المسألة التى نثيرها هنا، والتى تهمنا فى هذا القسم بشكل خاص هو السؤال الكبير: ماذا حدث للنسيج الأخلاقى للعلماء والمبتكرين، بل وللممارسة العلمية والابتكارية ذاتها؟ ولماذا تمكنت الحكومات من الحصول بهذه الدرجة من السهولة على تعاون وحماس هذا العدد الكبير من العلماء والمبتكرين فى تطبيق خطط لها مثل تلك النتائج المروعة والتى تغير جذرياً من فحوى العلاقات الدولية والتجربة الإنسانية ذاتها ؟
لاشك أن الإجابة تكمن جزئياً فى بعض التقاليد القديمة للعلوم والتكنولوجيا فى المجتمعات الغربية منذ الكشوف الجغرافية ثم الثورة الصناعية. كما أن بعض الإجابة تكمن فى التحويل البيروقراطى للمجتمع العلمى والتكنولوجى.
وأخيراً، فإن ثمة مسئولية كبيرة تكمن فى مفهوم العلم والابتكار ذاته. ولا يوجد مجال يذخر بالمخاطر الكامنة فى ممارسة العلم والابتكار والتجديد بدون ضابط أخلاقى أو تقييم نقدى لأهدافها، ولحدودها وموجهاتها أكثر مما يوجد فى مجال الثورة الحالية للتكنولوجيا الحيوية.
فقد ترتب على الاكتشافات الكبرى فى علوم الأحياء - البيولوجى - تطور تكنولوجيات تقوم على التلاعب فى الخصائص الجينية للكائنات الحية، وليس فقط دراستها. ومثلت تكنولوجيا الاستنساخ أخطر صور هذا التلاعب. وترتيباً على هذه التكنولوجيا لن يصير من الممكن فقط بناء مصانع بيولوجية، بل والتحكم فى التطور العضوى للإنسان ذاته، بل وتخليق بشر تم تصميمهم بصورة مسبقة عن طريق استزراع أجنة بصفات مطلوبة فى رحم الأمهات الراغبين. هذا التطور لاشك أنه يزلزل المجتمع العلمى كله، وخاصة علماء البيولوجى، حيث يطرح على الإنسانية كلها المدى الذى يمكن أن يصل إليه التحكم التكنولوجى فى جسم وكيان الإنسان ذاته، وهو أمر يناقش على مستويات أخلاقية وسياسية وقانونية.
ورغم الأخطار المحدقة، فكل قسم من أقسام البيولوجى فى كافة الجامعات الكبرى فى العالم الغربى يسعى لمنافسة الآخرين فى تطوير تكنولوجيا الاستنساخ وإظهار الإمكانيات اللامحدودة للتلاعب البيولوجى، والهندسة الجينية ليس فقط فى الكائنات الحية الأخرى، بل وبالنسبة للإنسان ذاته. (Toffler/198-205)
ومن المحتم أن يذهب العديدون من العلماء والمشتغلين بالهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية فى الجامعات ومراكز البحوث والمستشفيات وشركات الطب والتأمين الصحى الكبرى...الخ الى حد المخاطرة بالتلاعب فى تكوين الجسم البشرى. ربما على نحو يطلق قوى يستحيل السيطرة عليها، وتهديد وجود الإنسان نفسه.
ولا يمكن بالقطع إدانة هذا التطور كله أو مصادرته. فمما لاشك فيه أن للتكنولوجيا الحيوية تطبيقات مفيدة لا حد لها. ولكن ما نناقشه هنا هو ما إذا كان لدى العلماء والمبتكرين فى هذا المجال - مثله مثل المجالات الأخرى ذات الانعكاس المباشر على الوجود الإنسانى نفسه- الضوابط والكوابح الأخلاقية اللازمة لتوجيه هذا التطور الى المجالات المفيدة والمطلوبة والمتفق عليها بين الأمم وجماعات الناس.
إن المخاوف هنا مبررة للغاية، وخاصة بسبب ما أكدناه سلفاً عن طبيعة تطور العلم الغربى، والتمويل البيروقراطى لأنشطة البحوث والتطوير، وارتباطها بمصالح خاصة عملاقة تتمثل فى شركات وفئات إدارة عليا لا يمكننا الاطمئنان مطلقاً لطبيعة تعاملها مع قضايا وتكنولوجيات مصيرية بالنسبة للبشر أجمعين.
