من وسط الظلمات تبدو أنوار النجوم ويسطع ضوء البدر، ومن بين الأشواك تخرج الورود وتفوح رائحة العطر، والإنسان العظيم بعد المعاناة الصعبة يجني ثمار نضرة، والأحداث الكبيرة مهما كانت العقبات تحدث آثارا ضخمة.
وفي رحلة الإسراء والمعراج كان الواقع على الأرض محزنا مؤلما بالنسبة للنبي (ص):
<!--فقد توفى المدعم النفسي له (ص) وهي السيدة خديجة (ر)
(كلا والله لا يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم …الخ)(صحيح البخاري)
- بعدها توفي النصير الخارجي له وهو أبو طالب عم النبي (ص)
- وزادت المعاناة واشتد الأذى له ولأصحابه رضوان الله عليهم جميعاً (سيرة ابن هشام)
هنا تتدخل إرادة السماء وتحدث رحلة الإسراء والمعراج:
- فيصلي النبي (ص) بالأنبياء إماماً في المسجد الأقصى تدعيما له ولإثبات وحدة المنهج وعالمية وخاتمية الرسالة.
- ثم يصعد إلى السماء ليرتقي إلى منزلة أسمى من درجة الملائكة بل ومن درجة سيدنا جبريل نفسه (حيث يسأل النبي جبريل عليه السلام –كما تشير بعض الروايات- أهنا يترك الخليل خليله؟ فيجيب جبريل لو تقدمت لاحترقت أما أنت فلو تقدمت لاخترقت)
وإذن فهو تكريم ثانٍ للإنسان في شخص النبي (ص) بعد سجود الملائكة لآدم (عليه السلام) يرتفع النبي في رحلة الإسراء والمعراج فوق درجة الملائكة وحتى جبريل نفسه وينعم بلقاء ربه ورؤيته –كما تشير بعض الروايات- تثبيتا لقلب النبي (ص) ولتتحدد معالم مرحلة جديدة.
فشتان بين الصورتين: واقع مؤلم على الأرض في ذاك الوقت وما تدخره إرادة السماء وترتب له.
وفي رحلة الهجرة المباركة تختلف الإحداث وتتقارب الدلالات:
-حيث يخرج النبي (ص) من مكة وأربعون رجلا يقفون حوله مدججين بالسيوف ليقتلوه ، ويذهب إلى المدينة حيث يجد نساء الأنصار يقفون بالدفوف ويرددون الأناشيد ليستقبلوه ، (طلع البدر علينا...الخ)
لعلنا نلحظ بسهولة الفارق الضخم بين أول طريق الرحلة في مكة وآخره في المدينة ، فشتان بين السيوف والدفوف.
وعلى المدى الأوسع حين نقارن بين صورتين أو موقفين:
- النبي الكريم وصاحبه في غار ثور بين مكة والمدينة في رحلة الهجرة، والكفار يقفون أمام باب الغار، وأبو بكر يقول له: (لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول له النبي (ص) ما ظنك باثنين الله ثالثهما)(الجامع الصحيح للبخاري)
- والموقف الآخر له (ص) وهو يرسل بالرسائل إلى الملوك ورؤساء العالم وتأتي الوفود من كل حدب وصوب ليدخلوا في دين الله أفواجا ثم وهو يقف وصاحبه في حجة الوداع يخطب في أكثر من مائة ألف من الصحابة (ر) (أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ...) ( أخرجه مسلم وغيره)
لا شك أنه يوجد فارق كبير بين الصورتين.
