هو فارس بن يوسف بن منصور الشدياق، من طائفة الموارنة. ولقب الشدياق من ألقاب الشرف التي تطلق على كبار القوم من المتعلمين والكتاب الذين يرتفعون عن طبقة الأميين.
ولد فارس الشدياق في قرية صغيرة من قرى لبنان تسمى (عشقوت) سنة 1805، انتقلت أسرته إلى قرية الحدث القريبة من بيروت سنة 1809، ثم دخل مدرسة (عين ورقة) التي تعلم فيها بطرس البستاني، ورشيد الدحداح، فكان ثالث ثلاثة من رواد النهضة الأدبية في القرن التاسع عشر تلقوا العلم في هذه المدرسة المارونية التي كانت تعلم العربية والسريانية وعلوم البلاغة والمنطق واللاهوت.
اشتغل فارس الشدياق بنسخ الكتب لنفسه أو لغيره، وصارت له بهذا شهرة واسعة فاستدعاه الأمير حيدر الشهابي أحد الأمراء الشهابيين ومؤلف التاريخ المشهور، وكلفه نسخ تاريخه وتقلبت به الأعمال بين عمل وفراغ، إلى أن حدثت لأخيه وأستاذه أسعد الشدياق حادثة كانت الشرارة الأولى في تغيير مجرى حياته... فقد تحول أسعد من مذهبه الماروني إلى المذهب الإنجيلي، وقد أثار هذا التحول سخط البطريرك الماروني على أخيه، فنفاه إلى (دير قنوبين) سجيناً معذباً حتى قضى نحبه وهو في ريعان شبابه. وكان لهذا الحادث أثره في نفس فارس، فكره الحياة في لبنان الذي بلغ من التعصب الطائفي هذا المبلغ، فشد الرحال إلى مصر سنة 1825، وبدعوة من المرسلين الأمريكان الذين دعوه ليعلمهم العربية، وكأنهم بذلك أرادوا أن يطيبوا خاطره نظير ما لقيه أسعد بسبب اعتناقه لمذهبهم.
وأسعد الشدياق هذا شقيق فارس يكبره بسبع سنوات، وهو من تلاميذ مدرسة عين ورقة أيضاً، كان يجيد السريانية والعربية واللاتينية والإيطالية والمنطق واللاهوت والخطابة والطبيعيات، وقد شارك في تكوين أحمد فارس الشدياق اللغوي والنحوي.
أتاحت الإقامة بمصر لفارس الشدياق أن يتلقى اللغة والأدب والنحو والبلاغة والصرف والشعر على بعض علمائها وخاصة الشاعر الأديب الشيخ محمد شهاب الدين الذي كان مقرباً إلى بيت محمد علي، وقد أعانه هذا على أن يعين محرراً في جريدة (الوقائع المصرية)، وكان بالإضافة إلى تصحيح لغتها يشارك في تحرير القسم العربي بقلمه وبعبارته المرسلة الرصينة التي كانت جديدة على أهل ذلك الزمان. وفي مصر زادت حصيلة معارفه اللغوية والأدبية والشعرية، فقرأ صحاح الجوهري، وديوان أبي الطيب المتنبي وغيرهما. وكانت سنه حين جاء إلى مصر عشرين عاماً فاستطاع في التسع سنوات التي أقامها فيها أن يكون نفسه في اللغة والأدب تكويناً سليماً على أساس متين.
في سنة 1834 دعاه الأمريكان إلى مالطة لغرضين أولهما: التعليم في مدارسهم هناك، وثانيهما: تصحيح ما يصدر من مطبعتهم من كتب عربية. وهناك أخذت ميوله وعواطفه تتجه نحو المذهب الإنجيلي الذي اعتنقه شقيقه من قبل في لبنان... وكان هذا التحول في نظره انتقاماً لما حدث لأخيه على يد الموارنة. وقد ظل في مالطة أربعة عشر عاماً حتى سنة 1848. ومن أهم ما ألفه فيها من الكتب كتابه (الواسطة في معرفة مالطة)، وهو أول ما كتبه في الرحلات.
