ثانياً:عوامل تعود إلى دور الدولة
المقصود تحديدا بهذه العوامل مدى استقلالية المجتمع المدنى كشرط من شروط نجاحه في أداء وظائفه .
1 - استقلال النشأة والتأسيس والحل:
أي أن الدولة لا تفرض أي إجراءات صعبة أو معقدة كشرط للحصول على تراخيص وتصاريح من الحكومة لإنشاء الجمعية واحترام القانون لحق إنشاء الجمعيات وعدم وضع عقبات تقيد هذا الحق. وبالمثل لا تملك الحكومة منفردة سلطة حل الجمعية أو إلغائها أو إنهاء وجودها القانوني أو المادي وإنما يكون ذلك بقرار من مجلس الإدارة أو بحكم قضائي من المحكمة.
2 - الاعتماد على موارد ذاتية للتمويل :
بحيث لا يكون الدعم الحكومي هو مصدر التمويل الذي تعتمد عليه الجمعية في وجودها أو تغطية تكاليف ونفقات أنشطتها لإشباع الاحتياجات بما يكفل لها حرية الحركة، وهو ما يمكن للجمعية تحقيقه من خلال تملك مشروعات مربحة تدر عليها موارد كافية، مع ملاحظة أن الجمعية أو المنظمة لا تهدف أصلاً إلى الربح وإنما تقوم على التطوع .
3 - استقلال القرار واختيار القيادة :
أي أنه لابد لكي تأتي قرارات الجمعية معبرة عن الإرادة المستقلة لأعضائها بعيدا عن تدخل الحكومة وأن يتولى قيادة الجمعية أشخاص تم انتخابهم واختيارهم بواسطة القاعدة الواسعة من الأعضاء دون أن يكون للدولة أي دور في الموافقة على الترشيح أو التعيين، ودون أن تضع الحكومة أي قيود أو شروط لابد من توافرها في المرشحين، وأن يأتي مجلس إدارة المنظمة معبراً عن أصوات أغلبية الأعضاء. كما يشمل الاستقلال بهذا المعنى ألا تملك الحكومة سلطة تقييد نشاط الجمعية بل تلتزم بتوفير المجال المفتوح أمامها، وتحترم حقوق الأفراد والجماعات في التنظيم والاجتماع والتعبير عن وجهة نظرهم دون حاجة إلى استعمال القوة أو العنف. ففي غياب هذا المجال أو عدم انفتاحه أمام مختلف الاتجاهات يمكن للحكومة أن تتصرف دون رقيب أو حسيب، الأمر الذي يصيب أغلب المواطنين بالإحباط ويمنعهم من المبادرة بالعمل العام بل ويشعرهم باللامبالاة وعدم التحمس أو الاهتمام بالشئون العامة وبأن مشاركتهم السياسية لا جدوى ولا قيمة لها. كما قد يضطر بعض المعارضين إلى اللجوء إلى أساليب غير منظمة في التعبير عن غضبهم كأعمال الشغب والتدمير .
وهكذا، عرفنا أن المجتمع المدني هو مجال المشاركة الجماعية المنظمة في المجال العام الممتد من الأسرة إلى الحكومة والذي يتكون من جمعيات ومنظمات غير هادفة للربح ينضم إليها الأفراد باختيارهم ويمارسون داخلها العمل التطوعي بعيدا عن تدخل الحكومة أو تحكمها أو سيطرتها. ويتضح من ذلك أن الاستقلالية هي أحد العوامل التي تسهل قيام المجتمع المدني بوظائفه. فإذا ما تساءلنا عن المقصود بالاستقلالية ؟ والاستقلالية عن أي طرف ؟ سنجد أننا نسأل عن علاقة المجتمع المدني بالدولة وهو موضوع يطول شرحه .
ثالثاً: العلاقة بين المجتمع المدنى والدولة
أول ما يرد على الذهن تحت هذا العنوان هو كيف يمكن التمييز بين معنى الدولة والمجتمع المدني؟ فمن جانب أول ومن حيث الأهداف، سنجد أن حكومة الدولة تبرر قراراتها على أساس أنها تسعى لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع كله في حين تسعى كل وحدة من وحدات المجتمع المدني إلى تحقيق المصالح الخاصة والمشتركة لجماعة معينة دون غيرها .
