ثالثا : تطور المنظمات الإقليمية :
جاءت نشأة المنظمات الإقليمية فى إطار محاولات تنظيم العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، والبحث عن أشكال وتنظيمات دولية تستطيع ان تحد من مخاطر عدم الاستقرار. وقد أحاطت بهذه النشأة الكثير من المخاوف والشكوك فى قدرة هذه المنظمات على تحقيق هدفها الرئيسى، بحيث يمكن الحديث عن تيارين رئيسيين، الأول دعا الى بناء تنظيم دولى قائم على أساس عالمى وليس اقليمى، ويستند فى ذلك الى مخاطر إيجاد مجالس إقليمية تقوم على ميزان القوى الذى كان سائدا قبل قيام الحرب العالمية الثانية، الأمر الذى يهدد السلم والأمن الدوليين. أما التيار الثانى فقد تبنى فكرة الإقليمية.
ورغم نجاح أصحاب التيار الأول فى فرض آرائهم فى مؤتمر موسكو الذى عقد عام 1943، إلا أن أصحاب التيار الاقليمى ما لبثوا ان حصلوا على الاعتراف بحق إقامة التنظيم الاقليمى فى خريف 1944، وإن كان اعترافا مشروطا. وقد ظلت حالة التنافس سائدة بين هذين التيارين الى إن تم حسمها فى ميثاق الأمم المتحدة الى حد كبير، إذ تضمن تأكيدا على أهمية دور المنظمات الإقليمية فى حفظ الأمن وحل المنازعات بالوسائل السلمية. وإن كان من الملاحظ أن مجلس الأمن قد احتفظ لنفسه بحق النظر فى أى نزاع يهدد الأمن والسلم بغض النظر عن قيام المنظمة الإقليمية بالنظر فى هذا النزاع أم لا.
1 - مفهوم المنظمة الاقليمية:
هذا المفهوم من المفاهيم النظرية التى لا تتخذ معيارا واحدا فى تعريفها، كما سبقت الإشارة، وإن كان هناك اتفاق على ان المنظمة الإقليمية هى هيئة دائمة تتمتع بالشخصية القانونية. وأصحاب هذا الاتجاه يعرفونها بأنها هيئة دائمة تتمتع بالإرادة الذاتية وبالشخصية القانونية الدولية وتنشأ بالاتفاق بين مجموعة من الدول يربط بينها رباط جغرافى أو سياسى أو مذهبى أو حضارى كوسيلة من وسائل التعاون الاختيارى بينها فى مجال او مجالات معينة يحددها الاتفاق المنشئ للمنظمة فى إطار مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.
فى المقابل ، نجد هناك تعريف آخر يركز على موضوع السيادة للدول الأعضاء فى المنظمة الإقليمية من خلال تعريفه لها بأنها كل شخص قانونى دولى يخلق عن طريق اتفاقية دولية جماعية ، أطرافها دول تجمع بينها مقومات التضامن الاجتماعى او الجوار الجغرافى بغية تحقيق أهداف مشتركة للدول الأعضاء فيه ، والتى لا تنتقص سيادتها بالرغم من انضمامها الى هذا التجمع التنسيقى الذى يتمتع بإرادة ذاتية مستقلة يتم التعبير عنها من خلال أجهزة دائمة تمكنها من الاضطلاع بالمهام المنوطة بها . ويحدد أصحاب هذا الاتجاه العناصر الواجب توافرها فى اى منظمة إقليمية فى التالى:
ـ ارتكاز المنظمة الإقليمية الى معاهدة جماعية ، أطرافها الدول.
ـ توافر مقومات التضامن الاجتماعى والجوار الجغرافى بين تلك الدول.
ـ تمتع المنظمة الإقليمية بصفة الاستمرارية.
ـ تمتع المنظمة الإقليمية بالشخصية القانونية الدولية .
والى جانب الاتجاهين السابقين تبرز اتجاهات أخرى تأخذ فى الحسبان أهمية توافق أهداف المنظمة الإقليمية مع أهداف الأمم المتحدة ، وأن يكون من بين أهدافها العمل على حفظ الأمن والسلم الدوليين الى غير ذلك من العناصر التى تحدد الصفة الإقليمية للمنظمة، والتى تعكس بدورها نتيجة أساسية مفادها أن ظروف نشأة المنظمات الإقليمية لعبت دورا كبيرا فى تعدد الآراء المحددة لصفة الإقليمية، والشروط الواجب توافرها لاكتساب هذه الصفة. وفى هذا الإطار يمكن الاستقرار على عدد من المعايير والاتجاهات التى طرحها معظم باحثى العلاقات الدولية وأصحاب التيار الاقليمى، نذكر منها:
الاتجاه الأول وهو الرئيسى او الغالب الذى يرى توافر شرطين لا غنى عنهما ، هما التجاور الجغرافى والانتماء الى منطقة واحدة. ولذا أطلق أصحاب هذا الاتجاه مسمى المنظمات شبه الإقليمية على تلك المنظمات التى يتوافر فيها الشرطان السابقان ولكنها تضم فى عضويتها أيضا دولاً أخرى من غير المنطقة الجغرافية.
