أولا : النشأة الانتخابية والبرلمانية للأحزاب :
تدل متابعة الطريقة التي نشأت بها الأحزاب في اطار الانتخابات والعمل البرلماني علي خبرة محددة علي النحو التالي:
كان المعتاد أن تتكون كتل برلمانية أي تجمعات داخل المجالس النيابية يضم كل منها الاعضاء المتوافقين أو المتقاربين في الاتجاهات والآراء والمواقف للتنسيق فيما بينهم خلال المناقشات والمداولات وعمليات التصويت وغيرها من الأنشطة البرلمانية. وكان المعتاد أيضا أن يتبع ذلك ظهور تجمعات كان يطلق عليها في معظم الأحوال اللجان المعنية بالانتخابات أو اللجان الانتخابية .
وبعد ذلك كان يحدث اتصال مستمر بين هذين العنصرين، أي الكتل البرلمانية واللجان الانتخابية. وعندما يحدث هذا الاتصال ويستمر ، نكون إزاء أحزاب سياسية في واقع الأمر .
وواضح من هذا التطور أن الانتخابات كانت هي العامل الحاسم في ظهور الحاجة الي إنشاء أحزاب سياسية، وزيادة الشعور بهذه الحاجة. فقد كانت هناك مجالس ذات طابع نيابي قبل أن تكون هناك انتخابات. ولم تظهر الحاجة الي تكوين أحزاب سياسية إلا عندما بدأ الأخذ بالانتخابات كوسيلة لتشكيل المجالس النيابية ، وخصوصا مع اتساع نطاق العملية الانتخابية نتيجة التوسع في حق المشاركة فيها بالاقتراع أو التصويت، في الوقت الذي زادت صلاحيات تلك المجالس النيابية وتصاعدت أهميتها وتأكد استقلالها عن الحكومات أو السلطات التنفيذية. وأصبحت المجالس النيابية تمثل سلطات تشريعية تتمتع بقدر متزايد من الاستقلال في اطار الفصل بين السلطات ، وصار هذا الفصل أحد اسس النظام الديمقراطي .
وكان التوافق بشأن الاتجاهات والمواقف السياسية والفكرية، أو ما يطلق عليه في بعض الحالات الميول الأيديولوجية ، عاملا أساسيا في نشأة الأحزاب .
ولكن لم يكن العامل الوحيد . بل لم يكن كذلك العامل الأول من الناحية التاريخية. فقد سبقه تأثير مهم للعامل الجغرافي والعامل المهني، أي الانتماء الي منطقة واحدة أو الي نفس المهنة. فقد خلق هذان الانتماءان مصالح مشتركة بين اعضاء في بعض المجالس النيابية الأوروبية ، مما أدي الي إقامة تكتلات برلمانية علي أساس كل منهما، قبل أن يظهر تأثير التوافق السياسي والفكري .
ولذلك يعتبر الانتماء الجغرافي والاعتماد المهني هما اللذان وفرا وحققا الدفعة الأولي نحو إنشاء الأحزاب السياسية. وفي بعض الأحيان تحولت تكتلات جغرافية ذات طابع محلي الي أحزاب سياسية . وكان أبرز مثال لذلك في المجلس التشريعي الفرنسي في اواخر القرن الثامن عشر . ففي ذلك الوقت، أخذ نواب المناطق الريفية بالذات في إقامة تكتلات علي اساس جغرافي للدفاع عن مصالح المقاطعات المختلفة .
ولوحظ أن المناقشات التي أجريت في ذلك السياق كشفت أن التوافق القائم بين نواب بعض المقاطعات لا يقف عند حد القضايا الاقليمية وما يترتب عليها من مصالح ، وانما يمتد الي كثير من القضايا العامة القومية أو الوطنية والسياسات الهأمة كما كشفت الاجتماعات التي كانت تعقد في ذلك السياق أن هناك امكانية للتوافق بين تكتلات محلية مختلفة بسبب التفاهم بشأن عديد من السياسات العامة. وكانت هذه بداية الانتقال من تكتلات محلية جغرافية الي تكتلات سياسية وفكرية.
ولأن الانتخابات لعبت دورا حاسما في ابراز الحاجة لتكوين أحزاب سياسية كما سبقت الاشارة، فقد كانت الاعتبارات الانتخابية عاملا آخر من أهم العوامل التي ساهمت في نشأة الأحزاب . والمقصود بالاعتبارات الانتخابية هنا سعي النواب أعضاء المجالس الي اعادة انتخابهم أي العودة الي هذه المجالس في دوراتها التالية بعد انتهاء فترة انتخابهم سواء كانت أربع سنوات أو خمس . وقد ظهرت تكتلات برلمانية معنية أساسا بعملية اعادة الانتخاب ، وخصوصا في البلاد التي كانت الانتخابات فيها تجري علي اساس القوائم وليس بالأسلوب الفردي مثل سويسرا والسويد .
ففي هذه البلاد ، تم تشكيل أول تكتلات برلمانية بالتزامن مع اعتماد اسلوب الانتخاب بالقائمة أو ما يطلق عليه ايضا نظام التمثيل النسبي .
ساحة النقاش