قامت للشدياق شهرة أدبية لغوية وخاصة في أوساط المرسلين، ففي سنة 1848 دعته جمعية (ترجمة الأسفار المقدسة) إلى إنجلترا ليسهم في ترجمة هذه الأسفار أو على الأصح في ضبطها وتنقيحها تحت إشراف المستشرق الدكتور (لى)، فلبى الدعوة وبدأ العمل، وأتاحت له هذه المهمة أن يطيل التجوال في إنجلترا وفرنسا، وأن يتعرف إلى ريفهما وحضرهما، وأن يدرس عن كثب أحوالهما وأخلاق أهلهما، وأن يتعلم الإنجليزية والفرنسية ويقرأ أعلامهما، وأن يقرأ في صحفهما ومجلاتهما العلمية والأدبية. وقد أعانه ذلك على أن يؤلف كتابه الثاني في أدب الرحلات، وهو (كشف المخبا، عن فنون أوروبا)، كما ألف كتابه الرائع (الساق على الساق، فيما هو الفارياق).وفي سنة 1853 كانت مدحته الشعرية للسلطان العثماني عبد المجيد بمناسبة الحرب بين روسيا وتركيا، وهي قصيدة تزيد على مائة وثلاثين بيتاً، وقد نظمها وبعث بها من لندن.
جاءت إلى الشدياق دعوتان استجابة للمدائح الشعرية، الأولى لزيارة الأستانة بدعوة من السلطان عبد المجيد، والثانية من أحمد باي تونس الذي دعاه لزيارته والإقامة معه في تونس لقاء القصيدة التي مدحه بها الشدياق وبعث بها إليه من باريس تقديراً لمبراته وخيراته التي وزعها على فقراء مرسيليا وباريس في أثناء زيارته لهما، ولبى الشدياق دعوة باي تونس سنة 1857 الذي بعث إليه بسفينة خاصة تقله إليه.
وفي تونس، ونتيجة لتبحره في علوم الأديان ودراسته اللاهوت المسيحي واطلاعه على عقائد الإسلام، ومعايشته لأحوال الأمم الإسلامية والمسيحية في الشرق والغرب على حد سواء اعتنق الشدياق الإسلام وتسمى باسم أحمد فارس الشدياق، بل أضيف إلى اسمه لقب (الشيخ) الذي اشتهر به في العالم العربي الإسلامي، وتكنى بأبي العباس.
لم يطل مقام الشيخ أحمد فارس الشدياق بتونس على الرغم من قربه من الباي وتوليه هناك أعلى المناصب، فلما كررت الأستانة دعوته إليها غادر تونس ملبياً دعوة السلطان، وهناك ألحق بديوان الترجمة وتولى تصحيح بعض المطبوعات.
في سنة 1860 أنشأ الشدياق صحيفة أسماها (الجوائب) وهي صحيفة سياسية أسبوعية تصدر من الأستانة وتطبع في المطبعة السلطانية، وفي 1870 أنشأ لها الشدياق مطبعة خاصة بها تسمى مطبعة الجوائب. وقد نالت صحيفة الجوائب شهرة في العالم الإسلامي لم تنلها صحيفة سواها منذ إنشاء الصحافة العربية. فأقبل السلاطين والملوك ورؤساء الحكومات العربية الإسلامية عليها، كما كان المفكرون يتهافتون على قراءتها، وبلغت من حسن التبويب والإتقان وبراعة التحرير وجودة الأساليب حداً جعلها أكبر صحف ذلك العهد وأوسعها انتشاراً، كما كانت مطبعتها الخاصة المسماة مطبعة الجوائب من أشهر المطابع في الأستانة والمشرق العربي. وقد أمدت المكتبة العربية بسيل من المطبوعات التي شاركت في إحياء التراث العربي، واشتهرت بين عشاق الكتب بجمال حروفها، وحسن إخراجها، ودقة تصحيحها، حتى كادت مطبوعاتها تداني المطبعة الأميرية ببولاق من هذه النواحي.
أما مكانة الجوائب بين الصحافة العربية والعالمية فيكفي للتدليل عليها أن صحافة الغرب كانت تنقل عنها وتستشهد بها في معرض الحديث عن سياسة الشرق، كما كانت تلقب صاحبها فارس الشدياق (بالسياسي الشهير)، (والصحافي الطائر الصيت). والحق أن صلته الوثيقة بالسلطان العثماني وبرؤساء البلاد العربية والإسلامية جعلت صحيفة الجوائب مركزاً هاماً لسياسة الشرق حقبة من الزمان.
ولم تكتف الجوائب بمركزها السياسي وبمنبرها الشرقي الذي كانت تُسمع منه أجهر الأصوات، بل أضافت إلى ذلك ميدانها الأدبي ومعرضها الحامي في الجدل والمناظرات. وكثيراً ما قامت فيها المعارك الأدبية بين رجال من أمثال: الشيخ إبراهيم اليازجي، والشيخ سعد الشرتوني، والدكتور لويس الصابوني، والكونت رشيد الدحداح، والشيخ إبراهيم الأحدب، وبطرس البستاني وغيرهم، وكان المرحوم عبد الله فكري الأديب والشاعر المصري ينشر فيها بعض مقالاته وطرائفه.
