل فى الفكر السياسى العربى الإسلامى منذ العصور القديمة ، فالحاكم المسلم لا يملك حق التقنين بمعنى وضع القانون أو تغييره ، كما ان سلطته مقيدة لأن هناك سلطة تعلوها ممثلة فى أحكام القرآن والسلطة ، الا ان تقييد سلطة الحاكم الفعلية كانت فى الواقع محدودة التأثير ، ونادراً ما جاوزت فرض احترام الأسس الاجتماعية والدينية المقبولة فى المجتمعات الإسلامية ، الامر الذى ادى فى النهاية الى ازدياد قوة الحاكم وتسلطه وصولا الى مرحلة الاستبداد بالحكم 
ومع بداية عصر النهضة الحديثة فى المجتمعات العربية والإسلامية فى القرن التاسع عشر ، بدأ المفكرون العرب والمسلمون يشعرون بخطورة هذا الوضع، خاصة مع تراجع مكانة الدول العربية والإسلامية وخضوع معظمها للاستعمار الغربى ، ولعل ابرز من عبر عن هذا عبد الرحمن الكواكبى فى كتابه الهام طبائع الاستبداد الذى رأى فيه أن الاستبداد بمعنى سلطة الفرد المطلقة مناهضة للعلم والدين والعمران والتقدم وأكد على ان الاستبداد هو المشكلة الأساسية فى الحياة السياسية فى المجتمعات العربية الإسلامية ، والاستبداد يؤدى الى الغاء الوجود المعنوى لأمة والغاء مبدأ رقابة الأمة على الحاكم وقد يكون المستبد فردا أو حكومة تتجاوز شتى الحقوق ، لأن الاستبداد أساسا هو التصرف فى الأمور المشتركة بمقتضى الهوى. وقد اكد الكواكبى على ضرورة التخلص من الاستبداد وتقيد سلطة الحاكم، وقد اكد الشيخ محمد عبده انه لا مجال فى الشريعة الإسلامية للأهواء والمصالح الشخصية أو الفئوية ، وأن الأصل هو ان الحاكم مقيد بالكتاب والسنة 
ورأى الشيخ رشيد رضا ان السلطة التنفيذية اى الحكومة يجب ان تخضع للشريعة وللدستور الذى يجب ان يأتى موافقا لها، وقال بديموقراطية التشريع ، مرتئياً امكانية اشتراك اعضاء غير مسلمين فى المجلس التشريعى او مجلس النواب كما يسميه ، وهو يعتمد قاعدة التصويت بالأكثرية المطلقة فى نطاق هذا المجلس 
ويذكر الباحث اللبنانى جميل منيمنة فى دراسة بعنوان نماذج من تطور المصطلح السياسى العربى ان رشيد رضا يرى ان الحكومة الدستورية هى الموافقة للدين الإسلامى ، اما الدستور فهو شريعة البلاد وقوانينها التى يضعها اهل الرأى عن طريق الشورى ، وعلى ذلك فليس للحاكم ان يستبد بالأمر ، بل عليه التقيد بالشريعة والقوانين التى وضعها أهل الشورى.
ويذكر برنار لويس فى كتابه لغة السياسة فى الإسلام انه مع بداية عصر النهضة العربية الإسلامي رأى المفكرون العرب والمسلمون ان حل مشكلة السلطة المطلقة يتمثل فى الحكومة الدستورية ، ففيها رأى مسلمو الشرق الأوسط وبقية المسلمين انها السر فى حرية الأوروبيين وازدهارهم وقوتهم ، وأول دستور اعلن فى دولة اسلامية كان فى تونس عام 1861 وتبعها آخرون وبالذات فى تركيا ومصر وايران. ويذكر ان أول دستور اسلامى وضع نتيجة لحركة معارضة ناجحة ضد الحاكم كان الدستور الايرانى الذى اجبر الشاه على توقيعه عام 1906 ، ويذكر ان المصطلح الذى استخدم فى البداية للدلالة على الدستور هو مصطلح القانون الأساسى وذلك من اجل التمييز بينه وبين أحكام الشريعة ذات المصدر الإلهى.
