2 - التجربة التاريخية والحزب الواحد :
وكما أن نمط تعدد الأحزاب يتأثر بمعطيات التجربة التاريخية للشعوب ، فكذلك الحال فيما يتعلق بنمط الحزب الواحد العقائدي والذي كان أبرز نموذج له هو النمط الذي ساد في الاتحاد السوفيتي قبل إنهياره في مطلع تسعينات القرن العشرين، وهو عدم الاعتراف إلا بوجود حزب وحيد وحظر غيره من التنظيمات السياسية، ولكنه لم ينتقل بحذافيره الي الدول التي أخذت بهذا النمط من النظام الحزبي ، فأخذت دول شرق أوروبا ، التي تأثرت بالتجربة السوفيتية بأسلوب الجبهة الشعبية، حيث يتاح تشكيل الأحزاب التي لا تتعارض مع هيمنة الحزب الحاكم فلم يكن الحزب الشيوعي هو الحزب الوحيد من الناحية القانونية، وإن ظل يتمتع بسيطرة كاملة في ظل نظام الجبهة . وارتبطت بداية تجربة الحزب الواحد بالنظرية الماركسية التي وضع أسسها الفيلسوف الالماني كارل ماركس وزميله الانجليزي فردريك انجلز ولخصاها في البيان الشيوعي الذي توسعا في شرحه بعد ذلك. وكان الهدف الاساسي للماركسية هو القضاء علي النظام الرأسمالي بدعوي أنه يقوم علي استغلال تمارسه قلة وتخضع له الأغلبية ، وأنه نظام طبقي غير عادل يحدث في ظله صراع طبقي. وتنبأت الماركسية بانتصار الطبقة العاملة علي الطبقة الرأسمالية ، عندما يتحد العمال تحت قيادة حزبهم الشيوعي. وعندما يصل هذا الحزب الي السلطة، كما تصورت الماركسية، يلغي نظام تعدد الأحزاب لأنه تعبير عن نظام طبقي، ويعتبر هو الحزب الوحيد ليقيم ما أطلق عليه دكتاتورية البروليتاريا أي حكم العمال من أجل إيجاد مجتمع لا طبقي مجرد من الصراع.
وتم تطبيق هذه النظرية في الاتحاد السوفيتي بعد الثورة الشيوعية عام 1917. ولكن عندما سيطرت الأحزاب الشيوعية علي السلطة في دول شرق أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، أقامت جبهات تضم كل منها أحزابا صغيرة خاضعة لسيطرة الحزب الشيوعي كمرحلة انتقالية الي دكتاتورية البروليتاريا.
وقد أخذت الصين كذلك منذ عام 1949 بأسلوب الجبهة الشعبية التي يقودها الحزب الشيوعي ويلعب داخلها الدور المحوري والحاسم في ظل تطبيق متميز للديمقراطية الشعبية نابع من تميز التجربة الصينية، ومتأثر بالزعأمة التاريخية لماوتسي تونج. ورغم أن دستور الصين الذي صدر في يناير 1975 دشن تحول الصين الي دولة اشتراكية تقوم علي دكتاتورية البروليتاريا، إلا انه تضمن قيام جبهة ديمقراطية شعبية يقودها الحزب الشيوعي، مع حظر أي تنظيم أو تجمع سياسي خارج هذه الجبهة التي تعد بمثابة الحزب الواحد ، الذي اتسع ليشمل بعض التجمعات السياسية الصغيرة لاعتبارات تاريخية.
وعلي الرغم من أن التطبيق اليوغوسلافي كان يقوم أساسا علي الحزب الواحد، إلا أنه قدم نموذجا يختلف عن النموذج السوفيتي اذ إتجه النموذج اليوغوسلافي ، في إطار ما يسمي بالتسيير الذاتي، إلي خلخلة سلطة الدولة، وإتاحة الفرصة لمشاركة شعبية أوسع، وهو ما أطلق عليه إشاعة ديمقراطية الانتاج والادارة الذاتية والحكم المحلي في إطار واسع من اللامركزية. وصاحب ذلك تطوير ملحوظ في أساليب الحزب ونشاطه ، من مظاهرها إدارة نشاط الحزب بصورة علنية، بحيث تتاح لجميع المواطنين ، من غير الأعضاء ، فرصة المشاركة في اجتماعات الحزب. كما أزيلت العوائق التي تحول دون توسيع قاعدة عضوية الحزب.وكان الهدف من ذلك هو التحول من حزب صفوة طليعية إلي حزب جماهيري دون فقدان دوره الطليعي كحزب عقائدي.
ولكن ظلت كل هذه التمايزات شكلية أكثر منها جوهرية. فكانت كلها تنويعات في اطار نمط الحزب الواحد الذي لم يسمح بمعارضة له أو بتعددية حقيقية. وكان هذا أحد أسباب فشل البلاد الاشتراكية (الشيوعية) التي أخذت بهذا النمط في ضمان استمرار التنمية الاقتصادية التي حققتها في المرحلة الأولي لنظام الحزب الواحد. فقد حال هذا النظام دون المشاركة الشعبية الحقيقية، وأدي الي احتكار السلطة وإنتشار الفساد في غياب آليات الرقابة والمساءلة والمحاسبة . وهي آليات يصعب توافرها في غياب التعددية .
وكان ادراك بعض الأحزاب الشيوعية في دول أوروبا الغربية لمساوئ نظام الحزب الواحد أحد أهم أسباب اتجاهها الي إعادة النظر في الأسس الفكرية التي كانت تؤمن بها والمستمدة من النظرية الماركسية كما سبقت الاشارة. وكان أولها الحزب الشيوعي الايطالي الذي قام بدور ريادي في هذا المجال منذ منتصف السبعينات ، أي قبل عقد ونصف عقد علي سقوط نظام الحزب الواحد في دول شرق اوروبا من خلال انتفاضات شعبية ضد هذا النظام، ثم في الاتحاد السوفيتي.
وقد تأثرت الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، عندما أعادت النظر في موقفها واتجهت الي تأييد نظام تعدد الأحزاب بتجربتها التاريخية حيث نشأت وتطورت في ظل هذا النظام. ولذلك لم يكن غريبا أن تعلن تباعا قبولها بأساليب الديمقراطية الليبرالية القائمة علي تعدد الأحزاب ، والتعهد باحترام هذه الأساليب لدي وصولها الي السلطة بما في ذلك الاقرار بحق الأحزاب غير الاشتراكية في المعارضة ، علي أن تجري مناهضة آرائها بالطرق السياسية، من حوار وإقناع ، وليس بالطرق الادارية وأساليب القهر البوليسي ، وذلك في إطار احترام الحريات السياسية والمدنية والفردية .
ساحة النقاش