غير أن التحويل البيروقراطى لأنشطة البحوث والتطوير، بمعنى تضخم مراكز البحوث والتطوير واكتسابها شكلاً وظيفياً ومؤسسياً، وخاضعاً بدرجة أو بأخرى لأنشطة الشركات الكبرى والعملاقة ليس غير مظهر واحد من مظاهر العقلانية الذرائعية، أو العقلانية العملية البراجماتية التى لا يهمها سوى النجاح بمعايير السوق الاقتصادى. فهناك مظاهر أكثر خطورة تتوافق مع التفسيرات الأشد تطرفاً للعقلانية العملية. وقد نسب مؤرخ كبير للتكنولوجيا الغربية بقدر واضح من الفخر والبهجة نجاح الغرب فى التصنيع والعلم جزئياً الى مظهر خاص لهذه العقلانية وهو ما يمكن تسميته بالفاوسته Faustian. فيقول لانزد فى معرض تفسيره لصعود الحضارة الغربية الأوربية أن العامل الأول هو إزدهار طبقة من المنظمين الصناعيين الرأسماليين فى إطار مدن - دولة فى البداية. أما العامل المميز الثانى لأوربا فهو ما يسميه القيمة العالية الموضوعة على التلاعب العقلانى بالطبيعة. ويمكن تحليل هذا العامل بدوره الى عنصرين: الأول هو العقلانية ، والثانى هو ما يمكن تسميته بالادراك الفاوستى بالرغبة فى السيطرة على الطبيعة والإنسان. (Londs/21) .

