شهد النصف الأول من عام 1991 جهودا مكثفة من جانب رئيسي البوسنة ومقدونيا علي عزت بيجوفتش وكيرو جليجوروف للتوصل إلى حل ديمقراطي للصراع بين صربيا من ناحية وكرواتيا وسلوفينيا من ناحية أخرى، غير أن فشل هذه الجهود أدى إلى إعلان استقلال البوسنة في مارس 1992، وتبعتها في ذلك جمهورية مقدونيا. وكرد فعل لهذا القرار سيطرت الجماعات المسلحة من صرب البوسنة على الأقاليم التي تدعي تبعيتها للصرب داخل البوسنة. وفي نفس الشهر بدأ الجيش اليوغوسلافي تدخله في البوسنة، فبدأت حرب طويلة مليئة بوقائع الرعب والفزع في إطار حملة التطهير العرقي، والتي شملت جرائم قتل جماعي وحرق ممتلكات واغتصاب نساء. شن الصرب هذه الحرب ضد مسلمي وكروات البوسنة، في إطار سعيهم لإجلائهم عن المناطق الصربية المزعومة لتحويلها إلى مناطق خالصة للصرب. واستمرت هذه الحرب الشرسة وغير الإنسانية لأكثر من ثلاثة أعوام، فلم تنته إلا في 14 ديسمبر عام 1995، بعد أن فرض المجتمع الدولي حصاراً اقتصادياً محكماً على يوغوسلافيا، وبعد أن تدخل حلف الأطلنطي بقواته لوقف الحرب وتسهيل التوصل لاتفاق سلام.
أما في نهاية التسعينيات فقد انتقلت بؤرة الصراع إلى إقليم كوسوفا ذي الأغلبية الألبانية. ومرة أخرى شن الصرب حملة للتطهير العرقي لطرد الألبان من الإقليم، ومرة أخرى أيضا لم تنته الحرب إلا بعد أن تدخل حلف الأطلنطي لإجبار الصرب على وقف الحرب.
كان استمرار يوغوسلافيا مرهونا باستمرار قدرة الجماعات القومية المختلفة على التعايش في سلام وتعاون، غير أن تطورات سلبية حالت دون ذلك. فقد بدأت النزعات القومية في التزايد بين أبناء الأقاليم المختلفة، ولكن هذه النزعات كانت على أشدها في صربيا أكبر جمهوريات الاتحاد اليوغوسلافي، والتي لا يمكن للاتحاد، بدون تفهم وتحمس أبنائها للاتحاد والفلسفة التي قام عليها، أن يستمر.
وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام نفس ظاهرة التطرف القومي والعرقي التي يطلقها بعض المهووسين مستغلين هذه الظروف أو تلك، فيطلقون حملات التحريض والكراهية والترويع، ويقودون شعوبهم نحو معارك باهظة الثمن. أما بقية الظاهرة، فهي أن حملات المهووسين المتعصبين - في كل مرة تقريبا- تعود عليهم وعلى شعبهم بالخسارة الكبيرة. فالقوميون الصرب الذين شنوا حملة لتأكيد السيطرة الصربية على يوغوسلافيا، انتهوا بتدمير يوغوسلافيا ذاتها، بعد أن انفصل عنها أغلب أعضائها من غير الصرب. ومع أنهم رضوا بصربيا الكبرى بديلا عن يوغوسلافيا الكاملة، إلا أنهم عجزوا عن تحقيق هذا الهدف أيضا بعد أن ضاعت منهم الأقاليم الصربية في كرواتيا والبوسنة، وبعد أن أصبحت كوسوفا، التي طالما اعتبروها قدس الأقداس الصربي، خاضعة للإدارة الدولية بقيادة من اعتبرهم المتطرفون الصرب أعدى أعدائهم من الدول الأعضاء في حلف الأطلنطي.