الاتجاه الثانى ينطلق من معيار شروط العضوية ، بحيث يقصر صفة الإقليمية على تلك المنظمات التى لا تكون شروط العضوية فيها مفتوحة لكل الدول حتى وإن ضمت دولاً من مناطق مختلفة، مثل حركة عدم الانحياز.
الاتجاه الثالث يستند الى موقع الدول من المنطقة الجغرافية، ويفرق فى هذا السياق ما بين دول القلب والدول الهامشية ـ رغم الصعوبة التى ترتبط بهذا التقسيم ـ وخاصة فى تلك المناطق التى تفتقر للتعريف العلمى مثل الحديث عن منطقة الشرق الوسط ودخول بعض الدول او الخروج منها وفقا لأسباب سياسية او استراتيجية. وتتراجع هذه الصعوبات عندما نتحدث عن منطقة جغرافية تمتلك من الخصائص التاريخية والحضارية ما يجعلها تتميز عن غيرها من المناطق مثل الحديث عن المنطقة العربية.
وتثير الاتجاهات الثلاثة السابقة حالات من عدم الوضوح التى ترتبط بعملية تصنيف المنظمات مابين إقليمية وشبه إقليمية ودولية من جانب، وتعدد المعايير المحددة لصفة المنظمة وأهدافها من جانب ثان ، ومدى اتساع إطار الحركة الخاص بالمنظمة من جانب ثالث، الأمر الذى يقودنا الى النقطة التالية الخاصة بأوجه التمييز بين المنظمة الإقليمية والأخرى العالمية من جانب، وتصنيف المنظمات الإقليمية وفقا لدورها من جانب أخر.
2 - الفرق بين المنظمة الاقليمية والمنظمة العالمية:
أول مظاهر التفرقة وأكثرها تحديدا للصفة الإقليمية عن العالمية يرتبط بنطاق العضوية. فالمنظمة العالمية هى التى يمكن ان تشترك فى عضويتها أية دولة من دول العالم بصرف النظر عن موقعها الجغرافى أو مذهبها السياسى أو الحضارى أو غيرها. أما المنظمات الإقليمية فهى التى تقتصر فيها العضوية على عدد من الدول بعينها بحيث لا يمكن اشتراك الدول الأخرى فى عضويتها.
أما ثانى مظاهر التفرقة فقد حددته المواثيق والمعاهدات الدولية، فعلى سبيل المثال نص ميثاق عصبة الأمم فى مادته الـ 21 على شرعية قيام الاتفاقات الإقليمية ( وإن لم تحدد معنى هذا الاتفاق او عناصره) . كما نجد ان ميثاق الأمم المتحدة تناول العلاقة بينها وبين المنظمات الإقليمية فى المواد 52،و53و54 فى الفصل الثامن، وذلك بالتأكيد على ضرورة توافق أهداف المنظمة الإقليمية مع مبادئ الأمم المتحدة ، وأن تستند العلاقة لعدد من الأحكام العامة أبرزها حرص الدول الأعضاء فى المنظمة الإقليمية على تسوية الصراعات بالطرق السلمية ، وأن يدعم مجلس الأمن هذه المنظمات على تسوية وحل المنازعات المحلية.
كذلك تضمنت المادة الـ 51 امكانية تأسيس منظمات اقليمية عسكرية ذات طابع دفاعى، كون هذه المنظمات تمثل إحدى وسائل تسوية المنازعات الدولية سلميا كما توضحها المادة 33 من الميثاق.