والواقع أن الصورة بالنسبة لتطور المجتمع العلمى ربما كانت أسوأ بكثير فى ظل النمط السوفيتى ، (ومن ثم الصينى وبقية الدول الاشتراكية). فقد خضع الإطار العام للمجتمع العلمى فى الغرب لقيد رئيسى تمثل فى الاقتصاد ، وتحديداً التبعية المتزايدة لمصالح الشركات الكبرى وللرأسمالية ككل، وهى تبعية تهدد حرية البحث وسلامة الضمير العلمى. ولكن العلماء والمبتكرين فى الغرب تمتعوا على الأقل بالحريات الفردية والعامة التى يكفلها الدستور والنظام الديموقراطى.
أما فى الاتحاد السوفيتى السابق فقد حُرم مجتمع العلماء والمبتكرين من الأمرين معاً، إذ لم يكن من المتصور أن يتمتعوا بالحرية السياسية، أو الاقتصادية بينما هم موظفون لدى الدولة السوفيتية، قبل أن تنهار نهائياً بنهاية عام 1991 .
ومع ذلك كله، فإن الأمر لا ينبغى تصويره، وكأن لدينا فى كل أنحاء العالم الغربى أو العالم كله قطيع من العلماء والمبتكرين الذين تملى عليهم الاحتكارات أو الدولة ما يجب أن يفعلوه لكى يطبقوه بصمت وإذعان تامين، أو كتلة من الأشخاص المجردين من الضمير والذين تتيح لهم عبقريتهم فرصة ابتكار وتحسين أدوات لا يشاركون فى تحديد وظيفتها.
لقد عرف ايلول Ellul ثورة الكومبيوتر بأنها وسائل محسنة بصورة مستديمة لأهداف يتم تعريفها بلا مبالاه. ويبدو هذا الوصف دالاً للغاية حتى الآن. ولكن ذلك لا يمنع مطلقاً أن هناك أصواتاً قوية تصدر من المجتمع العلمى بخصوص الدلالات والأمانى والقيم التى يجب أن تضبط التقدم التكنولوجى وأن تقيد الاستخدامات التى توضع فى خدمتها لمصلحة المجتمع أو الإنسانية ككل.
ففى كافة أنحاء العالم الغربى، ينظم العلماء أنفسهم بشتى الصور خارج النطاق الوظيفى الضيق. وتتنوع أشكال التجمع والروابط التى تسهم بصوت مسموع فى صياغة كثير من التوجهات التى يأخذ بها المجتمع المدنى والدولة، بل والتى تضغط بصورة فعالة على الشركات، حتى العملاقة منها.
ويختلف وزن تلك الجمعيات والروابط ، بل وشكلها تبعاً للتقاليد الثقافية والسياسية فى كل بلد. ففى ألمانيا تتمتع الجمعيات العلمية بوزن هائل فى تحديد توجهات البحوث والتطوير التى تتعهدها الدولة بالرعاية التمويلية، وتقوم الجمعيات العلمية بدور مماثل فى إنجلترا، وخاصة فى ميدان البحوث الأساسية، وإن كانت تعد أقل نفوذا الآن من مثيلاتها الألمانيات. أما فى الولايات المتحدة، فتقوم النقابات بدور أقوى فى الضبط المهنى منه فى تحديد اتجاهات البحوث. وغالباً ما يتجه العلماء الراغبون فى إصدار رسالة قوية بصدد سياسات العلم والتكنولوجيا الى استخدام قنوات الإعلام أو الاتصال الشخصى برئيس الدولة أو الكونجرس. وتقوم مؤسسات هامة مثل المؤسسة العلمية القومية (NSF) بدور يتخطى بكثير مجرد تطبيق البرامج التى تمولها الحكومات، حيث أن بوسع العلماء أنفسهم المبادرة بصياغة هذه البرامج.