ومن حيث طبيعة الرابطة والانتماء، لاشك أن معنى المجتمع المدني يختلف عن الدولة. فهو مجال المشاركة في الحياة العامة والحركة الحرة والتعبير عن مطالب المواطنين عبر قنوات في شكل منظمات وجمعيات وروابط غير حكومية ذات صفة تلقائية تتأسس فيها رابطة الانتماء على الاختيار لا الإجبار بينما ينتمي الأفراد إلى الدولة ويحملون جنسيتها بحكم الميلاد دون اختيار . وبينما يتصف ولاء المواطنين للدولة بالشمول والعمومية، فإن وحدات المجتمع المدني عادة ما تضم فئات دون أخرى ترتبط بها بروابط خاصة لا تشمل المجتمع ككل لأن كلاً من تلك الوحدات يعبر عن مصلحة خاصة بجماعة معينة وليس عن المصلحة العامة للجميع كما هو حال الدولة. أضف إلى ذلك، أنه بينما تتسم رابطة الولاء للدولة بالاستمرارية والثبات حيث يحمل الفرد جنسية بلده ولا يغيرها طوال حياته إلا نادراً فإن الولاء لإحدى منظمات المجتمع المدني عادة ما يكون متنوعاً ومتغيراً. فالفرد قد ينتمي لأكثر من جمعية كما انه قد ينتقل من منظمة إلى أخرى بحسب التغير في مصلحته من فترة لأخرى .
وإلى جانب التمييز بين ولاء الفرد للدولة وانتمائه للمجتمع المدني يمكن التفرقة بينهما من حيث الوظائف. صحيح أن هناك وظائف مشتركة يعتبر فيها المجتمع المدني أداة مساعدة للدولة كالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وإشباع الاحتياجات الأساسية وضبط سلوك الأفراد والجماعات وتنظيم معاملاتهم ....الخ ولكن تنفرد الدولة ببعض الوظائف نتيجة امتلاكها وحدها لسلطة استخدام القوة المادية لقمع الخارجين عليها وفرض القانون والنظام والحفاظ على كيان المجتمع، فالدولة تمتلك وحدها سلطة تطبيق أساليب الثواب والعقاب على كل من يعيش على أرضها ، كما أنها وحدها المسؤولة عن الدفاع عن مجتمعها ضد أي أخطار داخلية أو خارجية تهدده. وهذه الوظيفة توضح فرقاً آخر بين الدولة والمجتمع المدني من حيث المسؤوليات والوظائف، فالدولة هى تنظيم سياسي مركزي له سلطة عامة في شئون المجتمع كله، بينما يقتصر اهتمام المجتمع المدني على الشئون الخاصة لبعض الفئات والجماعات دون غيرها في المجتمع .
وفي حين تحكم الدولة قوانين عامة وثابتة وموضوعية ومجردة، تخضع تنظيمات المجتمع المدني لقواعد متغيرة بحسب تغير موازين القوة والمصالح .
فوحدات المجتمع المدني تختلف وتتباين في موارد القوة والنفوذ التي تملكها سواء كانت ثروات اقتصادية أو معارف أو مكانة أو اتصالات أو علاقات أو مهارات أو براعة في التنظيم بما ينعكس على علاقة كل منها بالدولة. فتصبح بعض الوحدات أقرب إلى الحكومة وأكثر قدرة على التأثير عليها بينما تظل الجماعات الأخرى بعيدة ومهملة على الهامش دون امتلاك أية قدرة على التأثير في القرارات السياسية .
وبعد هذه التفرقة هل نستنتج من ذلك أن علاقة الدولة بالمجتمع المدني تقوم على الانفصال الكامل أم أن المجتمع المدني قد يلعب دوراً هاماً في الحياة السياسية التي هي ميدان عمل الدولة ؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني؟
ساحة النقاش