ويشير برنار لويس الى تأثير الفكر الأوروبى الغربى الواضح على الدساتير التى ظهرت فى البلدان العربية والإسلامية، ويذكر ان الدول الجديدة التى تأسست بعد الحرب العالمية الأولى والثانية قد زودت بدساتير مكتوبة وسلطات مقيدة على النمط الغربى وإن حاول الدستوريون المسلمون ان يجدوا اصولا لقواعدهم الجديدة من أحكام الشريعة الإسلامية والحديث
من خلال العرض المتقدم يمكن القول بأن مسار تطور الدستور كمفهوم سياسى قانونى فى المجتمعات العربية الإسلامية، وإن كان يتفق من حيث المبدأ مع السياق الغربى لتطور هذا المفهوم حيث ان محوره هو تقييد سلطة الحكم، الا انه يختلف فى عدة جوانب كان لها آثارها على تطور مفهوم الدستور وتطبيقه فى هذه البلدان ومنها مايلى :
1 -
بالرغم من وجود مرجعية عربية اسلامية بصدد دستورية النظام السياسى الإسلامى، حيث ان النظام السياسى فى الإسلام هو فى الاصل نظام دستورى، فالحاكم مقيد بأحكام الكتاب والسنة ، الا ان العودة الى المفهوم الدستورى للنظام السياسى فى هذه البلدان قد تأثرت بمرجعيات أخرى غير نابعة من واقع هذه المجتمعات الغربية الأوروبية، ومن ثم كانت العودة الى المرجعية الأصلية ليس بهدف وضع أصول مستمدة من هذه الأصول لإعادة بناء النظام السياسى الدستورى وإنما للتوفيق بين الأصيل والوافد الجديد الآتى من الغرب ، الأمر الذى اثمر بناءً سياسياً ودستوريا مفروضا من الخارج على هذه المجتمعات ، التى افتقدت الى الجذور الطبيعية 
2 -
ان هذه المجتمعات كانت فى معظمها خاضعة للاستعمار الغربى وكانت تعانى من المشكلات الناجمة عن هذا الوضع ، وبالرغم من الدعاوى التى اعلنها المستعمرون من سعيهم الى تمدن هذه المستعمرات ، خاصة فيما يتعلق بالاصلاح الديموقراطى والدستورى وترقية أوضاعها ، الا ان الدول الاستعمارية كثيراً ما عوقت مسار التطور الديموقراطى والدستورى فى هذه البلدان اذا ما وجدت فى ذلك ما يعرقل مصالحها .
3 -
حدث انقسام حاد فى نطاق النخبة المثقفة فى المجتمع بين ذوى الثقافة والتعليم الغربى، وذوى الثقافة العربية الإسلامية التقليدية، الأمر الذى ادى الى حدوث صراع فيما بينهما كانت له آثاره السلبية على مسار التطور الديموقراطى والاصلاح الدستورى فى هذه البلدان ، والغريب ان هذا الصراع لازال قائما حتى الآن بل وأكثر شدة عما كان الوضع فى بداية عصر النهضة.
4 -
ان النتائج التى تحققت فى الواقع العملى نتيجة لتبنى المفاهيم الغربية فى العمل السياسى كانت محدودة ووفقا لبرنار لويس فإن التعاويذ القادمة من الغرب لم تحدث سحرا يذكر ، والعقاقير التى قدمها الوكلاء والوسطاء الأجانب لم تعالج الامراض الموجودة فى العالم الإسلامى، الامر الذى يفرض على هذه البلدان مراجعة شاملة لأوضاعها 

 

 

المصدر: د. محمد سعد ابو عامود - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/YOUN42.HTM
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 453 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

284,200