(وفاوست - كما هو معروف - هو الشخصية التى ابتكرها الفيلسوف الروائى الألمانى الكبير جوتة والتى أقنعها الشيطان فى النهاية بأن الطريق الى المجد والعظمة إنما يمر به) .
وقد ظهر هذا الانحراف الفاوستى الممسوس بفكرة السيطرة على الطبيعة والإنسان مراراً فى التاريخ العلمى والتكنولوجى الحديث لأوربا. غير أن مظهرين بالذات قد يصورا الأمر بصورة أفضل: الأول هو الأولوية الكبرى الممنوحة لتطوير نظم التسليح وتكنولوجيا الحرب، والثانى كامن بدرجة اقل سفوراً فى الثورة التكنولوجية الراهنة، وخاصة فى مجالى التكنولوجيا الحيوية والمعلوماتية.
فمنذ أن أطلق فرانسيس بيكون صيحته المعروفة فى القرن السادس عشر أن المعرفة قوة Knwoledge is Power مثلت التطبيقات العسكرية رافعة مهمة للتقدم التكنولوجى. وما أن بدأت الجيوش النظامية المحترفة فى الظهور كأحد أهم أركان الدولة القومية، حتى صار التطبيق المنهجى للإكتشافات والابتكارات التكنولوجية فى المجال العسكرى أحد الأبعاد الثابتة فى السياسات القومية. ولم يتورع العلماء أنفسهم - والذين كانوا حتى قرب نهاية القرن الثامن عشر مندمجين الى حد بعيد مع المبتكرين والمجددين التكنولوجيين- عن إظهار الحماس لهذه التطبيقات. وكثيراً ما روج هؤلاء لنظرياتهم أو ابتكاراتهم فى بلادهم أو لدى البلاد الأخرى فى أوربا الغربية عن طريق إثبات إمكانية تطبيقها بواسطة الجيوش فى شكل نظم تسليح أو أساليب حرب جديدة .
ورغم دفاع البعض أحياناً عن براءة عالم كبير مثل ألبرت انيشتين - صاحب نظرية النسبية- إلا أنه ليس فى الإمكان إنكار دوره فى بدء مشروع مانهاتن الذى انتهى الى تصنيع القنبلة الذرية على أساس المعارف التى كانت قد تكونت فى مجال الفيزياء الذرية والرياضيات والكيمياء. إذ بدأ هذا المشروع - كما هو معروف - بالخطاب الشهير الذى وجهه إينشتين الى الرئيس روزفلت فى شهر اكتوبر عام 1939 .
وبدءاً من هذه اللحظة، أصبح الاقتران بين العلم والتكنولوجيا من ناحية وصناعة الحرب والتسليح من ناحية أخرى أخطر ظواهر ومحاور التطور الذى شهده النصف الثانى من القرن العشرين، كما أن رضا العلماء والمبتكرين وحماسهم وقبولهم للانضواء تحت مظلة مفاهيم مثل الأمن القومى، والهيبة الدولية والقوة العسكرية قد مثل أحد ملامح الانقسام فى المجتمع العلمى فى الولايات المتحدة وأوربا الغربية واليابان وغيرها من الدول الصناعية المتقدمة.
وصار من المسلم به أن السياسة التكنولوجية العسكرية أصبحت ربما أهم القوى الدافعة للتطور التكنولوجى ولطبيعة المجتمع العلمى والتكنولوجى وممارسته ، وخاصة فى الولايات المتحدة. ومنذ نهاية عقد الأربعينات، وبصفة خاصة مع تجربة الحرب الكورية أصبح دور البنتاجون غالباً ليس فقط فى مجال التكنولوجيا العسكرية، بل وفى مجال تمويل البحوث الأساسية أيضاً. (Golden/205). ففى عام 49 و1950 ذهب نحو 90% من التمويل الفيدرالى للبحوث والتطوير الى وزارة الدفاع ولجنة الطاقة الذرية. وفى عام 1953 كانت وزارة الدفاع الأمريكية تمول نحو نصف البحوث التى تجريها معامل بل حول الترانزستور، ووظفت البحوث العسكرية نحو ثلثى علماء ومهندسى البلاد . وشاركت لجنة الطاقة الذرية بنحو 4% من الانفاق على البحوث الصناعية والأكاديمية. ورغم أن هذه النسبة قد قلت بعد ذلك ، فقد استمر دور الهيئات الدفاعية على المستويين الفيدرالى والولايات والشركات غالباً فى تمويل وتصميم البحوث الأساسية والتكنولوجية.
وما يهمنا من ذلك كله فى هذا المقام هو الاستيعاب المتزايد للعلماء والباحثين والمبتكرين والفنيين، أى جانب كبير جداً من المجتمع العلمى الأمريكى فى الإطار الواسع للعسكرية الأمريكية ومشروعها لاحراز السبق التكنولوجى على المستوى العالمى. وربما لم يكن هؤلاء يشعرون بما تشتمله هذه الحقيقة من عورات أخلاقية ، ولكنها لا شك تمثل صدمة للضمير العلمى السليم.
هذه الصدمة كان يجب أن تأخذ مجراها أيضا فى مجالات كثيرة تلتقى فيها ثورة تكنولوجيا المعلومات مع معانى ودلالات وممارسات الحرب. فقد انصرف جانب لا بأس به من ثورة المعلوماتية الى ابتكار ونشر برامج ألعاب الحرب الموجهة للأطفال والشباب اليافع، على نحو يجعل الحرب جزءاً من المتعة والبهجة المتولدة عن اللعب، وخاصة على شاشات الكومبيوتر، ومحطات اللعب Play stations وغيرها من الآلات الموجهة لألعاب الصغار.