وفى فرنسا نجد تعددية أقوى فى التكوين النقابى والمهنى للعلماء بفضل قوة التقاليد السياسية النشطة فى هذا البلد . ومن الناحية المؤسسية يجمع النظام الفرنسى بين ملامح متباينة من كل التجارب السابقة، هذا وإن كانت الدولة الفرنسية قادرة على المضى فى تطبيق برامجها وسياساتها الخاصة بالعلم والتكنولوجيا إلا حيثما تشتد المعارضة لها من جانب المجتمع المدنى والسياسى، بما فى ذلك الجمعيات والروابط العلمية والمهنية.
وباختصار، فإن الحريات السياسية والثقافية، ووجود غابات من المنظمات والروابط العلمية والمهتمة بسياسات العلم والتكنولوجيا فى كل بلد من البلدان الديموقراطية المتقدمة تتيح فرصاً كبيرة للضغط وبناء قواعد سلوك ملائمة فى مجال البحوث والتطوير. وفى مقابل القوة المالية والاقتصادية للشركات الرأسمالية العملاقة ووزارات الدفاع والجيوش النظامية والاتجاهات القومية واليمينية المتطرفة ، يتمتع العلماء بصوت مسموع، ويستطيع العاملون فى مجالات العلم والتكنولوجيا توجيه خطابهم الى المجتمع المدنى والسياسى، والى الحكومات بدرجات مختلفة من التأثير، والفاعلية، وذلك بوصفهم قوة منظمة.
أما فى العالم العربى، فلا يكاد يكون هناك مجتمعات علمية وتكنولوجية scincee Technology Community ، سوى فى مصر . وقد لعب هذا المجتمع دوراً مستقلاً ومرشدا للدولة قبل عام 1952 ، وذلك من خلال الجمعيات العلمية، التى ظهرت منذ أواخر القرن التاسع عشر. ومع ذلك ، فإن هذا الدور قد اقتصر الى حد بعيد على المناقشات الساخنة للقضايا العلمية والتكنولوجية، والتدخل أحياناً فى مجرى المناظرات حول الجوانب الفنية لمشروعات قومية عامة. وعملت الجمعيات العلمية بوصفها منتديات تستهدف التوعية وصياغة آراء مشتركة، وليس بوصفها تجمعات منظمة للعلماء والمبتكرين بهدف المساهمة فى صياغة السياسات العامة، لأنه لم تكن توجد سياسة حكومية للعلم والتكنولوجيا ، إلا بمعنى عرضى للغاية. أما بعد عام 1952 فقد حرمت الجمعيات العلمية من استقلالها، بل وفقدت دورها حتى فى مجال النقاش العام وصنع الرأى داخل المجتمع العلمى نفسه. وتكفل القانون 32 لعام 1964 بإخضاع الجمعيات العلمية لنفس الاطار التشريعى الحاكم للجمعيات الأهلية بصورة عامة. غير أن الدولة كانت قد بدأت فى صياغة سياسة ما للعلم والتكنولوجيا، وعملت على نشر مراكز البحوث والتطوير، والقيام بتشكيل فرق من العلماء والمختصين للإضطلاع بمشروعات تكنولوجية معينة. وقام بعض كبار العلماء والمختصين بدور جوهرى فى صياغة سياسات معينة، خاصة بأنشطة البحوث والتطوير ، وذلك بصفتهم مسئولين تنفيذيين فى الوزارات المختلفة. أما جموع العلماء الاختصاصيين فقد تم تسكينهم فى الهياكل البيروقراطية المميزة لنظام الوزارات المصرية ، حتى لو كانوا يعملون فى مراكز البحوث والتطوير.
ولم يكن للعلماء والمختصين فى مجالات التكنولوجيا المختلفة دور يذكر - بوصفهم جماعة منظمة تنظيماً ذاتياً- فى صياغة سياسة العلم والتكنولوجيا. بل إن أكثر المفكرين والعلماء حماساً لوضع سياسة للعلم والتكنولوجيا قد نسوا تماماً تقريباً هذا الدور المستقل، ولا يكاد كتاب أو خطاب أو مقال صحفى يذكر أو يهتم بطرح فكرة التنظيم المستقل للعلماء فى جمعيات وروابط يكون لها دور. هذا ، وإن كانت ثمة عملية إحياء بطيئة لبعض الجمعيات العلمية، من حيث هى منتديات رأى. أما أغلبية الجمعيات العلمية فقد صارت كيانات شبه مهجورة ، حتى نهاية القرن الـ 20 .
ساحة النقاش