في سنة 1886 جاء الشدياق إلى مصر زائراً بعد أن تعطلت (جوائبه)، وعاد إلى الأستانة فكانت تلك العودة آخر أسفاره في الدنيا، فقد وافته منيته يوم 20 أيلول سنة 1887، وكان قد أوصى أن يدفن في وطنه، وأن تكون أول أرض مس جسمه ترابها هي آخر أرض يطويه فيها التراب.
ويظهر أن التنقل والرحل التي كانت ملازمة للشدياق في حياته ظلت تصاحب جسده بعد مماته فقد حنط جسمه ووضع في تابوت من الرصاص مغلف بآخر من خشب الجوز الثمين، ثم أودع في القصر الذي مات فيه بالمصيف، ثم نقل إلى قصر ولده سليم (ابنه البكر) الذي كان مجاوراً لمبنى نظارة المعارف في استانبول، ثم نقل بعد أيام إلى لبنان حيث دفن في مسقط رأسه (الحدث) مع أجساد الموتى من أسرته ، ثم نقل بعد ذلك إلى مقبرة خاصة في محلة (الحازمية) قرب مدينة بيروت، حيث ابتاع له أهله أرضاً ليدفن هناك.
لقد كانت جنازة الشدياق في الأستانة موكباً رائعاً جمع بين رجال العلم وأقطاب السياسة وأرباب الأقلام، وأصحاب السيوف، ومشايخ الإسلام، وأرباب الطرق الصوفية، ورجال الأديان والصدور العظام فكان مشهداً فخماً رائعاً قلما شهدت الأستانة مثله. وكانت جنازته في بيروت في الخامس من تشرين الأول موكباً فخماً رائعاً سار فيه العلماء والعظماء ورجال الدين، وعلى رأسهم الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت... في مشهد عظيم وصلي عليه في الجامع العمري الكبير.
كان فارس الشدياق من أركان النهضة الأدبية العلمية في القرن التاسع عشر، وقد ترك عدداً من المؤلفات: أولاـ المطبوعة:
ـ (سر الليال في القلب والإبدال)، كتاب في اللغة.
ـ كتاب (الجاسوس على القاموس)، وهو كتاب نقد فيه كتاب (القاموس المحيط) للفيروز أبادي.
ـ كتاب (الساق على الساق، فيما هو الفارياق)، في اللغة والأدب والتحليل ووصف الخطرات والنوازع، والسيرة الذاتية، وأدب الرحلات، كل ذلك وغيره على أسلوب لا عهد للعربية به.
ـ كتاب (الواسطة في معرفة أحوال مالطة)، وهو وصف رحلته إلى جزيرة مالطة.
ـ كتاب (كشف المخبا، عن فنون أوروبا).
ـ كتاب (اللفيف، في كل معنى ظريف)، وهو من كتب المختارات في الأدب والحكمة والأمثال والحكايات التهذيبية والنكات اللغوية والمترادفات.
ـ كتاب (غنية الطالب، ومنية الراغب)، كتاب مدرسي في علوم الصرف والنحو.
ـ قصيدة في مدح أحمد باشا باي تونس.
ـ المقالة البخشيشية، أو السلطان بخشيش.
ـ شرح طبائع الحيوان، وهو مترجم عن الإنجليزية.
ـ كنز اللغات، وهو معجم في اللغات الثلاث: الفارسية والتركية والعربية.
ـ خبرية أسعد الشدياق، وهو الكتاب الذي روى فيه فارس الشدياق قصة تحول أخيه عن المذهب الماروني إلى المذهب البروتستانتي.
ـ كتاب (الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية).
ـ كتاب (المحاورة الأنسية، في اللغتين الإنكليزية والعربية).
ـ كتاب (سند الراوي، في الصرف الفرنساوي).
ثانياً: المؤلفات المخطوطة:
ـ (منتهى العجب، في خصائص لغة العرب).
ـ (المرآة في عكس التوراة)، أفرغه في قالب بديع لم ينسج أحد على منواله، وقد شرع في إنشائه على أثر ترجمته للتوراة في لندن.
ـ النفائس في إنشاء أحمد فارس.
ـ له ديوان شعر من نظمه يشتمل على اثنتين وعشرين ألف بيت.
ساحة النقاش