3 - تقسيم المنظمات الاقليمية :
يستند التقسيم الغالب للمنظمات الإقليمية الى طبيعة الدور الذى تقوم به المنظمة. فمن الضرورى الأخذ فى الاعتبار تعدد الأدوار والأهداف التى تقوم على أساسها المنظمة، بشكل يصعب معه فى بعض الأحيان تصنيفها نتيجة لتداخل الأدوار، ولكن يظل للهدف الرئيسى المعلن لقيام المنظمة اليد الطولى فى التصنيف، وهو ما يتضح فى التالى:
ـ المنظمات السياسية العامة، ويستند دورها الى تفعيل العمل الجماعى من خلال الإطار المؤسسى الاقليمى وتقديم الدعم للعمل المشترك فى المحيط الدولى، الى جانب حل النزاعات والخلافات بين أعضائها الذين ينتمون الى منطقة جغرافية حضارية واحدة مثل منظمة الوحدة الافريقية ومنظمة الدول الأمريكية. ومثل مجموعة دول جنوب شرق آسيا التى تتماثل فى التوجه السياسى، أو جامعة الدول العربية التى تستند الى ركيزة العامل القومى.
ـ المنظمات ذات الاتجاه الأمني ـ العسكرى ويتركز دورها على مبدأ الأمن الجماعى، حيث يكون هدفها توفير الحماية لأعضائها كدول وكمجموعة، ويشترط فى هذه المنظمات تماثل الاتجاهات السياسية مثل منظمة حلف وارسوـ سابقاـ ومنظمة حلف شمال الأطلنطى.
ـ المنظمات الوظيفية وتهدف الى التركيز على أحد محاور التعاون مثل البعد الاقتصادي، ويشترط فى أعضائها ان تنتهج نفس السياسات الاقتصادية، مثل الجماعة الأوروبية فى مرحلة ما قبل الاتحاد.
4 - المؤثرات على المنظمات الاقليمية :
تشتمل العوامل المحددة لدور المنظمة سواء كانت اقليمية او دولية على ثلاثة محددات هى:
أ - البيئة الخارجية أو الدولية: تلعب التفاعلات العالمية وطبيعة النظام الدولى دورا رئيسيا فى تحديد شكل وأداء المنظمات. فمع سيادة مناخ الحرب الباردة واشتداد حدة الاستقطاب الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، كثرت الضغوط الواقعة على المنظمات الدولية والإقليمية على السواء، الأمر الذى يجعلها اقرب لأن تكون أداة فى الصراع او مجرد منتدى للمواجهات السياسية مما يحد من محتوى اى دور مستقل او مؤثر بعيدا عن لعبة الاستقطاب. فى المقابل نجد ان الصورة تختلف نسبيا فى حالة الانفراج الدولى حيث تزداد القدرة على الحركة بعيدا عن لعبة القوى التى تمارسها القوى العظمى ، مثل ذلك تنامى دور الجماعة الأوروبية على مستوى سياستها الخارجية فى الفترة ما بين 1968 و1972 وبلورة دورها السياسى. وما بين الصورتين نجد ان هناك نماذجا مثل حركة عدم الانحياز والمجموعة الأفروآسيوية انطلقت كمحاولة لتجاوز تأثيرات حدة الاستقطاب والرغبة فى عدم الارتباط بأي من القوتين العظميين أثناء النظام العالمى ثنائى القطبية ( الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى).
ب - البيئة الاقليمية: تشكل درجة التناغم والتوافق على المصالح العامة والأهداف من جانب ، وتحجيم النزاعات والخلافات من جانب ثان، ومساحة الحركة التى تتوافر لقيام المنظمة بدور نشط سواء بين اعضائها او على المستوى الدولى من جانب ثالث . وفى هذا الاطار تبرز عوامل مساعدة مثل تشابه النظم الاقتصادية والسياسية جنبا الى جنب مع الالتفاف حول قضايا جوهرية مثل قضية التحرر الوطنى فى الخمسينيات والستينيات وقضية مناهضة التمييز العنصرى وقدسية الحدود والصراع العربى الاسرائيلى، حيث برزت مثل هذه القضايا كعوامل دافعة لنشاط منظمة جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الافريقية، على سبيل المثال، وكشروط لقبول العضوية بها.
ج - درجة المؤسسية: تتفاوت المنظمات الإقليمية فى تحديد إطار الحركة الخاصة بها وفقا لما توضحه المواثيق والمبادئ العامة التى اتفق عليها مؤسسو المنظمة، ولذا نجد مثلا ان الأمانة العامة فى منظمة الوحدة الافريقية يقتصر دورها على الدور التنظيمى الإداري، بينما يتجاوز دور مثل هذه الأمانة فى منظمة الدول الأمريكية وجامعة الدول العربية الدور الادارى وهو ما ينطبق ايضا بدرجة اكبر فى حالة الاتحاد الاوروبى. ويمكن ارجاع هذا التفاوت الى الحرص على الاستقلالية من جانب الدول الاعضاء فى المنظمة ، وخاصة بالنسبة للدول التى نالت استقلالها فى فترة قريبة من دخولها منظمة اقليمية.
ساحة النقاش