لم تكن الكتابة الصحفية المليئة بالوقائع والتفسيرات والنظريات المغلوطة والمبالغات هي أسلوب المتعصبين الصرب الوحيد في تهييج الرأي العام، فقد كانت هناك أساليب أخرى ربما كانت أكثر إثارة للعواطف ومشاعر الخوف والكراهية. ومن ذلك ما حدث عام 1989 الذي صـادف الذكرى الستمائة لمعركة كوسوفا التي هُزم فيها الجيش الصربي أمام الأتراك. قام المتعصبون الصرب بتنظيم احتفالات حاشدة بهذه الذكري، وبلغت الاحتفالات ذروتها في مظاهرة شارك فيها مليون صربي، جرى تنظيمها في كوسوفا التي لا يوجد فيها سوى أقلية صربية صغيرة. وكانت هذه الاحتفالات مناسبة للتحريض ضد الألبان من سكان كوسوفا وضد القوميات اليوغوسلافية الأخرى. كما جرى تنظيم مظاهرات للاحتفال بذكرى الضحايا الصرب الذين سقطوا أثناء الحرب العالمية الثانية على يد جماعة من الكروات كانت متعاونة مع الاحتلال النازي، فتم إخراج جثث الضحايا الصرب من المقابر الجماعية التي كانوا مدفونين فيها، ليعاد دفنهم مرة أخرى في احتفالات مهيبة. بل إن جثث بعض الشخصيات المرموقة من بين الضحايا جرى الطواف والاحتفال بها في أنحاء مختلفة من البلاد قبل إعادة دفنها. كل هذا في أجواء لم تستهدف سوى تعبئة الشعور القومي الصربي ضد القوميات اليوغوسلافية الأخرى.
وبينما أدت هذه التطورات إلى توسيع نطاق موجة التعصب القومي الصربي إلى الحد الذي كان كافيا لحمل سلوبودان ميلوسيفيتش إلى مقعد رئاسة جمهورية صربيا في عام 1990، فإنها عمقت مخاوف أبناء القوميات اليوغوسلافية الأخرى تجاه نوايا الصرب لفرض الهيمنة على كافة أقسام الاتحاد اليوغوسلافي.
وفي الحقيقة، فإن فرض الهيمنة الصربية على أبناء القوميات اليوغوسلافية الأخرى لم يكن هو خيار ميلوسيفيتش الوحيد. فقد كان ميلوسيفتش يسعى فعلا لتحقيق هذا الهدف، ولكن كانت لديه أيضا خطة بديلة إذا فشل في تحقيق هدفه الأول. أما خطته البديلة فقد تلخصت في هدم الاتحاد اليوغوسلافي واستبداله بصربيا الكبرى، ذلك الحلم الذي طالما راود القوميين الصرب منذ القرن التاسع عشر. وطبقا لمشروع صربيا الكبرى فإنه لا حاجة لصربيا أن تتعايش في دولة واحدة مع قوميات أخرى، حتى ولو كانت للقومية الصربية فيها اليد العليا بحكم تفوقها العددي. وإنما بدلا من ذلك لابد من إقامة دولة صربيا الكبرى التي يعيش فيها الصرب وحدهم، ولكن بعد أن يُضم إليها أقسام واسعة تتبع الجمهوريات والأقاليم الأخرى. وقد كان إلغاء وضع الاستقلال الذاتي لكوسوفا وفيوفودينا الواقعتين ضمن جمهورية صربيا مقدمة لتحقيق ذلك الحلم.
كان لهذا الحلم أن يثير المخاوف، وبالتالي المشاعر القومية لدى أبناء القوميات الأخرى، خاصة بسبب وجود أقليات كبيرة من الصرب في أغلب الجمهوريات والأقاليم اليوغوسلافية الأخرى. فقد مثل الصرب - طبقا لإحصاء عام 1981- 13.2% من سكان كوسوفا، 54.1% من سكان فيوفودينا، 11.5% من سكان كرواتيا، 32.20% من سكان البوسنة والهرسك، الأمر الذي أثار قلق أبناء القوميات الأخرى من الأطماع المرتبطة بحلم تحقيق صربيا الكبرى.
كانت سلوفينيا الهدف الأول للتوسعية والتعصب الصربي الذي قاده ميلوسيفيتش. ففي ديسمبر 1989 حاول الزعيم الصربي المتعصب الإطاحة بحكومة سلوفينيا عن طريق دفع حشد من الصرب للتظاهر في شوارع العاصمة ليوبليانا. ولكن بسبب العدد المحدود للصرب في سلوفينيا فإن هذه الخطة لم تنجح، فكان أن قام ميولوسيفتش بفرض المقاطعة الاقتصادية على سلوفينيا في محاولة منه لتركيع الحكومة القائمة فيها.