4 - آثار فادحة لغياب التسامح :
هل مازالت هناك حاجة لمزيد من الأمثلة للبرهنة على فداحة الجناية التي يرتكبها المتعصبون الذين يفتقدون التسامح على أهلهم ووطنهم؟.. ربما… فلننظر إذاً إلى لبنان.
انقسم المجتمع السياسي اللبناني منذ فترة مبكرة بين قسم يرى لبنان جزءا من العالم العربي الأكبر يشاركه الآلام والطموحات، وبين قسم آخر يرى في الهوية اللبنانية شيئا خاصا متميزا ويدعو للانعزال عن العالم العربي. ليس في هذا الخلاف في حد ذاته مشكلة، بل إنه يمكن أن يكون علامة صحية على ازدهار المجتمع الثقافي والسياسي وحيويته. وقد قام لبنان على أساس توازن دقيق بين هذين الاتجاهين، خاصة وأن هذين الاتجاهين قد تطابقا إلى حد كبير مع الانقسامات الطائفية في لبنان، حيث كان الموارنة يميلون للتركيز على هوية لبنان الخاصة وعلى تميزه وعزلته عن العالم العربي، بينما كان اللبنانيون السنة والروم الأرثوذكس يميلون للتركيز على الانتماء العربي للبنان. أي أن النظام اللبناني قام على توازن بين الطوائف والتيارات السياسية المختلفة.
منذ مطلع السبعينيات زاد الوجود الفلسطيني في لبنان، بعد أن جرى طرد منظمات المقاومة الفلسطينية من الأردن. وقامت المقاومة الفلسطينية بتحويل لبنان إلى قاعدة للكفاح المسلح ضد إسرائيل، الأمر الذي وضع لبنان بشكل غير مسبوق في قلب التفاعلات السياسية العربية، بما أقلق أنصار عزلة لبنان عن العالم العربي. وقد زاد من هذا القلق أن الموارنة في لبنان قد تخوفوا من أن تؤدي زيادة وجود ونفوذ الفلسطينيين - وأغلبهم من المسلمين السنة- إلى تغيير التوازن الطائفي في لبنان لغير صالح الموارنة والمسيحيين.
أدت هذه الأوضاع إلى نمو الاتجاهات الانعزالية والطائفية المتشددة بين الموارنة، وتركزت هذه الاتجاهات بين أعضاء حزب الكتائب، الذي بادر بتكوين جماعات مسلحة بغرض موازنة ومقاومة الوجود الفلسطيني، وبدعوى حماية سيادة لبنان ضد سيطرة الغرباء الفلسطينيين. تحولت المخاوف المارونية إلى عنصرية وتعصب، ورأى البعض من هؤلاء المتعصبين الطائفيين أن العمل لطرد الفلسطينيين من لبنان بات ضروريا، فكانت بداية الحرب الأهلية اللبنانية. ففي 13 أبريل عام 1975 تعرض أوتوبيس يقل مجموعة من المدنيين الفلسطينيين لإطلاق النار، أثناء مروره بحي عين الرمانة ذي الأغلبية المارونية، الأمر الذي أسفر عن مقتل 26 فلسطينيا.
سارعت الأحزاب اللبنانية ذات الاتجاهات العروبية للتضامن مع المقاومة الفلسطينية، فيما سُمي التحالف الوطني - الفلسطيني، ودارت بين الفريقين معارك تصاعدت خطورتها تدريجيا، وكاد الجانب الوطنى - الفلسطيني يحقق النصر على الكتائب وحلفائها. لولا تدخل الجيش السوري في صيف عام 1976 لحماية الموارنة.