ولكن تطبيقات الثورة المعلوماتية مثلها مثل سابقاتها من موجات التجديد والابتكار التكنولوجى فى مجال ألعاب الكبار هى أكثر خطراً بكل تأكيد.
فيؤكد مارتين فان كريفلد أن الجيوش - الغربية والأمريكية تحديداً - كانت دائماً المستفيد الأكبر من الابتكارات التكنولوجية، وأن هذه الافادة لم تقتصر على أنظمة التسليح، وإنما امتدت الى استراتيجيات الحرب أيضاً. فقد غيرت تكنولوجيا التلجراف وشبكات السكك الحديدية معنى الحرب وجعلتها ممارسة قومية وأنشأت أنماطاً جديدة من المنافسات العسكرية والاستراتيجيات الحربية بنهاية القرن التاسع عشر. وسريعاً ما كانت الجيوش هى الأكثر إفادة من تكنولوجيا الطيران والتقدم فى التحليل والتخليق المعملى للمواد الكيماوية ، وتم توظيف جميع أوجه التقدم هذه فى الحرب العالمية الأولى، ثم فى الحرب الثانية. وشهدت الأخيرة تطبيقات نموذجية لكل التكنولوجيات التى سبقتها، وولدت فى سياقها عشرات ، بل مئات من التطبيقات الجديدة ، وخاصة أسلحة الدمار الشامل وعلى رأسها الأسلحة الذرية. وشهدت الحقبة التالية أسرع وأشمل نماذج التطبيق العسكرى للابتكارات والتطورات التكنولوجية فى جميع المجالات ، بما فى ذلك تكنولوجيا الصواريخ وتقنيات ، وتطبيقات غزو الفضاء.
ولكن ذلك كله قد يصبح نمطاً بدائياً بالمقارنة بالامكانيات الحالية الناشئة عن الاتحاد بين تكنولوجيا المعلومات والاستعدادات العسكرية. فثمة ثورة حقيقية تحدث الآن فى عدة مجالات ، أهمها، بدون شك، توظيف تكنولوجيا المعلومات والقيادة والسيطرة وأنظمة القصف الدقيق والذخائر الذكية بواسطة الجيش الأمريكى وجيوش حلف الناتو.
فبفضل التطبيقات العسكرية لتكنولوجيا المعلوماتية يدخل الجيش الأمريكى تحسينات جذرية فى قرارات القذف الدقيق لأهداف على مسافات بعيدة بواسطة قذائف ذكية، وهو ما ينتج زيادة ملحوظة فى قدرات القتل والسيطرة ، بحيث اصبح بمستطاع قوة عسكرية من 100.00 جندى السيطرة على ما لا يقل عن 213.000 كيلو متر مربع، بينما كانت المساحة التى تستطيع نفس القوة احتلالها والسيطرة عليها لا تزيد عن 248 كم2 فى الحرب العالمية الأولى. وأصبح بمكنة هذه القوات جعل ساحة المعركة مرقمة digitaeized بما يساعد على تنسيق مصادر نيران متباعدة جغرافياً وتحسين مستويات دقة الاصابة الى درجة غير مسبوقة ، ودمج الاستخبارات مع المناورة مع القدرة النيرانية ونظم الدعم اللوجستيكى.
وقد نتج عن هذه التطبيقات العسكرية للمعلوماتية أسلوب جديد للحرب يمكن تسميته الحرب عن بعد ، والتى طبقت أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991 والحرب ضد صربيا عام 1999، حيث لم تحتج الولايات المتحدة الى دفع قوات برية إلا فى الحالة الأولى وفى المرحلة الأخيرة من المعركة، بعد ان كانت قد قضت تقريباً على دفاعات الخصم. ويرتبط بنمط الإدارة الأمريكية لهذه الحروب إنهاء التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية، وجعل المجتمع والدولة بما فى ذلك بنيتها الأساسية الحديثة كلها هدفاً للتدمير.
وبهذه الطريقة ، تلعب التطبيقات الأحدث للثورة التكنولوجية فى الميدان العسكرى بما فى ذلك تطبيقات المعلوماتية الدور الأكبر فى جعل الحرب من طرف واحد ، أى حرب يتم فيها تدمير مجتمعات بكاملها دون أن يلحق بالطرف الأقوى (الولايات المتحدة خصوصاً) سوى الحد الأدنى من الاضرار البشرية المادية، الأمر الذى يلغى المسافة بين ألعاب حروب الأطفال والحروب الحقيقية.. أى أن الحرب قد تصبح أمراً مسلياً بالنسبة للولايات المتحدة.
ما يهمنا فى ذلك كله، ليست التكنولوجيات الأحدث المتاحة نفسها، بل من وراءها من عقول جبارة ونظم بحث وتطوير عملاقة تجمع مئات، وآلاف ممن عكفنا لعقود على تسميتهم علماء ومبتكرين ومطورين، مع ما تضمره تلك التسميات من هيبة واحترام.

 

 

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 123 مشاهدة
نشرت فى 3 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

284,142