دارت عجلة التعصب القومي بسرعة. وفي الانتخابات التي جرت في مارس-أبريل 1990، وصل إلى الحكم في كرواتيا متعصب قومي شبيه إلى حد كبير بسلوبودان ميلوسيفيتش هو فرانجو توجمان. فاز توجمان وحزبه في الانتخابات على برنامج يقوم على التعصب القومي. فقد أسس توجمان وحزبه دعايتهما الانتخابية على العداء للصرب، فأخذ ينتقد ما اعتبره سيطرة صربية على كثير من الوظائف المهمة في كرواتيا، وبالفعل فإنه بمجرد فوزه قام توجمان بطرد الكثير من الموظفين الصرب من وظائفهم. كما أدخل تعديلا على دستور كرواتيا أصبح بمقتضاه الصرب مواطنين من الدرجة الثانية. لقد روج توجمان وأنصاره لكراهية الصرب بشكل مخيف ومثير للرعب، ولعل ذلك يتضح عندما نقرأ الكلمة التي ألقاها فلاديمير سيكس، أحد القادة البارزين في حزب توجمان، أثناء الحملة الانتخابية في منطقة يسكنها خليط من الصرب والكروات. قال سيكس إذا فزنا فإنه لن يكون هناك أي صربي، أما إذا فازوا فإنه لن يكون هناك أي كرواتي. كانت مثل هذه الدعاية العدائية المتعصبة هي السلعة الرائجة في يوغوسلافيا في تلك الأيام. وباتت الأحاديث والدعاية المتطرفة الصادرة عن كل طرف سببا في تأجيج المخاوف لدى الأطراف الأخرى. وبات كل واحد يتخذ مما يقوله ويفعله الآخر حجة لتكريس تعصبه. وتخيل كل طرف أن تعصبه هو مجرد دفاع مشروع عن النفس ورد فعل لعداء الآخرين. فضاعت الحقيقة، وكسب المحرضون والجائعون للسلطة، وسقطت أمم متحضرة ذات تاريخ عريق، مثل الأمم التي كونت يوغوسلافيا، في أسر وحش التعصب والكراهية.
مع صعود التعصب القومي على كل الجبهات أصبح مستقبل الاتحاد اليوغوسلافي موضع شك، وظهرت بقوة دعوات للاستقلال عن الاتحاد في كل من سلوفينيا وكرواتيا. ولم يكن سلوك سلوبودان ميلوسيفيتش وحكومته من النوع الذي يمكنه تهدئة مثل هذه النزعات. على العكس، فإنه تصـرف بكل الطرق الممكنة لتأجيجها وصب الزيت على نارها. وكما أشرنا قبل ذلك، فقد قامت صربيا بفرض الحصار الاقتصادي على سلوفينيا، الأمر الذي أفقد الاتحاد معناه. أما في كرواتيا، فقد بدأت الأقلية الصربية في ربيع عام 1990 في التمرد بدعم من الحكومة في صربيا، فقام المتمردون بإقامة حواجز الطرق، ونزع أسلحة رجال البوليس الكروات. وفي 31 مارس 1991 سقطت أول ضحية كرواتية على يد المتمردين الصرب، وفي الثاني من مايو وقعت أول مذبحة، حيث جرى قتل مجموعة من رجال البوليس الكروات على يد المتمردين.
أما على مستوى الحكومة الاتحادية، فلم يتورع ميلوسيفيتش وأنصاره عن التضييق على القوميات الأخرى. فالمخصصات المالية التي حددتها الحكومة الفيدرالية للتحويل لصالح كرواتيا جرى الاستيلاء عليها لصالح صربيا. وفي الخامس عشر من مايو، وعندما حل موعد تخلي الرئيس الصربي للاتحاد اليوغوسلافي عن منصبه وتسليمه لممثل كرواتيا الذي حل دوره لتولي هذا المنصب وفقا لنظام التبادل المعمول به، رفض الصرب تسلم ممثل كرواتيا لمهام المنصب، الذي ظل شاغرا، بحيث أصبح الاتحاد اليوغوسلافي بلا رئيس، الأمر الذي كان إعلانا باستحالة استمرار يوغوسلافيا كدولة موحدة، فقامت سلوفينيا وكرواتيا في الخامس والعشرين من يونيو 1991 بإعلان استقلالهما. وعند هذه اللحظة تدخل الجيش الاتحادي الخاضع للسيطرة الصربية، ليس بغرض منع استقلال كرواتيا وسلوفينيا، ولكن لكي يقتطع منهما الأقسام التي يدعي القوميون الصرب تبعيتها لهم، فكان أن بدأت حرب تفكك يوغوسلافيا.
أما بالنسبة لجمهورية البوسنة والهرسك، فقد فرض عليها وضعها كجمهورية متعددة القوميات أن تتصرف بطريقة مختلفة. فالبوسنة هي نموذج مصغر من يوغوسلافيا الوطن الأكبر، بحيث أن انهيار النموذج متعدد القوميات في يوغوسلافيا كان له أن يؤدي بالضرورة إلى انهيار النموذج المماثل في البوسنة. لذلك حاول سكان البوسنة، خاصة من المسلمين والكروات، منع انهيار الاتحاد اليوغوسلافي. وكان القرار الذي اتخذوه هو البقاء ضمن الاتحاد بشرط بقاء كرواتيا وسلوفينيا داخله، لأنهم تخوفوا من أن يؤدي خروج هاتين الجمهوريتين إلى تمكين صربيا من فرض سيطرتها على الاتحاد والاستفراد بالجمهوريات الأخرى القليلة الباقية، ومن بينها البوسنة.
ساحة النقاش