لم يؤد التدخل السوري لإنهاء الحرب الأهلية، على العكس، فإن سوريا حرصت على الإبقاء على حالة من التوازن تمنع انتصار أي طرف على الآخر، وأخذت تبدل حلفاءها في لبنان تبعا لمصالحها وتبعا للظروف المتغيرة ولمقتضيات الحفاظ على التوازن بين الجماعات المختلفة. وفي أجواء الحرب الأهلية المستعرة شعرت كل طائفة لبنانية بالخطر وبحاجتها لامتلاك تنظيم مسلح يحميها، فظهرت جماعات طائفية مسلحة لم تكن موجودة قبل الحرب، فسادت البلاد فوضى عارمة. بل إن الجيش اللبناني نفسه تعرض للتفكك. فانشقت بعض ألوية الجيش، واختارت لنفسها هذا الجانب من الصراع أو ذاك، تبعا لطبيعة الانتماءات الطائفية الغالبة على كل لواء. فبينما انحاز اللواء الثاني للكتائب والمارونيين، انحاز اللواء السادس للشيعة، بينما انحازت قوات الجيش المعسكرة في بلدة حمانا الدرزية للدروز، وهكذا.
أكثر من هذا، فإن قسما من الجيش اللبناني بقيادة اللواء سعد حداد قرر الانحياز لإسرائيل باعتبارها الخصم الأكبر للفلسطينيين، فقام بتأسيس جيش لبنان الجنوبي. وقد وجد هذا القسم من الجيش اللبناني في الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978، ثم في الاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولا للعاصمة بيروت عام 1982 فرصة مواتية. وعندما أسست إسرائيل منطقة أمنية في جنوب لبنان بعد انسحابها من المناطق الأخرى في البلاد، تولى جيش لبنان الجنوبي السيطرة في الجنوب بدعم وحماية من إسرائيل.
استمرت الحرب الأهلية اللبنانية طوال خمسة عشر عاما، ارتكبت خلالها الكثير من المذابح، لعل أشهرها مذابح تل الزعتر وصبرا وشاتيلا والكرنتينا والمسلخ، حيث راح الكثيرون ضحية للتعصب والكراهية والطائفية المقيتة. وجرى اغتيال زعماء لبنانيين من كافة الاتجاهات والطوائف ضحية لأعمال الانتقام ومحاولات فرض السيطرة. ففقد لبنان زعماء من أمثال كمال جنبلاط وطوني فرنجية وداني شمعون وبشير الجميل ورينيه معوض.
لم تنته الحرب الأهلية اللبنانية إلا في شهر أكتوبر من عام 1990، بعدما اطمأنت سوريا إلى أنها قد فرضت سيطرتها على جميع الفئات، فاستخدمت ترسانتها العسكرية القوية لإنهاء المقاومة التي قادها قائد الجيش ميشيل عون، الذي كان يقود المعركة الأخيرة للموارنة اللبنانيين. وبهزيمته، انتهت مرحلة الحرب الأهلية في التاريخ اللبناني، ولكن بعد أن خلفت وراءها مرارات لم يشف منها لبنان حتى الآن: 133 ألف قتيل، و 207 آلالف جريح، و 17 ألف مفقود، 14 ألف مخطوف، 13 ألف معاق، ومليون مهاجر إلى خارج البلاد، و70 ألفا من الأسر النازحة عن بيوتها. كل هذا من اللبنانيين وحدهم، أي بخلاف الفلسطينيين الذين دفعوا ثمنا باهظا هم أيضا.
والغريب أن نتائج الحرب الأهلية اللبنانية كانت بالضبط عكس ما سعي إليه المتعصبون الطائفيون من الموارنة وحلفائهم. فبينما سعى هؤلاء للتخلص من الغرباء الفلسطينيين، فإنهم استقدموا بدلا منهم غرباء آخرين إسرائيليين وسوريين. وبينما سعى المتعصبون الموارنة إلى حماية الوضع المتميز الذي تمتع به الموارنة، فإنهم انتهوا إلى وضع أصبح فيه الشيعة اللبنانيين القوة الرئيسية في البلاد، وتراجعت مكانة الموارنة إلى مستوى غير مسبوق. فهل من دليل أكثر من ذلك على ما يمكن للتعصب أن يجنيه على أصحابه وعلى الأوطان التي ينتمون إليها؟
ساحة النقاش