وعلى طريق الهجرة أيضا حاول سراقة بن مالك أن يقترب من النبي الكريم (ص) ليقتله ويفوز بالجائزة التي أعدتها قريش لمن يأتي به حيا أو ميتا ، هنا تصدر الأوامر الإلاهية وتغوص قدما فرس سراقة في الأرض ويحاول استخراجها ويعاود الهجوم على النبي وصاحبه مرة واثنين وثلاثة ولكن دون جدوى فيعلم أن هذا الرجل مؤيد من ربه وما هذا بفعل بشر و فرس ليعلن أسلامه يأو فرس، يعلن سراقة إسلامه ويبشره النبي (ص) بأنه سيلبس سواري كسرى، ويتم ذلك بالفعل في خلافة عمر بن الخطاب (ر) (البغوي في شرح السنة بسند صحيح)
لعل الفارق بين الصورتين واضح لا يحتاج إلى تعليق.
وفي النظرة الأشمل فارق كبير بين صورة أبي بكر الصديق (ر) وهو في الغار يقطع من ثوبه ليسد جحورا قد تخرج منها بعض الحشرات خوفا على صاحبه (ص) وبين أبي بكر الصديق الخليفة الأول للرسول الكريم والجيوش الإسلامية تفتح أماكن كثيرة من العالم ويصبح المسلمون مسيطرين على معظم أنحاء العالم القديم في عهد الخلافتين الأموية والعباسية ، ويحملون مع حضارتهم النور والخير للعالمين.
ولكن كيف تحقق لهم ذلك؟ وكيف تستطيع المجتمعات العربية والإسلامية أن تحذو حذوهم وأن تتحقق لها المكانة اللائقة والجديرة بها ؟
عودة إلى مدرسة الهجرة كي نقف على بعض الخطوات التي قاموا بها والتي مكنتهم من ذلك ، ومنها:
<!--صدق النية والعزم: فهذا صحابي كبير في السن ضعيف الصحة محدود الجهد يخرج مهاجرا خلف النبي (ص) وتوافيه المنية وهو على أول الطريق من مكة إلى المدينة فماذا يفعل؟ يبسط يده اليسرى ويضع عليها يده اليمنى ويقول : اللهم هذه بيعة لك ، ثم يكرر ذلك ويقول وهذه بيعة لرسولك (ص).
فهو قد أخلص النية وعزم على الهجرة وقام بما يستطيعه.
<!--الأخذ بالأسباب وإتقان العمل: فرغم أن النبي محفوظ بحفظ ربه وهو عاصمه من الناس نجده يستأجر دليلا له وراعي غنم حتى يزيل آثار الأقدام ، ويسير من طريق غير الطريق المعهودة ، ويستريح في غار ثور كنوع من التضليل للمشركين...الخ.
<!--المحافظة على القيم الأخلاقية مهما كانت الظروف: فالنبي (ص) يترك علي بن أبي طالب في بيته وعلى فراشه في فجر يوم الهجرة - رغم وجود احتمال أكيد لتعرضه للأذى - حتى يرد الودائع إلى مشركي مكة الذين آذوه واضطروه إلى الخروج من مكة أحب البلاد إليه وأخذوا أموال وديار بعض أصحابه ، ينام علي (ر) ليرد الودائع إلى هؤلاء رغم ما فعلوه .
<!--الوحدة وعدم الفرقة : فبعد الهجرة بوقت قليل نادى بعض الأنصار (يا آل الأنصار) ونادى بعض المهاجرين (يا آل المهاجرين) فنادى فيهم النبي (ص) (دعوها فإنها منتنة) لأنها دعوة للفرقة والعصبية ولو كانت للمهاجرين ولأنصار رسول الله (ص)
ولنستمع إلى القرآن الكريم وهو يحذرنا أينما كان الزمان أو المكان: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، وأما الذين أبيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) (آل عمران: 105-107).
<!--اليقين بالله والثقة بانتصار الحق والعدل : وهو ما يجسده قوله تعالى : (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) (التوبة: 40).
وهكذا يمكن أن نأخذ من مدرسة الهجرة دروساً ومبادئ عامة تساعدنا على أن نرسم خطى حاضرنا ونضئ الطريق لمستقبلنا .
وكل عام وأنتم بخير.
بقلم د. أحمد مصطفى شلبي
ساحة النقاش