تقدم لنا سورة الإنسان تصورا موجزا ومعجزا حول مسيرة الإنسان في هذه الحياة وما بعدها؛ نشأته، مهمته، أدواته لتحقيق هذه المهمة ، الطرق التي سيسير فيها، العقبات التي ستصادفه ، الزاد الذي يمكن أن يستعين به في التغلب عليها ، ثم المصير الذي ينتظره وفقا لنوع العمل الذي يقوم به ، وكي نتعرف على ذلك تعالوا نبدأ الحكاية من البداية :
(هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟(الآية الأولى)
نعم أتى ؛ سواء بالمنطق العلمي من خلال نظريات خلق الكون والإنسان
<!--أم بمنطق الشخص العادي؛ فالإنشان لم يكن شيئا قبل زواج أبويه، ولم يكن شيئا مذكورا في بداية أشهر الحمل،
وإذن فالاستفهام في الآية غرضه التقرير الذي لا يختلف عليه اثنان
(إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أَمْشاجٍ (نبتليه) فجعلناه سميعا بصيرا) (2)
في هذه الآية العديد من المواضع التي تحتاج إلى أن نتوقف معها:
<!--تشير الآية إلى بداية تكوين الإنسان في رحم الأُم والذي يمر خلال مراحل ست ذكرها القرآن الكريم؛ ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طين ، ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) سورة المؤمنون الآيات من 12-14)
وهو ما أكده علم الأجنة في العصر الحديث وأشرنا إليه في محاضرتنا (المحافظة على صحة الأم والطفل في فترة الحمل)
فتأمل إعجاز هذا الكتاب العظيم ! وهل يليق بالإنسان وهو يعلم مما خُلِق، وينظر إلى هذا الخلق المعجز أن يعصي ربه؟!
<!--وتشير لفظة (نبتليه) إلى الغاية من خلق الإنسان وإلى المهمة التي يتعين عليه القيام بها ؛ (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ...) (المُلْك ، 2)
فما معنى الابتلاء وما هي أنواع؟ وما طبيعة هذه الإعمال التي ينبغي عليه القيام بها؟أسئلة تحتاج إلى أن ندقق البحث حول الإجابة عليها.
ج) وقد زود الله الإنسان بالسمع والبصر وببقية الحواس والكثير من النعم ليحقق غاية وجوده ومهمته في الحياة،
فانظر كيف أعطى الله الإنسان شيئا من صفاته (كالسمع والبصر) وسخر له العديد من الكائنات في الكون وأمده بالكثير من النعم والوسائل التي تعينه على تحقيق مهمته بل جعله سيدا لهذا الكوكب وخليفة لله في أرضه... ألا يستحق منا كل هذا التؤمل والتدبر والعرفان والشكر؟
أما طريق الإنسان عبر هذه الحياة فهو مخير في السير بين طريقين لا ثالث لهما ، ونحن نعتبر ذلك من رحمة الله به : (إنا هديناه السبيل ؛ إما شاكرا وإما كفورا) (3)
أما نتيجة الاختبار والاختيار فتظهر فورا في الدنيا ثم في الآخرة:
# فمن اختار طريق الجُحُود والإعراض عن الله ؛ (فمن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) (طه ، 124)
(إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا) (الإنسان 4)
# ومن سار على طريق الهداية؛ (... فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يَشْقَى) (طه ، 123)
(إن الأبرار يشربون من كأسٍ كان مزاجها كَافورا ، عينا يشربُ بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) (الإنسان ، 5-6).
ولكن بما استحق الأبرار هذا الفوز بالمعيشة الطيبة في الدنيا وبالجنة في الآخرة؟
لعلاقة خاصة بينهم وبين ربهم سبحانه قوامها:
<!--الوفاء بالنذر لله
<!--- الخوف من الله ومن أهوال يوم القيامة
<!--إطعامهم الطعام لفئات من ضعفاء المجتمع (من اليتامى والمساكين والأسرى ) رغم حبهم لهذا الطعام وحاجتهم إليه لكنهم يفعلون ذلك ابتغاء وجه الله الكريم ودون انتظار لجزاء أو حتى لكلمة شكر من أحد من المخلوقين:
<!--((يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) (الإنسان من 7-10).
فما هي نتيجة هذه العلاقة الخاصة بربهم والعطاء لمجتمعاتهم؟
<!--يذهب الله الخوف من قلوبهم ويقيهم من أهوال يوم القيامة
تغمر أسارير وجوههم النضارة ويملأ قلوبهم السرور
<!--وتكون الجنة هي نزلهم ولباسهم فيها حرير
<!--(فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم ندرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) (11-12))
ولكن ما هي مواصفات هذا النُزُل؟
طالع الآيات من 13-22)
ومتع قلبك ونفسك وعينك بمواصفات نعيم أهل الجنة (وادعُ الله أن نكون منهم)
<!--- طالع مجالسهم (متكئين فيها على الأرائك...) (12)، (على سُرُر موضونة متكئين عليها متقابلين) (الواقعة ،
<!--15-16) وموضونة أي منسوجة بالذهب.
