ففي هذا النظام لا يختار الناخبون من بين مرشحين افراد، وإنما يكون الاختيار علي أساس قوائم يضم كل منها عددا من المرشحين . وتحصل كل قائمة علي عدد من مقاعد المجلس النيابي وفقا لعدد الأصوات التي أعطاها لها الناخبون ، ونسبة هذه الاصوات الي اجمالي الناخبين الذين ذهبوا الي صناديق الاقتراع وأدلوا بأصواتهم .
وفي نظام الانتخاب بالقائمة أو التمثيل النسبي علي هذا النحو، كان لزاما أن يقيم النواب تكتلات انتخابية سعيا الي إعادة انتخابهم . وقد تطورت بعض هذه التكتلات في مرحلة تالية لتأخذ شكل أحزاب سياسية .
وإلي هنا ، نلاحظ أن كل العوامل التي ساهمت في تأسيس الأحزاب السياسية بالمعني العصري في البلاد الأوروبية تعتبر عوامل ايجابية ، كما أنها كانت نوعا من التطور الطبيعي التدريجي في الحياة السياسية .
ولكن لم يكن الأمر كذلك في بعض الأحوال، فلم يكن تاريخ نشأة الأحزاب السياسية في أوروبا خاليا من العوامل السلبية بل والأساليب غير المشروعة في بعض الأحيان .
ولعل أبرز مثال علي ذلك، هو الدور الذي لعبته الرشوة في تأسيس تكتلات برلمانية في مجلس العموم البريطاني في أوائل القرن الثامن عشر. والمقصود بذلك هو سعي الوزراء الي تأمين أغلبية مساندة لهم - أو تجنب تكوين أغلبية ضدهم - عن طريق شراء أصوات النواب . والمهم هنا هو أن هذه الرشوة كانت تتم بصورة علنية في بعض الأحيان . بل يذكر مؤرخون متخصصون في تطور السياسة البريطانية أن كان هناك في مجلس العموم شيما يذهب اليه النواب للحصول علي ثمن أصواتهم بعد اجراء الاقتراع . بل تم عام 1714 ايجاد منصب جديد هو السكرتير السياسي للوزير . وكان عقد الصفقات مع اعضاء مجلس العموم أحد أهم مهام هذا السكرتير بهدف مقاومة الضغط الذي يمارسه هؤلاء الاعضاء علي الحكومة.
ويري بعض أبرز علماء السياسة الذين اهتموا بموضوع الأحزاب السياسية / مثل موريس ديفيرجيه ، أن هناك ما يدل علي وجود ما يعادل نظام الرشوة البريطاني هذا في مجالس نيابية أوروبية أخري، ولكن باشكال مختلفة . وهو يفسر ذلك بأن بعض الحكومات الأوروبية اضطرت للجوء الي قدر من الفساد ، في تلك المرحلة من التطور الديمقراطي ، بهدف الحد من الضغوط التي كانت تتعرض لها من المجالس النيابية .
وقد ساهم ذلك بدوره في خلق تكتلات برلمانية مع الحكومات أو ضدها . واكتسبت بعض هذه التكتلات وجودا مستقلا عن الأساس الذي تشكلت وفقا له . وتحول عدد محدود منها الي أحزاب سياسية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
ولكن نظام الرشوة هذا كان له أثر مناقض في بعض الحالات ، حيث لم يساعد علي تكوين تكتلات نيابية وإنما أدي الي تمزيق تكتلات كانت قائمة أو كانت في طريقها الي التكوين، واضفي طابعا فرديا علي التفاعلات البرلمانية. وحدث ذلك ، أكثر ما حدث ، في ايطاليا .
وهكذا تعددت العوامل التي أدت الي تكوين تكتلات برلمانية، أو تكتلات داخل المجالس النيابية ومهدت لنشأة الأحزاب السياسية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وأخذت عملية التحول من التكتلات داخل المجالس النيابية الي أحزاب سياسية أوسع نطاقا وأكثر انتشارا دفعة قوية نتيجة اتساع قاعدة الناخبين من خلال التوسع في حق الاقتراع أو التصويت .
فمع بداية القرن العشرين ، كانت الهيئة الناخبة (المواطنون الذين يملكون حق التصويت في الانتخابات) قد اتسعت لتشمل كل المواطنين الذكور . فلم تكن المرأة قد حصلت علي حقوقها السياسية التي تأخرت في البلاد الأوروبية الي النصف الأول من القرن العشرين .
وكان التوسع في حق الاقتراع ، وصولا الي اعتماد الاقتراع أو التصويت الشامل ، نقلة نوعية في التطور السياسي والنظام الديمقراطي . وكانت هذه النقلة ذات اثر جوهري في مجال نشأة الأحزاب السياسية ، فأصبح وجود هذه الأحزاب ضرورة لا بديل عنها لخوض الانتخابات .
فعندما كان حق التصويت محدودا أو محصورا في فئات اجتماعية بعينها ، أو حتي بعد أن امتد هذا الحق الي فئات أوسع منها في المجتمع ، كان الناخبون أقرب الي نخبة مميزة بدرجة أو بأخري وقليلة العدد في النهاية، وبالتالي كان من السهل عليهم ان يختاروا ممثليهم دون حاجة الي أحزاب سياسية. فالتنافس كان يجري بين اشخاص فى نفس المستوي الاجتماعي، وغالبا ما كان الناخبون يعرفونهم أو يعرفون عنهم الكثير . وعندما امتد حق الاقتراع الي الطبقة الوسطي ، كانت اللجان الانتخابية كافية لادارة عمليات الانتخابات عندما يستدعي الأمر ذلك . ولكن عندما امتد حق الاقتراع ليشمل الفئات الدنيا في المجتمع ، وهو ما حدث تدريجيا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتي مطلع القرن العشرين، كان لزاما أن يؤدي ذلك الي تأكيد أهمية الأحزاب السياسية كوسيلة أو أداة انتخابية .
ساحة النقاش