<!--- الجو المحيط بهم (... لا يَرَوْنَ فيها شمسا ولا زَمْهَرِيرا ، ودانيةً عليهم ظِلالُها )
<!--- نظام طعامهم وشرابهم (وذللت قطوفها تذليلا، ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب)
<!--أنواع وأشكال الأواني والأكواب وطعوم الكؤوس المقدمة لهم ، والتي يقدرها الساقون وفقا لرغبة الطاعمين والشاربين ( - ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا ، قوارير من فضة قدروها تقديرا، وُيْسَقوَنَ فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ، عينا فيها تسمى سلسبيلا)
<!--الغلمان الذين يطوفون عليهم ؛ حيث يطوف عليهم - للبهجة والسرور - غلمان دائمون على حالهم، إذا أبصرتهم عند طوافهم بخفة ونشاط - لحسنهم وصفاء ألوانهم - لؤلؤا منثورا مضيئا حولك(المنتخب في تفسير القرآن الكريم) ؛ (ويطوف عليهم ولدان مخلدون ، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا)
<!--ومتع ناظريك بحجم وضخامة النعيم والمُلْك الممنوح لهم (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا)
<!--وألوان وأشكال الثياب والأساور التي يلبسونها (عاليهم ثياب سندسٍ خضرٍ وإستبرق وحلوا أَساورَ من فضة)
وتخيل مذاق هذا الشراب الطهور الذي أُعِدَ لهم خصيصا حفاوة بهم من ربهم (وسقاهم ربهم شرابا طهورا)
ثم استمع إلى هذا الشكر والتقدير والعرفان والتكريم الذي يَتَجِه بالخطاب مباشرة إلى هؤلاء الأبرار: (إن هذا كان لكم جزاءا وكان سعيكم مشكورا)
وانظر إلى رحمة وفضل الرب الكريم ؛ فهو الذي خلق هؤلاء الأبرار وهو الذي ألهمهم السير في طريق الرشاد ووفقهم إلى هذه الأعمال الصالحة ونجاهم من أهوال يوم القيامة ومن دخول النار واختارهم للفوز بالجنة وأعد لهم كل هذا النعيم بها ثم هو يحتفي بهم ويجازيهم ويشكرهم على سعيهم في الدنيا !!!
وأيضا قارن بين تواضع ما قاموا به من أعمال قياسا إلى هذا النعيم وهذه الحفاوة وهذا التكريم -كما وكيفا وزمنا-!!!
ولكن ما هو مفتاح الجنة؟ أو بمعنً آخر ما هي أقصر طريق توصلنا إليها؟
(وجزاهم بما صبروا جنةً وحريرا) (الإنسان ، 12)
ولو نظرت إلى معظم الآيات التي تتحدث عن الجنة للاحظت أنها تتحدث معها عن الصبر ، وعلى سبيل المثال لا الحصر؛
(إني جَزَيْتُهُم اليوم بما صبروا إنهم هم الفائزون) (المؤمنون ،111)
(... سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) (الرعد ، 24)
وسائل لتربية النفس حتى تستمر على طريق الإيمان في الدنيا إلى أن تفوز بالجَنَّة في الآخرة بإذن الله
-فاصبر لحكم ربك
ولا تُطِع منهم آثماً أو كفورا
<!--واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا
<!--ومن الليل فاسجد له
<!--وَسَبِحْهُ ليلا طويلا) (الإنسان ، 24-26).
ولكن ما هي العقبة الكبرى التي تحول دون اتباع هذه الوسائل وتعيق الآثمين والكافرين ِعن السير في الطريق المستقيم؟
أنهم يحبون الدنيا ويؤثرون الشهوات ويسيرون وفق هواهم ولا يفكرون في حساب ولا عقاب ولا في المستقبل الذي لا محالة هم سائرون إليه والذي لا يقارن بمعيشتهم في الدنيا ، ولو حالفهم التوفيق لجمعوا بين الخيرين ولفازوا بالحسنيين
على الرغم من أن الله هو الذي خلقهم وأحكم وأحسن خلقهم ولو شاء سبحانه لاستبدلهم بأناس يطيعونه ويعبدونه ؛ (إن هؤلاء يحبون العاجلةَ وَيَذَرُون وراءهم يوماً ثقيلا ، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أَمثالَهم تبديلا) (27-28) .
وفي خاتمة السورة :
نلحظ خلاصة موجزة حيث تشير إلى أن سير الإنسان في طريق الهداية أو في طريق الغواية ، ونجاحه في تحقيق الغاية من وجوده في هذه الحياة أو فشله في ذلك يتوقف على 3 أمور :
<!--- قيام الرسل والدعاة والمصلحين بالتذكير بالله وبيان لمهمة الإنسان في هذه الحياة.
<!--- تفكير الإنسان في ذلك ومشيئته واختياره للسير إما في طريق الغواية ، وإما أن يتخذ إلى ربه سبيلا.
<!--- مشيئة الله القادرة المهيمنة التي تدخل المؤمنين الطائعين في رحمةِ الله ورضوانه في الدنيا والآخرة
أما الآثمين الظالمين فتجازيهم بالعذاب الأليم م جنس أعمالهم.
ونلحظ في الآيات أن النص القرآني قد قدم مَشيئةَ العبد على مشيئة الرب ليشير إلى أن الاختيار للإنسان ثم تأتي مشيئة الله العليم الحكيم فتجازي كل فريق على اختياره كما سبق الإشارة
وهكذا تقدم سورة الإنسان خارطة طريق واضحة المعالم والخطوات ، لي، ولك، ولكل إنسان؛
بداية خلقه ، الغاية من وجوده والمهام المطلوبة منه ، الوسائل لتحقيق هذه الغاية ، والطريقين الذين سيسير فيهما بمحض اختياره ، العقبات التي ستصادفه ، الزاد الذي سيحتاج إليه على هذا الطريق، والذي سيتوقف عليه في النهاية مصيره وفقا لسعيه وعمله .
فاللهمَّ اهدنا إلى الطريق المستقيم ووفقنا للفوز بجنات النعيم ، واجعلنا وأحبابنا في الفردوس الأعلى برفقة النبيين والصدقين والشهداء والصالحين ، ومتعنا بفضلك بالنظر إلى وجهك الكريم إنك أنت الوهاب الجواد وأنت الغفور الرحيم.
ساحة النقاش